الباحث القرآني

قوله تعالى: ﴿وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ الآية. قد ذكرنا السجود يكون على نوعين: سجود هو عبادة؛ كسجود المسلمين لله، وسجود هو خضوع واستكانة؛ وهو سجود ما [لا] [[إضافة يقتضيها السياق ليستقيم المعنى، ويؤيده ثبوتها في تفسيره "الوسيط" تحقيق سيسي 2/ 400.]] يعقل وسجود الجمادات، فإن هذه الأشياء بما فيها من الدلالة على الحاجة إلى مُدَبَّر وصانع ساجدة؛ أي خاضعة متذللة، وقال: ﴿مَا فِي السَّمَاوَاتِ﴾ لأن (ما) و (من) يتعاقبان، و (ما) أعمّ من (من) ألا ترى أنه قد قال في أخرى: ﴿وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا﴾ [الرعد: 15]. وقوله تعالى: ﴿مِنْ دَابَّةٍ﴾ قال الفراء: دخل (من) هاهنا؛ لأن (ما) مُبْهم، فلو أسقطت (من) لأشبه أن تكون الدابة حالاً لها، فأدخل (من) ليدُلّ [[في (أ)، (د): (البدل)، والمثبت من (ش)، (ع)، وهو الصواب، يستقيم به المعنى، ويؤيده المصدر.]] على أنه تفسير لـ (ما) [[في (ش)، (ع): (لها).]]، ومثل هذا كثير في كتاب الله؛ قال تعالى: ﴿مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ﴾ [النساء: 79]، وقال: ﴿وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ﴾ [النساء: 124]، وقال: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ﴾ [النحل: 48] لم يقل في شيء منه بطرح (مِنْ)؛ لما ذكرنا من أنّ (ما) و (مِنْ) غير مؤقّتتين [[أي: غير محددتين.]]، ومثله قول الشاعر: فثبتَ اللهُ ما آتاك من حَسَنٍ ... وحيثُ ما يقض أمرًا صالحًا يكن [[ورد غير منسوب في "معاني القرآن" للفراء 2/ 103 بخلاف في رواية الصدر: حاز لك الله ما آتاك من حَسَنٍ]] وقال آخر: عُمْرًا حَييت ومَن يشناك من أحد ... يَلْق الهوان ويلق الذُلَّ والغِيَرا [[ورد غير منسوب في "معاني القرآن" للفراء 2/ 103.]] فدلّ مجيء (من) على أنه لم يرد أن يكون ما جاء من النكرات حالاً للأسماء التي قبلها، ودلَّ على أنه مُترجِم على معنى (مَن) و (مَا)، ومثل هذا قوله: ﴿وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْء﴾ [سبأ: 39]؛ لأن الشيء لا يكون حالاً، ولكنه مترجم، فأمَّا قولهم: لله دَرُّه رجلاً [[ورد في "جمهرة الأمثال" 2/ 210، وانظر: "مجمع الأمثال" 2/ 190، و"اللسان" (عجب) 5/ 2812، (درر) 3/ 1356، وورد برواية: (لله درُّك)، والأصل فيه أن الرجل إذا كَثُر خيرُه وعطاؤهُ قيل له ذلك، إشادةً وتعجبًا، ثم قيل لكل مُتَعَجبٌ منه.]]، فالرجلُ مترجِم لما قبله وتفسير وليس بحال، إنّما الحال الذي ينتقل؛ مثل القيام والقعود، وجاز سقوط (مِنْ) في هذا الموضع [[أي في المثل؛ لأن أصله أن يقال: لله درُّه من رجل.]]؛ لأن الذي قبله مؤقت، فجاز أن يُذكرَ بطرح (مِن) كالحال [["معاني القرآن" للفراء 2/ 103 - 104، نقل طويل تصرف فيه بالتقديم والتأخير، والاختصار والتهذيب، والتمثيل والتوضح.]]، وقال الأخفش في قوله: ﴿مِنْ دَابَّةٍ﴾ يريد: (من الدواب، واجتزأ بالواحد؛ كما تقول: ما أتاني من رجل مثله [[أي: ما أتاني من الرجال مثله، فأفاد الإفراد معنى الجمع. "معاني القرآن" للأخفش 2/ 606، بنصه.]]، وقال ابن عباس في قوله: ﴿مِنْ دَابَّةٍ﴾) [[ما بين القوسين ساقط من (أ)، (د).]]: يريد كلَّ ما [[في جميع النسخ: كلما، وهو تصحيف ظاهر.]] دَبَّ على الأرض [[انظر: "تفسير الفخر الرازي" 20/ 44، وأبي حيان 5/ 498، و"تفسير القرطبي" 10/ 112، بلا نسبة.]]. وقوله تعالى: ﴿وَالْمَلَائِكَةُ﴾ أخرجهم بالذكر تخصيصًا وتفصيلاً؛ كقوله: ﴿فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ﴾ [[يقصد ذكر الخاص بعد العام؛ فذكر الفاكهة عمومًا، ثم فصل في أنواعها وخص من الأنواع النخل والرمان.]] [الرحمن: 68]، وقوله تعالى: ﴿لَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ﴾ [[وهنا كذلك، أجمل الملائكة، ثم فصَّلهم وخصّ منهم جبريل وميكال بالذكر.]] [البقرة: 98] وقال الزجاج: المعنى: ولله يسجد ما في السموات من الملائكة، وما في الأرض من دابة والملائكة؛ أي: وتسجد ملائكة الأرض [["معاني القرآن وإعرابه" 3/ 202، بنصه.]]، وفي الأرض ملائكة موكلون بالعباد [[لقوله تعالى: ﴿مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ﴾ [ق:18]، وغيرها من الأدلة.]]، وقيل: إنما ذكرهم على التخصيص لخروجهم من صفة الدبيب بما جعل لهم من الأجنحة [[ورد في "تفسير الثعلبي" 2/ 158 أ، بنحوه، و"تفسير الماوردي" 3/ 192، بنحوه، وانظر: "تفسير البغوي" 5/ 23، وابن الجوزي 4/ 454، و"تفسير القرطبي" 10/ 113.]]، والله أعلم. وقوله تعالى: ﴿وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ﴾ قال ابن عباس: يريد عن عبادة الله [[انظر: "تفسير القرطبي" 10/ 113، وابن كثير 2/ 630، وأبي السعود 5/ 119 ، و"الشوكاني" 3/ 238، و"تفسير الألوسي" 14/ 158، كلها بلا نسبة.]]، وهذا صفة من يسجد لله سجود عبادة، فأما من له سجود الخضوع دون سجود العبادة، فمعنى لا يستكبرون في صلتهم أنهم يذعنون للخالق والصانع بالتسخير والتذليل وما فيهم من الضرورة إلى صانع فطرهم وخلقهم وأنشأهم ودبَّرهم، ويجوز أن يكون قوله: ﴿وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ﴾ من صفة الملائكة خاصة [[ورد في "تفسير مقاتل" 1/ 203 ب، بنحوه، وهود الهواري 2/ 373، بمعناه، وانظر: "تفسير ابن الجوزي" 4/ 454، و"الشوكاني" 3/ 238.]]؛ لأن الآية التي بعد هذا تختص بصفتهم.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب