الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿لَمْ يَلِدْ ولَمْ يُولَدْ﴾ فِيهِ سُؤالاتٌ: السُّؤالُ الأوَّلُ: لِمَ قُدِّمَ قَوْلُهُ: ﴿لَمْ يَلِدْ﴾ عَلى قَوْلِهِ: ﴿ولَمْ يُولَدْ﴾ مَعَ أنَّ في الشّاهِدِ يَكُونُ أوَّلًا مَوْلُودًا، ثُمَّ يَكُونُ والِدًا ؟ الجَوابُ: إنَّما وقَعَتِ البَداءَةُ بِأنَّهُ لَمْ يَلِدْ؛ لِأنَّهُمُ ادَّعَوْا أنَّ لَهُ ولَدًا، وذَلِكَ لِأنَّ مُشْرِكِي العَرَبِ قالُوا: المَلائِكَةُ بَناتُ اللَّهِ، وقالَتِ اليَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ، وقالَتِ النَّصارى المَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ، ولَمْ يَدَّعِ أحَدٌ أنَّ لَهُ والِدًا فَلِهَذا السَّبَبِ بَدَأ بِالأهَمِّ فَقالَ: ﴿لَمْ يَلِدْ﴾ ثُمَّ أشارَ إلى الحُجَّةِ فَقالَ: ﴿ولَمْ يُولَدْ﴾ كَأنَّهُ قِيلَ: الدَّلِيلُ عَلى امْتِناعِ الوَلَدِيَّةِ اتِّفاقُنا عَلى أنَّهُ ما كانَ ولَدًا لِغَيْرِهِ. السُّؤالُ الثّانِي: لِماذا اقْتَصَرَ عَلى ذِكْرِ الماضِي فَقالَ: ﴿لَمْ يَلِدْ﴾ ولَمْ يَقُلْ: لَنْ يَلِدَ ؟ الجَوابُ: إنَّما اقْتَصَرَ عَلى ذَلِكَ لِأنَّهُ ورَدَ جَوابًا عَنْ قَوْلِهِمْ ولَدَ اللَّهُ، والدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ألا إنَّهم مِن إفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ﴾ ﴿ولَدَ اللَّهُ﴾ [الصافات: ١٥١] فَلَمّا كانَ المَقْصُودُ مِن هَذِهِ الآيَةِ تَكْذِيبَ قَوْلِهِمْ وهم إنَّما قالُوا ذَلِكَ في الماضِي، لا جَرَمَ ورَدَتِ الآيَةُ عَلى وفْقِ قَوْلِهِ. السُّؤالُ الثّالِثُ: لِمَ قالَ هَهُنا: ﴿لَمْ يَلِدْ﴾ وقالَ في سُورَةِ بَنِي إسْرائِيلَ: ﴿ولَمْ يَتَّخِذْ ولَدًا﴾ [الإسراء: ١١١] ؟ الجَوابُ: أنَّ الوَلَدَ يَكُونُ عَلى وجْهَيْنِ: أحَدُهُما: أنْ يَتَوَلَّدَ مِنهُ مِثْلُهُ وهَذا هو الوَلَدُ الحَقِيقِيُّ. والثّانِي: أنْ لا يَكُونَ مُتَوَلِّدًا مِنهُ ولَكِنَّهُ يَتَّخِذُهُ ولَدًا ويُسَمِّيهِ هَذا الِاسْمَ، وإنْ لَمْ يَكُنْ ولَدًا لَهُ في الحَقِيقَةِ، والنَّصارى فَرِيقانِ: مِنهم مَن قالَ: عِيسى ولَدُ اللَّهِ حَقِيقَةً، ومِنهم مَن قالَ: إنَّ اللَّهَ اتَّخَذَهُ ولَدًا تَشْرِيفًا لَهُ، كَما اتَّخَذَ إبْراهِيمَ خَلِيلًا تَشْرِيفًا لَهُ، فَقَوْلُهُ: ﴿لَمْ يَلِدْ﴾ فِيهِ إشارَةٌ إلى نَفْيِ الوالِدِ في الحَقِيقَةِ، وقَوْلُهُ: ﴿لَمْ يَتَّخِذْ ولَدًا﴾ إشارَةٌ إلى نَفْيِ القِسْمِ الثّانِي، ولِهَذا قالَ: ﴿لَمْ يَتَّخِذْ ولَدًا ولَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ في المُلْكِ﴾ لِأنَّ الإنْسانَ قَدْ يَتَّخِذُ ولَدًا لِيَكُونَ ناصِرًا ومُعِينًا لَهُ عَلى الأمْرِ المَطْلُوبِ، ولِذَلِكَ قالَ في سُورَةٍ أُخْرى: ﴿قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ ولَدًا سُبْحانَهُ هو الغَنِيُّ﴾ [يونس: ٦٨] وإشارَةٌ إلى ما ذَكَرْنا أنَّ اتِّخاذَ الوَلَدِ إنَّما يَكُونُ عِنْدَ الحاجَةِ. السُّؤالُ الرّابِعُ: نَفْيُ كَوْنِهِ تَعالى والِدًا ومَوْلُودًا، هَلْ يُمْكِنُ أنْ يُعْلَمَ بِالسَّمْعِ أمْ لا، وإنْ كانَ لا يُمْكِنُ ذَلِكَ فَما الفائِدَةُ في ذِكْرِهِ هَهُنا ؟ الجَوابُ: نَفِيُ كَوْنِهِ تَعالى والِدًا مُسْتَفادٌ مِنَ العِلْمِ بِأنَّهُ تَعالى لَيْسَ بِجِسْمٍ ولا مُتَبَعِّضٍ ولا مُنْقَسِمٍ، ونَفْيُ كَوْنِهِ تَعالى مَوْلُودًا مُسْتَفادٌ مِنَ العِلْمِ بِأنَّهُ تَعالى قَدِيمٌ، والعِلْمُ بِكُلِّ واحِدٍ مِن هَذَيْنِ الأصْلَيْنِ مُتَقَدِّمٌ عَلى العِلْمِ بِالنُّبُوَّةِ والقُرْآنِ، فَلا يُمْكِنُ أنْ يَكُونا مُسْتَفادَيْنِ مِنَ الدَّلائِلِ السَّمْعِيَّةِ، بَقِيَ أنْ يُقالَ: فَلَمّا لَمْ يَكُنِ اسْتِفادَتُهُما مِنَ السَّمْعِ، فَما الفائِدَةُ في ذِكْرِهِما في هَذِهِ السُّورَةِ ؟ قُلْنا: قَدْ بَيَّنّا أنَّ المُرادَ مِن كَوْنِهِ أحَدًا كَوْنُهُ سُبْحانَهُ في ذاتِهِ وماهِيَّتِهِ مُنَزَّهًا عَنْ جَمِيعِ أنْحاءِ التَّراكِيبِ، وكَوْنُهُ تَعالى صَمَدًا مَعْناهُ كَوْنُهُ واجِبًا لِذاتِهِ مُمْتَنِعَ التَّغَيُّرِ في ذاتِهِ وجَمِيعِ صِفاتِهِ، وإذا كانَ كَذَلِكَ فالأحَدِيَّةُ والصَّمَدِيَّةُ يُوجِبانِ نَفْيَ الوَلَدِيَّةِ (p-١٦٩)والمَوْلُودِيَّةِ، فَلَمّا ذَكَرَ السَّبَبَ المُوجِبَ لِانْتِفاءِ الوالِدِيَّةِ والمَوْلُودِيَّةِ، لا جَرَمَ ذَكَرَ هَذَيْنِ الحُكْمَيْنِ، فالمَقْصُودُ مِن ذِكْرِهِما تَنْبِيهُ اللَّهِ تَعالى عَلى الدَّلالَةِ العَقْلِيَّةِ القاطِعَةِ عَلى انْتِفائِهِما. السُّؤالُ الخامِسُ: هَلْ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿لَمْ يَلِدْ ولَمْ يُولَدْ﴾ فائِدَةٌ أزْيَدُ مِن نَفِيِ الوَلَدِيَّةِ ونَفِيِ المَوْلُودِيَّةِ ؟ قُلْنا: فِيهِ فَوائِدُ كَثِيرَةٌ، وذَلِكَ لِأنَّ قَوْلَهُ: (اللَّهُ أحَدٌ) إشارَةٌ إلى كَوْنِهِ تَعالى في ذاتِهِ وماهِيَّتِهِ مُنَزَّهًا عَنِ التَّرْكِيبِ، وقَوْلُهُ: ﴿اللَّهُ الصَّمَدُ﴾ إشارَةٌ إلى نَفْيِ الأضْدادِ والأنْدادِ والشُّرَكاءِ والأمْثالِ، وهَذانَ المَقامانِ الشَّرِيفانِ مِمّا حَصَلَ الِاتِّفاقُ فِيهِما بَيْنَ أرْبابِ المِلَلِ والأدْيانِ، وبَيْنَ الفَلاسِفَةِ، إلّا أنَّ مِن بَعْدِ هَذا المَوْضِعِ حَصَلَ الِاخْتِلافُ بَيْنَ أرْبابِ المِلَلِ وبَيْنَ الفَلاسِفَةِ، فَإنَّ الفَلاسِفَةَ قالُوا: إنَّهُ يَتَوَلَّدُ عَنْ واجِبِ الوُجُودِ عَقْلٌ، وعَنِ العَقْلِ عَقْلٌ آخَرُ ونَفْسٌ وفَلَكٌ، وهَكَذا عَلى هَذا التَّرْتِيبِ حَتّى يَنْتَهِيَ إلى العَقْلِ الَّذِي هو مُدَبِّرٌ ما تَحْتَ كُرَةِ القَمَرِ، فَعَلى هَذا القَوْلِ يَكُونُ واجِبُ الوُجُودِ قَدْ ولَدَ العَقْلَ الأوَّلَ الَّذِي هو تَحْتَهُ، ويَكُونُ العَقْلُ الَّذِي هو مُدَبِّرٌ لِعالَمِنا هَذا كالمَوْلُودِ مِنَ العُقُولِ الَّتِي فَوْقَهُ، فالحَقُّ سُبْحانَهُ وتَعالى نَفى الوالِدِيَّةَ أوَّلًا، كَأنَّهُ قِيلَ: إنَّهُ لَمْ يَلِدِ العُقُولَ والنُّفُوسَ، ثُمَّ قالَ: والشَّيْءُ الَّذِي هو مُدَبِّرُ أجْسادِكم وأرْواحِكم وعالَمِكم هَذا لَيْسَ مَوْلُودًا مِن شَيْءٍ آخَرَ، فَلا والِدَ ولا مَوْلُودَ ولا مُؤَثِّرَ إلّا الواحِدُ الَّذِي هو الحَقُّ سُبْحانَهُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب