الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿لَمْ يَلِدْ ولَمْ يُولَدْ﴾ . تَقَدَّمَ لِلشَّيْخِ رَحْمَةُ اللَّهِ تَعالى عَلَيْنا وعَلَيْهِ، بَيانُ شَواهِدِهِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ والأرْضِ ولَمْ يَتَّخِذْ ولَدًا ولَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ في المُلْكِ﴾ الآيَةَ [الفرقان: ٢] مِن سُورَةِ الإسْراءِ. * تَنْبِيهٌ فَفِي اتِّخاذِ الوَلَدِ لا يَسْتَلْزِمُ نَفْيَ الوِلادَةِ؛ لِأنَّ اتِّخاذَ الوَلَدِ قَدْ يَكُونُ بِدُونِ وِلادَةٍ كالتَّبَنِّي أوْ غَيْرِهِ، كَما في قِصَّةِ يُوسُفَ في قَوْلِهِ تَعالى عَنْ عَزِيزِ مِصْرَ: ﴿أكْرِمِي مَثْواهُ عَسى أنْ يَنْفَعَنا أوْ نَتَّخِذَهُ ولَدًا﴾ [يوسف: ٢١] . فَفِي هَذِهِ السُّورَةِ نَفْيٌ أخَصُّ، فَلَزِمَ التَّنْبِيهُ عَلَيْهِ في هَذِهِ السُّورَةِ الكَرِيمَةِ وهي سُورَةُ (p-١٥١)الإخْلاصِ. والَّتِي تَعْدِلُ ثُلُثَ القُرْآنِ لِاخْتِصاصِها بِحَقِّ اللَّهِ تَعالى في ذاتِهِ وصِفاتِهِ مِنَ الوَحْدانِيَّةِ والصَّمَدِيَّةِ، ونَفْيِ الوِلادَةِ والوَلَدِ، ونَفْيِ الكُفْءِ، وكُلُّها صِفاتُ انْفِرادٍ لِلَّهِ سُبْحانَهُ. وَقَدْ جاءَ فِيها النَّصُّ الصَّرِيحُ بِعَدَمِ الوِلادَةِ، وأنَّهُ سُبْحانَهُ وتَعالى لَمْ يَلِدْ ولَمْ يُولَدْ، فَهي أخَصُّ مِن تِلْكَ، وهَذا مِنَ المُسَلَّماتِ عِنْدَ المُسْلِمِينَ جَمِيعًا بِدُونِ شَكٍّ ولا نِزاعٍ ولَمْ يُؤَثِّرْ فِيها أيُّ خِلافٍ. وَلَكِنَّ غَيْرَ المُسْلِمِينَ لَمْ يُسَلِّمُوا بِذَلِكَ، فاليَهُودُ قالُوا: ﴿عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ﴾، والنَّصارى قالُوا: ﴿المَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ﴾، والمُشْرِكُونَ قالُوا: المَلائِكَةُ بَناتُ اللَّهِ. فاتَّفَقُوا عَلى ادِّعاءِ الوَلَدِ لِلَّهِ، ولَمْ يَدَّعِ أحَدٌ أنَّهُ سُبْحانَهُ مَوْلُودٌ. وَقَدْ جاءَتِ النُّصُوصُ الصَّرِيحَةُ في نَفْيِ الوَلَدِ عَنِ اللَّهِ سُبْحانَهُ وتَعالى، إلّا أنَّ مُجَرَّدَ النَّصِّ الَّذِي لَمْ يُؤْمِن بِهِ الخَصْمُ لا يَكْفِي لِإقْناعِهِ، وفي هَذِهِ السُّورَةِ وهي المُخْتَصَّةُ بِصِفاتِ اللَّهِ، لَمْ يَأْتِ التَّنْوِيهُ فِيها عَنِ المانِعِ مِنِ اتِّخاذِ اللَّهِ لِلْوَلَدِ، ومِن كَوْنِهِ سُبْحانَهُ لَمْ يُولَدْ. وَلَمّا كانَ بَيانُ المانِعِ أوِ المُوجِبِ مِن مَنهَجِ هَذا الكِتابِ، إذا كانَ يُوجَدُ لِلْحُكْمِ مُوجِبٌ أوْ مانِعٌ ولَمْ تَتَقَدَّمِ الإشارَةُ إلى ذَلِكَ، فِيما تَقَدَّمَ مِن كَلامِ الشَّيْخِ رَحْمَةُ اللَّهِ تَعالى عَلَيْنا وعَلَيْهِ مَعَ أنَّهُ رَحِمَهُ اللَّهُ، قَدْ تَكَلَّمَ عَلى آياتِ الأسْماءِ والصِّفاتِ جُمْلَةً وتَفْصِيلًا، بِما يَكْفِي ويَشْفِي. وَلَكِنْ جاءَ في القُرْآنِ الكَرِيمِ ذِكْرُ ادِّعاءِ الوَلَدِ لِلَّهِ، سُبْحانَهُ وتَعالى عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا. وَجاءَ الرَّدُّ مِنَ اللَّهِ تَعالى مَعَ بَيانِ المانِعِ مُفَصَّلًا مَعَ الإشْعارِ بِالدَّلِيلِ العَقْلِيِّ، ولِذا لَزِمَ التَّنْوِيهُ عَلَيْهِ، وذَلِكَ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَقالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ ولَدًا سُبْحانَهُ بَلْ لَهُ ما في السَّماواتِ والأرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ﴾ ﴿بَدِيعُ السَّماواتِ والأرْضِ وإذا قَضى أمْرًا فَإنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ [البقرة: ١١٦ - ١١٧] . فَهَذا نَصٌّ صَرِيحٌ فِيما قالُوهُ: اتَّخَذَ اللَّهُ ولَدًا. (p-١٥٢)وَنَصٌّ صَرِيحٌ في تَنْزِيهِ اللَّهِ سُبْحانَهُ وتَسْبِيحِهِ عَمّا قالُوا. ثُمَّ جاءَ حَرْفُ الإضْرابِ عَنْ قَوْلِهِمْ: ﴿بَلْ لَهُ ما في السَّماواتِ والأرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ﴾، فَفِيهِ بَيانُ المانِعِ عَقْلًا مِنِ اتِّخاذِ الوَلَدِ بِما يَلْزَمُ الخَصْمَ، وذَلِكَ أنَّ غايَةَ اتِّخاذِ الوَلَدِ أنْ يَكُونَ بارًّا بِوالِدِهِ، وأنْ يَنْتَفِعَ الوالِدُ بِوَلَدِهِ. كَما في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿المالُ والبَنُونَ زِينَةُ الحَياةِ الدُّنْيا﴾ [الكهف: ٤٦]، أوْ يَكُونُ الوَلَدُ وارِثًا لِأبِيهِ كَما في قَوْلِهِ تَعالى عَنْ نَبِيِّ اللَّهِ تَعالى زَكَرِيّا عَلَيْهِ السَّلامُ: ﴿فَهَبْ لِي مِن لَدُنْكَ ولِيًّا﴾ ﴿يَرِثُنِي ويَرِثُ مِن آلِ يَعْقُوبَ﴾ الآيَةَ [مريم: ٥ - ٦] . واللَّهُ سُبْحانَهُ وتَعالى حَيٌّ باقٍ يَرِثُ ولا يُورَثُ كَما قالَ تَعالى: ﴿كُلُّ مَن عَلَيْها فانٍ﴾ ﴿وَيَبْقى وجْهُ رَبِّكَ﴾ الآيَةَ [الرحمن: ٢٦ - ٢٧] . وَقَوْلُهُ: ﴿وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ والأرْضِ﴾ [آل عمران: ١٨٠] . فَإذا كانَ لِلَّهِ سُبْحانَهُ وتَعالى كُلُّ ما في السَّماواتِ والأرْضِ في قُنُوتٍ وامْتِثالٍ طَوْعًا أوْ كَرْهًا، كَما قالَ تَعالى: ﴿وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أنْ يَتَّخِذَ ولَدًا﴾ ﴿إنْ كُلُّ مَن في السَّماواتِ والأرْضِ إلّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا﴾ [مريم: ٩٢ - ٩٣] . فَهُوَ سُبْحانَهُ وتَعالى لَيْسَ في حاجَةٍ إلى الوَلَدِ لِغِناهُ عَنْهُ. ثُمَّ بَيَّنَ سُبْحانَهُ قُدْرَتَهُ عَلى الإيجادِ والإبْداعِ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿بَدِيعُ السَّماواتِ والأرْضِ وإذا قَضى أمْرًا فَإنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ [البقرة: ١١٧] . وَهَذا واضِحٌ في نَفْيِ الوَلَدِ عَنْهُ سُبْحانَهُ وتَعالى. وَقَدْ تَمَدَّحَ سُبْحانَهُ في قَوْلِهِ: ﴿وَقُلِ الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ ولَدًا ولَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ في المُلْكِ ولَمْ يَكُنْ لَهُ ولِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا﴾ [الإسراء: ١١١] . أمّا أنَّهُ لَمْ يُولَدْ. فَلَمْ يَدَّعِ أحَدٌ عَلَيْهِ ذَلِكَ؛ لِأنَّهُ مُمْتَنِعٌ عَقْلًا، بِدَلِيلِ المُمانَعَةِ المَعْرُوفِ وهو كالآتِي: لَوْ تَوَقَّفَ وُجُودُهُ سُبْحانَهُ عَلى أنْ يُولَدَ لَكانَ في وُجُودِهِ مُحْتاجًا إلى مَن يُوجِدُهُ، ثُمَّ يَكُونُ مَن يَلِدُهُ في حاجَةٍ إلى والِدٍ، وهَكَذا يَأْتِي الدَّوْرُ والتَّسَلْسُلُ وهَذا باطِلٌ. (p-١٥٣)وَكَذَلِكَ فَإنَّ الحاجَةَ إلى الوَلَدِ بِنَفْيِها مَعْنى الصَّمَدِيَّةِ المُتَقَدِّمِ ذِكْرُهُ، ولَوْ كانَ لَهُ والِدٌ لَكانَ الوالِدُ أسْبَقَ وأحَقَّ، تَعالى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ. وَقَدْ يُقالُ: مِن جانِبِ المُمانَعَةِ العَقْلِيَّةِ لَوِ افْتُرِضَ عَلى حَدِّ قَوْلِهِ: ﴿قُلْ إنْ كانَ لِلرَّحْمَنِ ولَدٌ فَأنا أوَّلُ العابِدِينَ﴾ [الزخرف: ٨١] . فَنَقُولُ عَلى هَذا الِافْتِراضِ: لَوْ كانَ لَهُ ولَدٌ فَما مَبْدَأُ وُجُودِ هَذا الوَلَدِ وما مَصِيرُهُ ؟ فَإنْ كانَ حادِثًا فَمَتى حُدُوثُهُ ؟ وإنْ كانَ قَدِيمًا تَعَدَّدَ القِدَمُ، وهَذا مَمْنُوعٌ. ثُمَّ إنْ كانَ باقِيًا تَعَدَّدَ البَقاءُ، وإنْ كانَ مُنْتَهِيًا فَمَتى انْتِهاؤُهُ ؟ وَإذا كانَ مَآلُهُ إلى الِانْتِهاءِ فَما الحاجَةُ إلى إيجادِهِ مَعَ عَدَمِ الحاجَةِ إلَيْهِ، فانْتَفى اتِّخاذُ الوَلَدِ عَقْلًا ونَقْلًا، كَما انْتَفَتِ الوِلادَةُ كَذَلِكَ عَقْلًا ونَقْلًا. وَقَدْ أوْرَدَ بَعْضُ المُفَسِّرِينَ سُؤالًا في هَذِهِ الآيَةِ، وهو لِماذا قَدَّمَ نَفْيَ الوَلَدِ عَلى نَفْيِ الوِلادَةِ ؟ مَعَ أنَّ الأصْلَ في المَشاهَدِ أنْ يُولَدَ ثُمَّ يَلِدُ ؟ وَأجابَ بِأنَّهُ مِن تَقْدِيمِ الأهَمِّ لِأنَّهُ رَدٌّ عَلى النَّصارى في قَوْلِهِمْ: عِيسى ابْنُ اللَّهِ، وعَلى اليَهُودِ في قَوْلِهِمْ: ﴿عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ﴾، وعَلى قَوْلِ المُشْرِكِينَ: المَلائِكَةُ بَناتُ اللَّهِ، ولِأنَّهُ لَمْ يَدَّعِ أحَدٌ أنَّهُ سُبْحانَهُ مَوْلُودٌ لِأحَدٍ، فَكانَتْ دَعْواهُمُ الوَلَدَ لِلَّهِ فِرْيَةٌ عُظْمى. ا هـ. كَما قالَ تَعالى: ﴿كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِن أفْواهِهِمْ إنْ يَقُولُونَ إلّا كَذِبًا﴾ [الكهف: ٥] . وَقَوْلُهُ: ﴿وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ ولَدًا﴾ ﴿لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إدًّا﴾ ﴿تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنهُ وتَنْشَقُّ الأرْضُ وتَخِرُّ الجِبالُ هَدًّا﴾ ﴿أنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ ولَدًا﴾ [مريم: ٨٨ - ٩١] . فَلِشَناعَةِ هَذِهِ الفِرْيَةِ قَدَّمَ ذِكْرَها، ثُمَّ الرَّدُّ عَلى عَدَمِ إمْكانِها بِقَوْلِهِ: ﴿وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أنْ يَتَّخِذَ ولَدًا﴾ ﴿إنْ كُلُّ مَن في السَّماواتِ والأرْضِ إلّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا﴾ [مريم: ٩٢ - ٩٣] . وَقَدْ قَدَّمْنا دَلِيلَ المَنعِ عَقْلًا ونَقْلًا. (p-١٥٤)وَهُنا سُؤالٌ أيْضًا، وهو إذا كانَ ادِّعاءُ الوَلَدِ قَدْ وقَعَ، وجاءَ الرَّدُّ عَلَيْهِ: فَإنَّ ادِّعاءَ الوِلادَةِ لَمْ يَقَعْ، فَلِماذا ذَكَرَ نَفْيَهُ مَعَ عَدَمِ ادِّعائِهِ ؟ والجَوابُ واللَّهُ تَعالى أعْلَمُ: أنَّ مَن جَوَّزَ الوِلادَةَ لَهُ وأنْ يَكُونَ لَهُ ولَدٌ، فَقَدْ يُجَوِّزُ الوِلادَةَ عَلَيْهِ، وأنْ يَكُونَ مَوْلُودًا فَجاءَ نَفْيُها تَتِمَّةً لِلنَّفْيِ والتَّنْزِيهِ، كَما في حَدِيثِ البَحْرِ، كانَ السُّؤالُ عَنِ الوُضُوءِ مِن مائِهِ فَقَطْ، فَجاءَ الجَوابُ عَنْ مائِهِ ومَيْتَتِهِ؛ لِأنَّ ما احْتَمَلَ السُّؤالَ في مائِهِ يَحْتَمِلُ الِاشْتِباهَ في مَيْتَتِهِ. واللَّهُ تَعالى أعْلَمُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب