الباحث القرآني

(p-٣٦٩)سُورَةُ الإخْلاصِ مَكِّيَّةٌ في قَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ والحَسَنِ وعَطاءٍ وعِكْرِمَةَ وجابِرٍ، ومَدَنِيَّةٌ في أحَدِ قَوْلَيِ ابْنِ عَبّاسٍ وقَتادَةَ والضَّحّاكِ والسُّدِّيِّ. قَوْلُهُ تَعالى: ﴿قُلْ هو اللَّهُ أحَدٌ﴾ اخْتُلِفَ في سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الآيَةِ عَلى ثَلاثَةِ أقاوِيلَ: أحَدُها: «أنَّ اليَهُودَ قالُوا لِلنَّبِيِّ ﷺ هَذا اللَّهُ خَلَقَ الخَلْقَ، فَمَن خَلَقَ اللَّهُ؟ فَنَزَلَتْ هَذِهِ السُّورَةُ جَوابًا لَهم»، قالَهُ قَتادَةُ. الثّانِي: «أنَّ مُشْرِكِي قُرَيْشٍ قالُوا لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ انْسُبْ لَنا رَبَّكَ، فَأنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ السُّورَةَ، وقالَ: يا مُحَمَّدُ انْسُبْنِي إلى هَذا»، وهَذا قَوْلُ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ. الثّالِثُ: ما رَواهُ أبُو رَوْقٍ عَنِ الضَّحّاكِ «أنَّ المُشْرِكِينَ أرْسَلُوا عامِرَ بْنَ (p-٣٧٠)الطُّفَيْلِ» إلى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَقالُوا: قُلْ لَهُ شَقَّقْتَ عَصانا وسَبَّبْتَ آلِهَتَنا وخالَفْتَ دِينَ آبائِكَ، فَإنْ كُنْتَ فَقِيرًا أغْنَيْناكَ وإنْ كُنْتَ مَجْنُونًا داوَيْناكَ، وإنْ هَوَيْتَ امْرَأةً زَوَّجْناكَها، فَقالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: (لَسْتُ بِفَقِيرٍ ولا مَجْنُونٍ ولا هَوَيْتُ امْرَأةً، أنا رَسُولُ اللَّهِ إلَيْكم، أدْعُوكم مِن عِبادَةِ الأصْنامِ إلى عِبادَتِهِ، فَأرْسَلُوهُ ثانِيَةً وقالُوا لَهُ: قُلْ لَهُ بَيِّنْ لَنا جِنْسَ مَعْبُودِكَ، فَأنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ السُّورَةَ، فَأرْسَلُوهُ ثالِثَةً وقالُوا: قُلْ لَهُ لَنا ثَلاثُمِائَةٍ وسِتُّونَ صَنَمًا لا تَقُومُ بِحَوائِجِنا، فَكَيْفَ يَقُومُ إلَهٌ واحِدٌ بِحَوائِجِ الخَلْقِ كُلِّهِمْ؟ فَأنْزَلَ اللَّهُ سُورَةَ الصّافّاتِ إلى قَوْلِهِ ﴿إنَّ إلَهَكم لَواحِدٌ﴾ يَعْنِي في جَمِيعِ حَوائِجِكم، فَأرْسَلُوهُ رابِعَةً وقالُوا: قُلْ لَهُ بَيِّنْ لَنا أفْعالَ رَبِّكَ، فَأنْزَلَ اللَّهُ تَعالى: ﴿إنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ والأرْضَ﴾ الآيَةَ)، وقَوْلُهُ ﴿الَّذِي خَلَقَكم ثُمَّ رَزَقَكُمْ﴾ ﴿قُلْ هو اللَّهُ أحَدٌ﴾ خَرَجَ مَخْرَجَ جَوابِ السّائِلِ عَنِ اللَّهِ تَعالى، فَقالَ لِرَسُولِهِ ﷺ ﴿قُلْ هو اللَّهُ أحَدٌ﴾ والأحَدُ: هو المُتَفَرِّدُ بِصِفاتِهِ الَّذِي لا مِثْلَ لَهُ ولا شَبَهَ. فَإنْ قِيلَ: فَلِمَ قالَ (أحَدٌ) عَلى وجْهِ النَّكِرَةِ، ولَمْ يَقُلِ الأحَدَ؟ قِيلَ عَنْهُ جَوابانِ: أحَدُهُما: أنَّهُ حَذَفَ لامَ التَّعْرِيفِ عَلى نِيَّةِ إضْمارِها فَصارَتْ مَحْذُوفَةً في الظّاهِرِ، مُثْبَتَةً في الباطِنِ، ومَعْناهُ قُلْ هو اللَّهُ الأحَدُ. الثّانِي: أنَّهُ لَيْسَ بِنَكِرَةٍ، وإنَّما هو بَيانٌ وتَرْجَمَةٌ، قالَهُ المُبَرِّدُ. فَأمّا الأحَدُ والواحِدُ فَفِيهِما وجْهانِ: أحَدُهُما: أنَّ الأحَدَ لا يَدْخُلُ العَدَدَ، والواحِدَ يَدْخُلُ في العَدَدِ، لِأنَّكَ تَجْعَلُ لِلْواحِدِ ثانِيًا، ولا تَجْعَلُ لِلْأحَدِ ثانِيًا. الثّانِي: أنَّ الأحَدَ يَسْتَوْعِبُ جِنْسَهُ، والواحِدَ لا يَسْتَوْعِبُ، لِأنَّكَ لَوْ قُلْتَ فُلانٌ لا (p-٣٧١) يُقاوِمُهُ أحَدٌ، لَمْ يَجُزْ أنْ يُقاوِمَهُ اثْنانِ ولا أكْثَرَ، فَصارَ الأحَدُ أبْلَغَ مِنَ الواحِدِ. وَفي تَسْمِيَتِها بِسُورَةِ الإخْلاصِ ثَلاثَةُ أوْجُهٍ: أحَدُها: لِأنَّ في قِراءَتِها خَلاصًا مِن عَذابِ اللَّهِ. الثّانِي: لِأنَّ فِيها إخْلاصًا لِلَّهِ مَن كُلِّ عَيْبٍ ومَن كُلِّ شَرِيكٍ ووَلَدٍ، قالَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ المُبارَكِ. الثّالِثُ: لِأنَّها خالِصَةٌ لِلَّهِ لَيْسَ فِيها أمْرٌ ولا نَهْيٌ. ﴿اللَّهُ الصَّمَدُ﴾ فِيهِ عَشَرَةُ تَأْوِيلاتٍ: أحَدُها: أنَّ الصَّمَدَ المُصْمَتَ الَّذِي لا جَوْفَ لَهُ، قالَهُ الحَسَنُ وعِكْرِمَةُ والضَّحّاكُ وابْنُ جُبَيْرٍ، قالَ الشّاعِرُ ؎ شِهابُ حُرُوبٍ لا تَزالُ جِيادُهُ عَوابِسَ يَعْلُكْنَ الشَّكِيمَ المُصَمَّدا الثّانِي: هو الَّذِي لا يَأْكُلُ ولا يَشْرَبُ، قالَهُ الشَّعْبِيُّ. الثّالِثُ: أنَّهُ الباقِي الَّذِي لا يَفْنى، قالَهُ قَتادَةُ، وقالَ الحَسَنُ: إنَّهُ الدّائِمُ الَّذِي لَمْ يَزَلْ ولا يَزالُ. الرّابِعُ: هو الَّذِي لَمْ يَلِدْ ولَمْ يُولَدْ، قالَهُ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبَ. الخامِسُ: أنَّهُ الَّذِي يَصْمُدُ النّاسُ إلَيْهِ في حَوائِجِهِمْ، قالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ، ومِنهُ قَوْلُ الشّاعِرِ ؎ ألا بَكِّرَ النّاعِي بِخَيْرَيْ بَنِي أسَدْ ∗∗∗ بِعَمْرِو بْنِ مَسْعُودٍ وبِالسَّيِّدِ الصَّمَدْ. السّادِسُ: أنَّهُ السَّيِّدُ الَّذِي قَدِ انْتَهى سُؤْدُدُهُ، قالَهُ أبُو وائِلٍ وسُفْيانُ وقالَ الشّاعِرُ ؎ عَلَوْتُهُ بِحُسامٍ ثُمَّ قُلْتُ لَهُ ∗∗∗ خُذْها حُذَيْفَ فَأنْتَ السَّيِّدُ الصَّمَدُ. السّابِعُ: أنَّهُ الكامِلُ الَّذِي لا عَيْبَ فِيهِ، قالَهُ مُقاتِلٌ، ومِنهُ قَوْلُ الزِّبْرِقانِ ؎ سارُوا جَمِيعًا بِنِصْفِ اللَّيْلِ واعْتَمَدُوا ∗∗∗ ألّا رَهِينَةَ إلّا السَّيِّدُ الصَّمَدُ. (p-٣٧٢) الثّامِنُ: أنَّهُ المَقْصُودُ إلَيْهِ في الرَّغائِبِ، والمُسْتَغاثُ بِهِ في المَصائِبِ، قالَهُ السُّدِّيُّ. التّاسِعُ: أنَّهُ المُسْتَغْنِي عَنْ كُلِّ أحَدٍ قالَهُ أبُو هُرَيْرَةَ. العاشِرُ: أنَّهُ الَّذِي يَفْعَلُ ما يَشاءُ ويَحْكُمُ بِما يُرِيدُ، قالَهُ الحُسَيْنُ بْنُ فُضَيْلٍ. ﴿لَمْ يَلِدْ ولَمْ يُولَدْ﴾ فِيهِ وجْهانِ: أحَدُهُما: لَمْ يَلِدْ فَيَكُونُ والِدًا، ولَمْ يُولَدْ فَيَكُونُ ولَدًا، قالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ. الثّانِي: لَمْ يَلِدْ فَيَكُونُ في العِزِّ مُشارِكًا، ولَمْ يُولَدْ فَيَكُونُ مَوْرُوثًا هالِكًا، قالَهُ الحُسَيْنُ بْنُ فُضَيْلٍ. وَإنَّما كانَ كَذَلِكَ لِأمْرَيْنِ: أحَدُهُما: أنَّ هاتَيْنِ صِفَتا نَقْصٍ فانْتَفَتا عَنْهُ. الثّانِي: أنَّهُ لا مَثَلَ لَهُ، فَلَوْ ولَدَ أوْ وُلِدِ لَصارَ ذا مَثَلٍ، واَللَّهُ تَعالى مُنَزَّهٌ عَنْ أنْ يَكُونَ لَهُ مَثَلٌ. ﴿وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أحَدٌ﴾ فِيهِ ثَلاثَةُ أوْجُهٍ: أحَدُها: لَمْ يَكُنْ لَهُ مَثَلٌ ولا عَدِيلٌ، قالَهُ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ وعَطاءٌ. الثّانِي: يَعْنِي لَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ، فَنَفى عَنْهُ الوَلَدَ والوالِدَةَ والصّاحِبَةَ، قالَهُ مُجاهِدٌ. الثّالِثُ: أنَّهُ لا يُكافِئُهُ في خَلْقِهِ أحَدٌ، قالَهُ قَتادَةُ وفِيهِ تَقْدِيمٌ وتَأْخِيرٌ، تَقْدِيرُهُ: ولَمْ يَكُنْ لَهُ أحَدٌ كُفُوًا، فَقَدَّمَ خَبَرَ كانَ عَلى اسْمِها لِتَنْساقَ أواخِرُ الآيِ عَلى نَظْمٍ واحِدٍ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب