الباحث القرآني

قوله تعالى: ﴿يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ﴾ الآية، قال عطاء عن ابن عباس [[تقدم الحديث عن رواية عطاء في المقدمة، وقد ذكره في "زاد المسير" 1/ 233، والرازي في "تفسيره" 2/ 24.]]: نزلت الآية في رجل أتى النبي ﷺ فقال: إن لي دينارًا؟ فقال: "أنفقه على نفسك" فقال: إن لي دينارين! فقال: "أنفقهما على أهلك"، فقال: إن لي ثلاثة؟ فقال: "أنفقها على خادمك"، فقال: إن لي أربعة؟ قال [[(فقال) في (ي). في جميع المواضيع.]]: "أنفقها على والديك"، وقال: إن لي خمسة؟ قال: "أنفقها على قرابتك"، قال: إن لي ستة؟ قال: "أنفقها في سبيل الله، وهو أخسها". وروي من طريق الكلبي عن ابن عباس: أن الآية نزلت في عمرو بن الجموح الأنصاري [[ذكره الواحدي في "أسباب النزول" ص 69، وينظر: "زاد المسير" 1/ 233، "الوسيط" 1/ 215، "التفسير الكبير" 2/ 24، "البحر المحيط" 2/ 141. ورواية الواحدي في "أسباب النزول" و"البحر المحيط": (وهو أحسنها)، وأورده الهيثمي عن أبي هريرة ص 211 حديث رقم 828. وعمرو، هو عمرو بن الجموح بن زيد بن حرام الخزرجي الأنصاري، شهد العقبة وبدرًا في رواية، وجعله النبي ﷺ سيد بني سلمة، وشهد أحدا، وكان أعرج شديد العرجة، واستشهد بها. ينظر: "معرفة الصحابة" لأبي نعيم 4/ 1984، "الاستيعاب" 3/ 253.]]، وهو الذي قتل يوم أحد، وكان شيخًا كبيرًا هرمًا، وعنده مال عظيم، فقال: ماذا ننفق من أموالنا وأين نضعها؟ (فنزلت) [[في (ي) (فأنزل الله).]] ﴿يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ﴾ الآية [[ذكره الثعلبي بغير إسناد 2/ 337، وعنه نقل الحافظ ابن حجر في "العجاب" 1/ 534، وعزاه من طريق أبي صالح عن ابن عباس: الواحدي في "أسباب النزول" ص 69، وابن الجوزي في "زاد المسير" 1/ 233، وعزاه الواحدي في "الوسيط" 1/ 318، وعنه الفخر الرازي في "تفسيره" 6/ 20 إلى رواية الكلبي عن ابن عباس 6/ 24. وهو قول مقاتل بن سليمان كما في "تفسيره" 1/ وقول مقاتل بن حيان، نسبه إليه ابن المنذر كما في "الدر المنثور" 1/ 437.]]، ومعنى السؤال طلب الجواب. وقوله تعالى: ﴿مَاذَا يُنْفِقُونَ﴾ في محل (ماذا) من الإعراب قولان: أحدهما: أن تجعل (ما) مع (ذا) بمنزلة اسم واحد، ويكون الموضع نصبًا بـ (ينفقون) المعنى: يسألونك أي شيء ينفقون، ومثل جعلهم (ماذا) بمنزلة اسم واحد قول الشاعر: دَعِيْ مَاذا عَلِمْتُ سَأَتَّقِيْهِ ... ولكن بالمغِيبِ ينبّئُنِي [[البيت للمثقب العبدي، في "ديوانه" ص 213، ولمزرد بن ضرار في "ديوانه" ينظر: "المعجم المفصل" 8/ 250.]] فلا يكون (ذا) مع (ما) إلا بمنزلة شيء واحد، كأنه قال: دعي الذي علمت، لأن (دَعِي) لا يتعلق بالجملة كما يتعلق السؤال، لو قلت: سَألُته أزيدٌ في الدار أم عمرو؟ صَحَّ، ولو قلت: دعي أزيد في الدار أم عمرو، لم يصح على ذلك الحد من غير حذف، والعرب تقول: عماذا تسأل؟ بإثبات الألف في (ما)، فلولا أن (ما) مع (ذا) بمنزلة اسم واحد لقالوا: عمذا [[في (ي) (عماذا).]] تسأل، بحذف الألف، كما حذفوها من قوله: ﴿عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ﴾ [النبأ: 1] و ﴿فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا﴾ [النازعات: 43] فلما لم يحذفوا الألف من آخر (ما) [[ساقطة من (ي).]] علمت أنه مع (ذا) بمنزلة اسم واحد، فلم تحذف الألفُ منه، لما لم يكن آخر الاسم، والحذف يلحقها إذا كانت آخرًا، إلا أن تكون في شعرٍ، كقول الشاعر: عَلَى ما قام يشتمني لئيمٌ ... كخنزيرٍ تَمَرَّغَ في دَمَاني [[البيت لحسان بن ثابت، قاله في هجو بني عابد. ينظر: "الحجة" 2/ 317 "شرح أبيات المغني" 5/ 220 "الخزانة" 2/ 537، "أمالي ابن الشجري" 2/ 233، "الشافية" 4/ 224، وابن يعيش 4/ 9، والعيني 4/ 554. والدمان كالرماد وزنًا ومعنى.]] ومما يحمل على أن (ما) و (ذا) فيه شيء واحد قول الشاعر: يا خُزْرَ تَغْلِبَ ماذا بالُ [[(قال) في (ي).]] نِسوتِكم ... لا يَسْتَفِقْنَ إلى الدَّيرين تَحْنَانا [[البيت لجرير يهجو الأخطل ينظر: "ديوانه" ص 167. و"الحجة" 2/ 317.]] فقوله: ماذا بالُ نسوتكم، بمنزلة: ما بال نسوتكم، فاستعمل (ماذا) استعمال (ما) من غير أن ينضم إليها (ذا)، ألا ترى أنك لو حملت (ذا) على الذي في هذا البيت لم يَسْهُلْ: ما الذي بال نسوتكم؟ لأن المستعمل: ما بالُك، دون: ما الذي بالك [[هذا الكلام بطوله من "الحجة" بتصرف يسير 2/ 316 - 318.]]. القول الثاني: أن تجعل (ذا) اسمًا يرفع (ما) كأنك قلت: ما الذي ينفقون؟ يعنى: أيَّ شيء الذي ينفقون، فيكون (ما) رفعًا بالابتداء و (ذا) خبرُها، والعرب قد تذهب بهذا وذا إلى معنى الذي، فيقولون: ومن ذا يقول [[(يكون) في (م).]] ذاك، في معنى من الذي، وأنشدوا: عَدَسْ ما لِعَبّادٍ عَلَيْكِ إمَارَةٌ ... أَمِنْتِ وَهَذَا تَحْمِليَن طَلِيقُ [[البيت ليزيد بن مفرغ الحميري قاله في عباد بن زياد، وكان يزيد قد أكثر من هجوه، حتى حبسه وضيق عليه، حتى خوطب في أمره معاوية، فأمر بإطلاق سراحه،. فلما خرج من السجن قدمت له بغلة فركبها فنفرت فقال هذا الشعر، في "ديوانه" ص170، "لسان العرب" 5/ 2837 "عدس" وعدس: اسم صوت لزجر البغل.]] كأنه قال: والذي تحملين طليق [[من "معاني القرآن" للفراء 1/ 138 - 139.]]. وقد [[ينظر في إعراب الآية: "إعراب القرآن" للنحاس 1/ 306، "تفسير الثعلبي" 2/ 737، "مشكل إعراب القرآن" 1/ 127، "التبيان" ص 131، قال: وموضع الجملة نصب بيسألون على المذهبين. "البحر المحيط" 2/ 142.]] مضى صدر من الكلام في (ماذا) عند قوله: ﴿مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا﴾ [البقرة: 26]. وقوله تعالى: ﴿قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ﴾ هذا جواب لسؤالهم. فإن (قيل): هذا الجواب لا يُطَابِقُ السُّؤَال، وما الجواب المطابق لهذا السؤال؟ قيل: الجواب المطابق أن يقال: قل النفقة التي هي خير، وإنما عدل عن المطابق لحاجة السائل إلى بيان بجمع الدلالة على ما سأل وعلى غيره. ويحسن من المعلم الحكيم الذي يعلم الناس ويبصرهم أن يضمن الجواب مع الدلالة على المسؤول عنه، الدلالة على ما يحتاج إليه السائل في ذلك المعنى مما أغفله وترك السؤال عنه، فأما الجدل الذي يضايق فيه الخصم فالأصل فيه أن يكون الجواب على قدر السؤال من غير زيادة ولا نقصان ولا عدول عما يوجبه نفس السؤال. وقوله تعالى: ﴿وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ﴾ جزم ﴿وَمَا تَفْعَلُوا﴾ بالشرط، واسم الشرط وموضع ﴿وَمَا﴾ نصبٌ بـ ﴿تَفْعَلُوا﴾، وجواب الشرط قوله: ﴿فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ﴾ [[ينظر في إعراب الآية: "إعراب القرآن" للنحاس1/ 306،"مشكل إعراب القرآن" 1/ 127، "التيبان" ص 131، "البحر المحيط" 1/ 142.]] ومعناه: (أنه يحصيه) [[ساقط من (ش).]] ويجازي عليه. قال ابن الأنباري: إن عمرو بن الجموح سأل رسول الله ﷺ عن الصدقة لمن [[(لما) في (ي).]] يخص [[(نخص) في (ي) و (ش).]] بها عند الموت، فأنزل الله عز وجل هذه الآية قبل آية المواريث، فلما نزلت آية المواريث نسخت من هذه التصدق على الوالدين. ويقال: إن الإنفاق في هذه الآية لا يراد به الصدقة عند الموت، إنما يراد [[(أراد) في (ش).]] به النفع في الدنيا، والإيثار بما يتقرب به الإنسان إلى الله تعالى، فأخبر الله أن مريد ذلك ينبغي أن يتوخى به الوالدين والأقربين والمذكورين في الآية، وإذا خرج الإنفاق على معنى التصدق كانت الآية محكمة، وهذا معنى قول مقاتل بن حيان [[ذكره في "الوسيط" 1/ 318.]]. وقال [[في (أ) و (م): فقال.]] كثير من أهل التفسير: إن هذا كان قبل فرض الزكاة، فلما فُرِضَتِ الزكاة بالآية التي في براءة، نسخت الزكاةُ هذه الآية [[من "تفسير الثعلبي" 2/ 738، وينظر: "تفسير الطبري" 2/ 343، وابن أبي حاتم في "تفسيره" 2/ 381، و"الناسخ والمنسوخ" لابن العربي 2/ 72، و"نواسخ القرآن" لابن الجوزي ص 228، وقد بين ابن العربي في "أحكام القرآن" 1/ 145، أن الأولى أن تكون الآية في بيان مصارف صدقة التطوع، ولا نسخ؛ لأن شروطه معدومة وقال ابن الجوزي في "نواسخ القرآن" ص 229: والتحقيق أن الآية عامة في الفرض والتطوع، فحكمها غير منسوخ؛ لأن ما يجب من النفقة على الوالدين والأقربين إذا كانوا فقراء لم ينسخ بالزكاة، وما يتطوع به لم ينسخ بالزكاة، وقد قامت الدلالة على أن الزكاة لا تصرف إلى الوالدين والولد. وينظر: "النسخ في القرآن" للدكتور/ مصطفى زيد 2/ 656.]].
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب