الباحث القرآني
قال تعالى: ﴿يَسْأَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ قُلْ ما أنْفَقْتُمْ مِن خَيْرٍ فَلِلْوالِدَيْنِ والأَقْرَبِينَ واليَتامى والمَساكِينِ وابْنِ السَّبِيلِ وما تَفْعَلُوا مِن خَيْرٍ فَإنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ ﴾ [البقرة: ٢١٥].
قال بعضُهم كالسُّدِّيِّ: إنّ الآيةَ نزَلَتْ قبلَ الزكاةِ، ثمَّ نسَخَتْها آياتُ الزكاةِ[[«تفسير الطبري» (٣/٦٤٢).]]، وهذا القولُ فيه نظرٌ، ولو قيلَ بذلك، لكانت آياتُ الزكاةِ ناسخةً لكلِّ حَثٍّ على النفقةِ والصدقةِ، وهذا لا يقولُ به قائلٌ.
الصدقةُ وأفضَلُها:
والآيةُ في فضلِ النفقةِ على الأَقْرَبِينَ والصدقةِ عليهم، ولا خلافَ أنّها أفضلُ من الأَبْعَدِينَ، بل دَلَّ الدليلُ أنّ الهديَّةَ على الأقرَبِينَ أفضلُ مِنَ الصدقةِ على الأبعَدِينَ مِن غيرِ سَرَفٍ في قريبٍ، ولا مَسْغَبَةٍ في بعيدٍ.
ولم يذكُرِ اللهُ النفقةَ على النَّفْسِ، للعِلْمِ بها، فالنفسُ أحقُّ بمالِ صاحِبِها مِن غيرِه، والمرادُ: الكفايةُ، وسدُّ الحاجةِ، وقِوامُ البَدَنِ، وسَتْرُ العورةِ، وسَتْرُ النفْسِ عن السؤالِ، وقد جاء في الحديثِ في «الصحيحِ»، عن جابرٍ، قال ﷺ: (ابْدَأْ بِنَفْسِكَ، فَتَصَدَّقْ عَلَيْها، فَإنْ فَضَلَ شَيْءٌ، فَلأَهْلِكَ، فَإنْ فَضَلَ عَنْ أهْلِكَ شَيْءٌ، فَلِذِي قَرابَتِكَ، فَإنْ فَضَلَ عَنْ ذِي قَرابَتِكَ شَيْءٌ، فَهَكَذا وهَكَذا)، يَقُولُ: فَبَيْنَ يَدَيْكَ وعَنْ يَمِينِكَ وعَنْ شِمالِكَ[[أخرجه مسلم (٩٩٧) (٢/٦٩٢).]].
ثمَّ بعدَ سَدِّ ضرورةِ النفسِ يُنفِقُ على الأقرَبِينَ، وأعظَمُهُمُ الوالدانِ بلا خلافٍ، ثمَّ أحقُّهُمْ في ذلك، وهم الأولادُ والزَّوْجةُ، فالإخوةُ والأخواتُ، والأعمامُ والأخوالُ.
وفي «الصحيحَيْنِ»، قال ﷺ: (ابْدَأْ بِمَن تَعُولُ) [[أخرجه البخاري (١٤٢٧) (٢/١١٢)، ومسلم (١٠٣٤) (٢/٧١٧).]].
وروى النَّسائيُّ، مِن حديثِ طارقٍ المُحارِبِيِّ، قال: قَدِمْنا المدينةَ فإذا رسولُ اللهِ ﷺ قائمٌ على المِنبرِ يخطُبُ الناسَ وهو يقولُ: (يَدُ المُعْطِي العُلْيا، وابْدَأْ بِمَن تَعُولُ: أُمَّكَ وأَباكَ، وأُخْتَكَ وأَخاكَ، ثُمَّ أدْناكَ أدْناكَ) [[أخرجه النسائي (٢٥٣٢) (٥/٦١).]].
وفي «المسندِ»، مِن حديثِ أبي رِمْثَةَ بنحوِهِ[[أخرجه أحمد (٧١٠٥) (٢/٢٢٦).]].
إعطاءُ الزكاةِ للأقرَبِينَ:
وهذه الآيةُ في النفقةِ عامَّةً، فليست في أحكامِ الزكاةِ ومصارفِها، وليس فيها دليلٌ على إعطاءِ مَن تجبُ نفقتُهُ مِنَ الزكاةِ كالوالدَيْنِ والأولادِ، فهذه الآيةُ نزَلَتْ قبلَ نزولِ سورةِ التوبةِ التي بها تعيينُ مصارفِ الزكاةِ وأهلِها، ومَن تجبُ على الإنسانِ نفقتُهُ لا يجوزُ أنْ يُعطِيَهُ نفقتَهُ مِن زكاةِ مالِهِ بالاتِّفاقِ، ومَن لا تجبُ عليه نفقتُهُ ولا يرتدُّ إليه نفعُ زكاتِهِ كانتفاعِ الزوجةِ بزكاةِ مالِها لزوجِها، فاتَّفَقُوا أنّ مَن لم تكنْ حالُهُ كذلك، فإنّه يجوزُ أنْ يُعطى مِن الزكاةِ.
وإنّما يختلِفُ العلماءُ في منعِ الزكاةِ، لاختلافِهم فيمَن تجبُ النفقةُ عليهم مع القُدْرةِ عليها، فهذه المسألةُ فرعٌ عن تلك غالبًا، وخلاصةُ ذلك: أنّ ما اتَّفَقَ العلماءُ على أنّه تجبُ نفقتُهُ على الإنسانِ: أنّه لا يُعطى نفقةً مِن زكاةِ مالِهِ، واتَّفَقُوا على الوالدَيْنِ والأولادِ في أمرِ النفقةِ، كما حكى إجماعَهم ابنُ المُنذِرِ، وأبو عُبيدٍ القاسمُ بنُ سَلاَّمٍ.
وهذا الذي عليه الصحابةُ، كعليٍّ وابنِ عباسٍ، ولا مخالِفَ لهما مِن الصحابةِ.
فقد روى البيهقيُّ في «سُنَنِهِ»، عن عبدِ اللهِ بنِ المختارِ، عن عليٍّ، قال: «لَيْسَ لِوَلَدٍ ولا لِوالِدٍ حَقٌّ فِي صَدَقَةٍ مَفْرُوضَةٍ، ومَن كانَ لَهُ ولَدٌ أوْ والِدٌ فَلَمْ يَصِلْهُ، فَهُوَ عاقٌّ»[[«السنن الكبرى» للبيهقي (٧/٢٨).]].
وروى أبو عُبَيْدٍ وعبدُ الرَّزّاقِ، عن عطاءٍ، عن ابنِ عباسٍ: «لا بَأْسَ بِأَنْ تَضَعَ زَكاتَكَ فِي مَوْضِعِها، إذا لم تُعْطِ مِنها أحَدًا تَعُولُهُ أنْتَ، فَلا بَأْسَ بِهِ»[[أخرجه عبد الرزاق في «مصنفه» (٧١٦٣) (٤/١١٢)، وأبو عبيد في «الأموال» (ص٦٨٣).]].
واختلَفُوا في غيرِ النَّفقةِ على مَن تجبُ نفقتُهُ، كأنْ يكونَ أحدُ الوالدَيْنِ أو الأولادِ مجاهِدًا في سبيلِ اللهِ أو غارِمًا، فهل يُعطى الوالدُ مِن زكاةِ ابنِهِ، ويُعطى الابنُ مِن زكاةِ والدِهِ، لكونِهِ مِن أهلِ ﴿وفِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ [التوبة: ٦٠] أو ﴿والغارِمِينَ﴾ [التوبة: ٦٠]، فليس هذا مِن نفقتِه؟ فهذا مِن مواضِعِ الخلافِ عندَهُمْ على قولَيْنِ:
الأوَّل: ذهَبَ جماعةٌ مِن العلماءِ: إلى جوازِ إعطاءِ مَن تجبُ نفقتُهُ ولو كان والدًا أو ولدًا مِن غيرِ سَهْمِ الفقراءِ والمساكينِ، لأنّ هذَيْنِ السهمَيْنِ نفقةٌ وحقٌّ، ويجوزُ إعطاؤُهُمْ في المكاتَبَةِ والغُرْمِ وفي سبيلِ اللهِ مِن الزَّكاةِ، وهذا قولُ المالكيَّةِ والشافعيَّةِ، ورجَّحَهُ ابنُ تيميَّةَ.
والثاني: ذهَبَ الحنابلةُ والحنفيَّةُ، فمَنَعُوا إعطاءَ الزكاةِ لِمَن تجبُ نفقتُهُ في جميعِ أسْهُمِ الزكاةِ وأصنافِها، وأنّ مَنِ احتاجَ منهم فيُعطى مِن أصلِ المالِ حقًّا بما يقضِي حاجَتَهُ.
وبعدَ اتِّفاقِهم في منعِ الزكاةِ نفقةً للوالدَيْنِ والأولادِ، اختلَفُوا فيمَن علا مِنَ الوالدَيْنِ، كالجَدِّ والجَدَّةِ، ومَن نزَلَ مِن الأولادِ كوَلَدِ الوَلَدِ، على قولَيْنِ:
الأولُ: قالوا: إنّ حُكْمَ الأجدادِ كحُكْمِ الآباءِ، وحُكْمَ الأحفادِ كحُكْمِ الأولادِ، وهذا قولُ الحنابلةِ والحنفيَّةِ وجماعةٍ مِن فقهاءِ الشافعيَّةِ.
الثـاني: قالوا: إنّ النفقةَ تجبُ للوالدَيْنِ دونَ الجَدَّيْنِ، وللأولادِ دونَ الأحفادِ، فيجوزُ دفعُ الزكاةِ للجَدِّ ووَلَدِ الوَلَدِ.
واختلَفُوا في غيرِ الوالدَيْنِ والأولادِ في النفقةِ عليهم مِن الزكاةِ:
وعامَّةُ السلفِ: على جوازِها، وفي غيرِ النفقةِ مِن بابِ أوْلى، كالجهادِ والغُرْمِ والمُكاتَبةِ: أنّها تُعطى الحَواشِيَ ـ وهم الإخوةُ والأعمامُ والأخوالُ ـ مِن الزكاةِ، وذلك لقولِه ﷺ: (الصَّدَقَةُ عَلى المِسْكِينِ صَدَقَةٌ، وهِيَ عَلى ذِي الرَّحِمِ ثِنْتانِ: صَدَقَةٌ، وصِلَةٌ)، رواهُ الترمذيُّ[[أخرجه الترمذي (٦٥٨) (٣/٣٨)، والنسائي (٢٥٨٢) (٥/٩٢)، وابن ماجه (١٨٤٤) (١/٥٩١).]] وغيرُهُ.
وقد رخَّص ابنُ مسعودٍ لامرأتِهِ أنْ تُعطِيَ زكاةَ حُلِيِّها لبَنِي أخِيها، كما رواهُ ابنُ أبي شَيْبةَ، وعبدُ الرزّاقِ[[أخرجه عبد الرزاق في «مصنفه» (٧٠٥٥) (٤/٨٣)، وابن أبي شيبة في «مصنفه» (١٠٥٣٣) (٢/٤١٢).]].
ورخَّص الحسنُ في إعطاءِ الأخِ، وإبراهيمُ في إعطاءِ الأختِ، رواهُ عنهما أبو عُبَيْدٍ[[أخرجه أبو عبيد في «الأموال» (ص ٦٩٤).]].
وقيَّد سعيدُ بنُ جُبَيْرٍ إعطاءَ الخالةِ مِن الزكاةِ بكونِها في غيرِ بيتِ المزكِّي يُنفِقُ عليها، فقد روى عبدُ الرزّاقِ وابنُ أبي شَيْبةَ، مِن حديثِ إبراهيمَ بنِ أبي حَفْصةَ، قال: قلتُ لسعيدِ بنِ جُبَيْرٍ: أُعْطِي الخالَةَ مِنَ الزَّكاةِ؟ قالَ: نَعَمْ، ما لم تُغْلِقْ عَلَيْها بابًا، يَعْنِي: ما لم تَكُنْ فِي عِيالِكَ[[أخرجه عبد الرزاق في «مصنفه» (٧١٦٤) (٤/١١٢)، وابن أبي شيبة في «مصنفه» (١٠٥٣٤) (٢/٤١٢).]].
ومَن وجَبَتْ نفقتُهُ، ولكنَّ صاحِبَ المالِ عاجزٌ عن النفقةِ، وعليه زكاةٌ، فجوَّزَ بعضُ الفقهاءِ إخراجَ الزكاةِ على مَن تجبُ نفقتُهُ عندَ العجزِ عنها ولو كان والدًا أو ولَدًا، وهو قولٌ لأحمدَ رجَّحَهُ ابنُ تيميَّةَ.
وإنّما يمنعُ السلفُ والفقهاءُ مِن إعطاءِ الزكاةِ ذوي القَرابةِ الذين تجبُ نفقتُهم، لاجتماعِ واجبَيْنِ عليه: واجبِ النفقةِ، وواجبِ الزكاةِ، فنُهي عن ذلك، حتى لا يقيَ مالَهُ ويحفَظَهُ مِن النفقةِ عليهم بزكاتِهِ.
{"ayah":"یَسۡـَٔلُونَكَ مَاذَا یُنفِقُونَۖ قُلۡ مَاۤ أَنفَقۡتُم مِّنۡ خَیۡرࣲ فَلِلۡوَ ٰلِدَیۡنِ وَٱلۡأَقۡرَبِینَ وَٱلۡیَتَـٰمَىٰ وَٱلۡمَسَـٰكِینِ وَٱبۡنِ ٱلسَّبِیلِۗ وَمَا تَفۡعَلُوا۟ مِنۡ خَیۡرࣲ فَإِنَّ ٱللَّهَ بِهِۦ عَلِیمࣱ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق