الباحث القرآني

﴿قُلْ ما أنْفَقْتُمْ مِن خَيْرٍ فَلِلْوالِدَيْنِ والأقْرَبِينَ واليَتامى والمَساكِينِ وابْنِ السَّبِيلِ﴾ ظاهِرُ الآيَةِ أنَّهُ سُئِلَ عَنِ المُنْفَقِ، فَأجابَ بِبَيانِ المَصْرِفِ صَرِيحًا؛ لِأنَّهُ أهَمُّ، فَإنَّ اعْتِدادَ النَّفَقَةِ بِاعْتِبارِهِ، وأشارَ إجْمالًا إلى بَيانِ المُنْفَقِ، فَإنَّ ﴿مِن (p-106)خَيْرٍ﴾ يَتَضَمَّنُ كَوْنَهُ حَلالًا؛ إذْ لا يُسَمّى ما عَداهُ خَيْرًا، وإنَّما تَعَرَّضَ لِذَلِكَ، ولَيْسَ في السُّؤالِ ما يَقْتَضِيهِ؛ لِأنَّ السُّؤالَ لِلتَّعَلُّمِ لا لِلْجَدَلِ، وحَقُّ المُعَلِّمِ فِيهِ أنْ يَكُونَ كَطَبِيبٍ رَفِيقٍ يَتَحَرّى ما فِيهِ الشِّفاءَ طَلَبَهُ المَرِيضُ أمْ لَمْ يَطْلُبْهُ، ولَمّا كانَتْ حاجَتُهم إلى مَن يُنْفِقُ عَلَيْهِ كَحاجَتِهِمْ إلى ما يُنْفَقُ بَيَّنَ الأمْرَيْنِ، وهَذا كَمَن بِهِ صَفْراءُ فاسْتَأْذَنَ طَبِيبًا في أكْلِ العَسَلِ، فَقالَ: كُلْهُ مَعَ الخَلِّ، فالكَلامُ إذًا مِن أُسْلُوبِ الحَكِيمِ، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ في الكَلامِ ذِكْرَ المَصْرِفِ أيْضًا كَما تَدُلُّ عَلَيْهِ الرِّوايَةُ الأُولى في سَبَبِ النُّزُولِ، إلّا أنَّهُ لَمْ يَذْكُرْهُ في الآيَةِ لِلْإيجازِ في النَّظْمِ تَعْوِيلًا عَلى الجَوابِ، فَتَكُونُ الآيَةُ جَوابًا لِأمْرَيْنِ مَسْؤُولٍ عَنْهُما، والِاقْتِصارُ في بَيانِ المُنْفَقِ عَلى الإجْمالِ مِن غَيْرِ تَعَرُّضٍ لِلتَّفْصِيلِ، كَما في بَيانِ المَصْرِفِ لِلْإشارَةِ إلى كَوْنِ الثّانِي أهَمَّ، وهَلْ تَخْرُجُ الآيَةُ بِذَلِكَ عَنْ كَوْنِها مِن أُسْلُوبِ الحَكِيمِ أمْ لا؟ قَوْلانِ أُشْهَرُهُما الثّانِي؛ حَيْثُ أُجِيبَ عَنِ المَتْرُوكِ صَرِيحًا وعَنِ المَذْكُورِ تَبَعًا، والأكْثَرُونَ عَلى أنَّ الآيَةَ في التَّطَوُّعِ، وقِيلَ: في الزَّكاةِ، واسْتَدَلَّ بِها مَن أباحَ صَرْفَها لِلْوالِدَيْنِ، وفِيهِ أنَّ عُمُومَ خَيْرٍ مِمّا يُنافِي في كَوْنِها في الزَّكاةِ؛ لِأنَّ الفَرْضَ فِيها قَدْرٌ مُعَيَّنٌ بِالإجْماعِ، ولَمْ يَتَعَرَّضْ - سُبْحانَهُ - لِلسّائِلِينَ، و( الرِّقابِ ) إمّا اكْتِفاءً بِما ذُكِرَ في المَواضِعِ الأُخَرِ، وإمّا بِناءً عَلى دُخُولِهِمْ تَحْتَ عُمُومِ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وما تَفْعَلُوا مِن خَيْرٍ﴾ فَإنَّهُ شامِلٌ لِكُلِّ خَيْرٍ واقِعٌ في أيِّ مَصْرِفٍ كانَ وما شَرْطِيَّةٌ مَفْعُولٌ بِهِ لِـ تَفْعَلُوا والفِعْلُ أعَمُّ مِنَ الإنْفاقِ، وأتى بِما يَعُمُّ تَأْكِيدًا لِلْخاصِّ الواقِعِ في الجَوابِ. ﴿فَإنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ 215﴾ يَعْلَمُ كُنْهَهُ كَما يُشِيرُ بِهِ صِيغَةُ (فَعِيلٍ) مَعَ الجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ المُؤَكَّدَةِ، والجُمْلَةُ جَوابُ الشَّرْطِ بِاعْتِبارِ مَعْناها الكِنائِيِّ؛ إذِ المُرادُ مِنها تَوْفِيَةُ الثَّوابِ، وقِيلَ: إنَّها دَلِيلُ الجَوابِ، ولَيْسَتْ بِهِ، ومُناسَبَةُ هَذِهِ الآيَةِ لِما قَبِلَها هو أنَّ الصَّبْرَ عَلى النَّفَقَةِ وبَذْلَ المالِ مِن أعْظَمِ ما تَحَلّى بِهِ المُؤْمِنُ، وهو مَن أقْوى الأسْبابِ المُوصِلَةِ إلى الجَنَّةِ حَتّى ورَدَ: «”الصَّدَقَةُ تُطْفِئُ غَضَبَ الرَّبِّ“».
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب