الباحث القرآني

﴿قُلْ ما أنْفَقْتُمْ مِن خَيْرٍ فَلِلْوالِدَيْنِ والأقْرَبِينَ واليَتامى والمَساكِينِ وابْنِ السَّبِيلِ﴾، هَذا بَيانٌ لِمَصْرِفِ ما يُنْفِقُونَهُ، وقَدْ تَضَمَّنَ المَسْؤُولَ عَنْهُ وهو المُنْفِقُ بِقَوْلِهِ: ”مِن خَيْرٍ“، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ ماذا سُؤالًا عَنِ المَصْرِفِ عَلى حَذْفِ مُضافٍ، التَّقْدِيرُ: مَصْرِفُ ماذا يُنْفِقُونَ ؟ أيْ: يَجْعَلُونَ إنْفاقَهم؛ فَيَكُونُ الجَوابُ إذْ ذاكَ مُطابِقًا، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ حُذِفَ مِنَ الأوَّلِ الَّذِي هو السُّؤالُ المَصْرِفُ، ومِنَ الثّانِي الَّذِي هو الجَوابُ ذِكْرُ المُنْفِقِ، وكِلاهُما مُرادٌ، وإنْ كانَ مَحْذُوفًا، وهو نَوْعٌ مِنَ البَلاغَةِ تَقَدَّمَ نَظِيرُهُ في قَوْلِهِ: ﴿ومَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ﴾ [البقرة: ١٧١] . وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: قَدْ تَضَمَّنَ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ما أنْفَقْتُمْ مِن خَيْرٍ﴾ بَيانَ ما يُنْفِقُونَهُ، وهو كُلُّ خَيْرٍ، وبُنِيَ الكَلامُ عَلى هَواهم، وهو بَيانُ المَصْرِفِ؛ لِأنَّ النَّفَقَةَ لا يُعْتَدُّ بِها إلّا أنْ تَقَعَ مَوْقِعَها، كَقَوْلِ الشّاعِرِ: ؎إنَّ الصَّنِيعَةَ لا تَكُونُ صَنِيعَةً حَتّى يُصابَ بِها طَرِيقُ المَصْنَعِ انْتَهى كَلامُهُ، وهو لا بَأْسَ بِهِ، و(مِن خَيْرٍ) يَتَناوَلُ القَلِيلَ والكَثِيرَ. وبَدَأ في المَصْرِفِ بِالأقْرَبِ فالأقْرَبِ، ثُمَّ بِالأحْوَجِ فالأحْوَجِ، وقَدْ مَرَّ الكَلامُ في شَيْءٍ مِن هَذا التَّرْتِيبِ وشَبَهِهِ، وقَدِ اسْتُدِلَّ بِهَذِهِ الآيَةِ عَلى وُجُوبِ نَفَقَةِ الوالِدَيْنِ والأقْرَبِينَ عَلى الواجِدِ، وحَمَلَ بَعْضُهُمُ الآيَةَ عَلى أنَّها في الوالِدَيْنِ إذا كانا فَقِيرَيْنِ، وهو غَنِيٌّ. ﴿وما تَفْعَلُوا مِن خَيْرٍ فَإنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ﴾، ”ما“ في المَوْضِعَيْنِ: شَرْطِيَّةٌ مَنصُوبَةٌ بِالفِعْلِ بَعْدَها، ويَجُوزُ أنْ تَكُونَ ”ما“ مِن قَوْلِهِ: ﴿قُلْ ما أنْفَقْتُمْ﴾ مَوْصُولًا، و”أنْفَقْتُمْ“ صِلَةٌ، و”لِلْوالِدَيْنِ“ خَبَرٌ، فالجارُّ والمَجْرُورُ في مَوْضِعِ المُفْرَدِ، أوْ في مَوْضِعِ الجُمْلَةِ عَلى الخِلافِ الَّذِي في الجارِّ والمَجْرُورِ الواقِعِ خَبَرًا، أوْ هو مَعْمُولٌ لِمُفْرَدٍ، أوِ لِجُمْلَةٍ. وإذا كانَتْ ”ما“ في ”ما أنْفَقْتُمْ“ شَرْطِيَّةً؛ فَهَذا الجارُّ والمَجْرُورُ في مَوْضِعِ خَبَرٍ لِمُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، التَّقْدِيرُ: فَهو (p-١٤٣)أوْ فَمَصْرِفُهُ لِلْوالِدَيْنِ. وقَرَأ عَلِيُّ بْنُ أبِي طالِبٍ: ”وما يَفْعَلُوا“ بِالياءِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ مِن بابِ الِالتِفاتِ، أوْ مِن بابِ ما أُضْمِرُ لِدَلالَةِ المَعْنى عَلَيْهِ، أيْ: وما يَفْعَلُ النّاسُ، فَيَكُونُ أعَمَّ مِنَ المُخاطَبِينَ قَبْلُ، إذْ يَشْمَلُهم وغَيْرَهم، وفي قَوْلِهِ ”مِن خَيْرٍ“ في الإنْفاقِ يَدُلُّ عَلى طِيبِ المُنْفَقِ وكَوْنِهِ حَلالًا؛ لِأنَّ الخَبِيثَ مَنهِيٌّ عَنْهُ بِقَوْلِهِ: ﴿ولا تَيَمَّمُوا الخَبِيثَ مِنهُ تُنْفِقُونَ﴾ [البقرة: ٢٦٧]؛ وما ورَدَ مِن «أنَّ اللَّهَ طَيِّبٌ لا يَقْبَلُ إلّا الطَّيِّبَ»؛ ولِأنَّ الحَرامَ لا يُقالُ فِيهِ خَيْرٌ. وقَوْلُهُ: ”مِن خَيْرٍ“ في قَوْلِهِ: ”وما تَفْعَلُوا“ هو أعَمُّ مِن ”خَيْرٍ“ المُرادِ بِهِ المالُ؛ لِأنَّ ما يَتَعَلَّقُ بِهِ هو الفِعْلُ، والفِعْلُ أعَمُّ مِنَ الإنْفاقِ، فَيَدْخُلُ الإنْفاقُ في الفِعْلِ، فَـ ”خَيْرٍ“ هُنا هو الَّذِي يُقابِلُ الشَّرَّ، والمَعْنى: وما تَفْعَلُوا مِن شَيْءٍ مِن وُجُوهِ البِرِّ والطّاعاتِ، وجَعَلَ بَعْضُهم هُنا ”وما تَفْعَلُوا“ راجِعًا إلى مَعْنى الإنْفاقِ، أيْ: وما تَفْعَلُوا مِن إنْفاقِ خَيْرٍ، فَيَكُونُ الأوَّلُ بَيانًا لِلْمَصْرِفِ، وهَذا بَيانٌ لِلْمُجازاةِ، والأوْلى العُمُومُ؛ لِأنَّهُ يَشْمَلُ إنْفاقَ المالِ وغَيْرَهُ، ويَتَرَجَّحُ بِحَمْلِ اللَّفْظِ عَلى ظاهِرِهِ مِنَ العُمُومِ. ولَمّا كانَ أوَّلًا السُّؤالُ عَنْ خاصٍّ؛ أُجِيبُوا بِخاصٍّ، ثُمَّ أتى بَعْدَ ذَلِكَ الخاصِّ التَّعْمِيمُ في أفْعالِ الخَيْرِ، وذَكَرَ المُجازاةَ عَلى فِعْلِها، وفي قَوْلِهِ: (فَإنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ) دَلالَةٌ عَلى المُجازاةِ؛ لِأنَّهُ إذا كانَ عالِمًا بِهِ جازى عَلَيْهِ، فَهي جُمْلَةٌ خَبَرِيَّةٌ، وتَتَضَمَّنُ الوَعْدَ بِالمُجازاةِ. ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ القِتالُ﴾ [البقرة: ٢١٦]، قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: لَمّا فَرَضَ اللَّهُ الجِهادَ عَلى المُسْلِمِينَ شَقَّ عَلَيْهِمْ، وكَرِهُوا؛ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ. وظاهِرُ قَوْلِهِ ”كُتِبَ“ أنَّهُ فُرِضَ عَلى الأعْيانِ، كَقَوْلِهِ: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ﴾ [البقرة: ١٨٣]، ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ القِصاصُ﴾ [البقرة: ١٧٨]، ﴿إنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلى المُؤْمِنِينَ كِتابًا مَوْقُوتًا﴾ [النساء: ١٠٣]، وبِهِ قالَ عَطاءٌ، قالَ: فُرِضَ القِتالُ عَلى أعْيانِ أصْحابِ مُحَمَّدٍ ﷺ فَلَمّا اسْتَقَرَّ الشَّرْعُ وقُيِّمَ بِهِ؛ صارَ عَلى الكِفايَةِ. وقالَ الجُمْهُورُ: أوَّلُ فَرْضِهِ إنَّما كانَ عَلى الكِفايَةِ دُونَ تَعْيِينٍ، ثُمَّ اسْتَمَرَّ الإجْماعُ عَلى أنَّهُ فَرْضُ كِفايَةٍ إلى أنْ نَزَلَ بِساحَةِ الإسْلامِ؛ فَيَكُونُ فَرْضَ عَيْنٍ. وحَكى المَهْدَوِيُّ وغَيْرُهُ، عَنِ الثَّوْرِيِّ أنَّهُ قالَ: الجِهادُ تَطَوُّعٌ، ويُحْمَلُ عَلى سُؤالِ سائِلٍ، وقَدْ قِيمَ بِالجِهادِ ؟ فَأُجِيبَ بِأنَّهُ في حَقِّهِ تَطَوُّعٌ. وقَرَأ الجُمْهُورُ ”كُتِبَ“ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ عَلى النَّمَطِ الَّذِي تَقَدَّمَ قَبْلَ هَذا مِن لَفْظِ ”كُتِبَ“، وقَرَأ قَوْمٌ ”كَتَبَ“ مَبْنِيًّا لِلْفاعِلِ، وبِنَصْبِ القِتالِ، والفاعِلُ ضَمِيرٌ في كُتِبَ يَعُودُ عَلى اسْمِ اللَّهِ تَعالى. ومُناسَبَةُ هَذِهِ الآيَةِ لِما قَبْلَها هو أنَّهُ: لَمّا ذَكَرَ ما مَسَّ مَن تَقَدَّمَنا مِنَ أتْباعِ الرُّسُلِ مِنَ البَلايا، وأنَّ دُخُولَ الجَنَّةِ مَعْرُوفٌ بِالصَّبْرِ عَلى ما يُبْتَلى بِهِ المُكَلَّفُ، ثُمَّ ذَكَرَ الإنْفاقَ عَلى مَن ذَكَرَ، فَهو جِهادُ النَّفْسِ بِالمالِ، انْتَقَلَ إلى أعْلا مِنهُ وهو الجِهادُ الَّذِي يَسْتَقِيمُ بِهِ الدِّينُ، وفِيهِ الصَّبْرُ عَلى بَذْلِ المالِ والنَّفْسِ. ﴿وهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ﴾ [البقرة: ٢١٦]، أيْ: مَكْرُوهٌ، فَهو مِن بابِ النَّقْضِ بِمَعْنى المَنقُوضِ، أوْ: ذُو كُرْهٍ إذا أُرِيدَ بِهِ المَصْدَرُ، فَهو عَلى حَذْفِ مُضافٍ، أوْ لِمُبالَغَةِ النّاسِ في كَراهَةِ القِتالِ، جُعِلَ نَفْسَ الكَراهَةِ. والظّاهِرُ عَوْدُ ”هو“ عَلى القِتالِ، ويُحْتَمَلُ أنْ يَعُودَ عَلى المَصْدَرِ المَفْهُومِ مِن ”كُتِبَ“ أيْ: وكَتْبُهُ وفَرْضُهُ شاقٌّ عَلَيْكم، والجُمْلَةُ حالٌ، أيْ: وهو مَكْرُوهٌ لَكم بِالطَّبِيعَةِ، أوْ مَكْرُوهٌ قَبْلَ وُرُودِ الأمْرِ. وقَرَأ السُّلَمِيُّ: كَرْهٌ بِفَتْحِ الكافِ، وقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ مَدْلُولِ الكَرْهِ في الكَلامِ عَلى المُفْرَداتِ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ في تَوْجِيهِ قِراءَةِ السُّلَمِيِّ: يَجُوزُ أنْ يَكُونَ بِمَعْنى المَضْمُومِ: كالضَّعْفِ والضُّعْفِ، تُرِيدُ المَصْدَرَ، قالَ: ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ بِمَعْنى الإكْراهِ عَلى سَبِيلِ المَجازِ، كَأنَّهم أُكْرِهُوا عَلَيْهِ لِشِدَّةِ كَراهَتِهِ لَهم ومَشَقَّتِهِ عَلَيْهِمْ، ومِنهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا ووَضَعَتْهُ كُرْهًا﴾ [الأحقاف: ١٥] . انْتَهى كَلامُهُ. وكَوْنُ كُرْهٍ بِمَعْنى الإكْراهِ، وهو أنْ يَكُونَ الثُّلاثِيُّ مَصْدَرًا لِلرُّباعِيِّ، هو لا يَنْقاسُ، فَإنْ رُوِيَ اسْتِعْمالُ ذَلِكَ عَنِ العَرَبِ اسْتَعْمَلْناهُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب