الباحث القرآني

قوله تعالى: ﴿فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ﴾ معنى الفاء هاهنا: الجواب لما تقدم، وذلك أن ما قبله من الكلام وهو قوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ} ثم قال: ﴿فَمَا أَصْبَرَهُمْ﴾، كأنه قال: من كان بهذه الصفة فما أصبرهم على النار، فعومل معاملة المعنى الذي تضمنه حتى كأنه قد لفظ به. فأما المعنى: ففيه وجهان لأهل التأويل [[ينظر: "تفسير الطبري" 2/ 90، "المحرر الوجيز" 1/ 75 - 76، "زاد المسير" 1/ 176 - 177.]]: أحدهما: أن (ما) هاهنا تعجب [["تفسير الثعلبي" 1/ 1359، قال في "البحر المحيط" 1/ 494: والأظهر أنها تعجبية، وهو قول جمهور المفسرين.]]، كقولهم: ما أحسن زيدًا. فما: رفع بالابتداء، وأحسن: فعل ماض، وهو خبر الابتداء، وفيه ضمير يرجع إلى ما وهو فاعل أحسن، وزيدًا [[في (أ): (نصبت).]]: نصب [[في (أ): (نصبت).]] بأحسن، والتقدير: شيء أحسن هو زيدًا؛ وخُصَّتْ لفظة ما بالتعجب لإبهامها، وهي واقعة على الشيء الذي تتعجب منه، وذلك الشيء ليس مما يعقل [["البحر المحيط" 1/ 494.]]. فإن قيل: قد قلتم: إن (ما) استعمل لإبهامها، فهلا استعمل (الشيء) إذ كان أبهم الأشياء؟ قيل: إن الشيء ربما يستعمل للتقليل، فلو قلت: شيء حسَّن زيدًا، لجاز أن يعتقد أنك تقلل المعنى الذي حسن زيدًا، وأيضًا: فإن الغالب في قولك: شيء حسّن زيدًا، أنه خبر عن معنى مستقر، وما يتعجب منه، فحقه أن يبهرك في الحال، فأما ما قد استقر وعرف فلا [[سقطت من (ش).]] يجوز التعجب منه، ومعنى التعجب: تَغَيُّر النفسِ لما يَرِدُ عَليها مما [[في (ش): (ما).]] جُهِل سَبَبُهُ جدًّا، ونقل لفظ الفعل في التعجب من الثلاثي إلى الرباعي؛ لأنا ذكرنا أن التقدير: شيء أحسن زيدًا، فصار زيد مفعولًا لغيره، ولهذا انتصب المتعجب منه؛ لأنه مفعول في الحقيقة، والدليل على أنَّ أحسن هاهنا فعل: لزومُ الفتحِ آخره [[مذهب البصريين أنه فعل، وأما الكوفيون فيرون أنه اسم. ينظر: "البحر المحيط" 1/ 494.]]. ولو كان اسمًا لوجب أن يرتفع؛ إذ كان خبر المبتدأ، فلما لزمه الفتح دل على أنه فعل ماض. وقد يصغَّرُ فعلُ التعجب، فيقال: ما أُحَيْسِنَ زيدًا، كقول الشاعر: يا ما أُمَيْلح غزلانًا [[في (م): (عن). وفي (أ): (عزلانا).]] شدنّ [[في (م): (شدان).]] لنا [[تكملة البيت: من هؤليائكن الضال والسمر والبيت للمجنون في "ديوانه" ص 130، ونسب لآخرين.]] وتصغيره لا يدل على أنه اسم، وذلك أن فعل التعجب قد لزم طريقةً واحدةً، فجرى في اللفظ مجرى الأسماء، فأدخلوا عليه التصغير تشبيهًا بالاسم، وليس يجب أن يكون الشيء إذا حمل على غيره لشبه بينهما أن يُخرج من جنسه، ألا ترى أن اسم الفاعل قد أُعمل عمل الفعل ولم يخرج من أن يكون اسمًا، وكذلك الفعل أعرب؛ لشبهه بالاسم ولم يخرجه ذلك من أن يكون فعلًا، فكذلك فعل التعجب وإن صُغِّر تشبيهًا بالاسم؛ لم يجب أن يكون اسمًا [[ينظر في ما تقدم: "المقتضب" للمبرد 4/ 175 وما بعدها.]]. فقد بان بما ذكرنا أن قوله: ﴿فَمَا أَصْبَرَهُمْ﴾ إذا قلنا: إنه تعجب، فعل منقول من الثلاثي إلى الرباعي، والهاء والميم في محل النصب بوقوع الفعل عليه. قال ابن الأنباري: ويكون أصبر ههنا بمعنى: صبّر [[ينظر: "زاد المسير" 1/ 177.]]، وكثيرًا ما يكون أفعل بمعنى فعّل، نحو: أكرم وكرّم، وخبّر وأخبر، فهذا الذي ذكرنا بيان معنى التعجب وفعله. فأما التفسير على هذه الطريق: فقال المؤرّج: معناه: فما أصبرهم على عمل يؤديهم إلى النار [[الثعلبي 1/ 1359، والحيري في "الكفاية" 1/ 109، والقرطبي 2/ 218، وأبو حيان في "البحر المحيط" 1/ 494.]]، أو على عمل أهل النار [[سقطت من (أ)، (م).]] وهو قول الكسائي وقطرب [[عزاه إليهما الثعلبي 1/ 1360، والحيري في "الكفاية" 1/ 109، والقرطبي في "تفسيره" 2/ 218، وأبو حيان في "البحر المحيط" 1/ 494، وهو قريب من قول المؤرخ كما بيّن أبو حيان، ونسبه في "زاد المسير" 1/ 176 إلى عكرمة والربيع.]]. وقال أحمد بن يحيى: الصبر معناه هاهنا [[في (م): (الصبر هاهنا معناه).]]: الجرأة، أي: ما أجرأهم على أعمال أهل النار [[ونسبه في "زاد المسير" 1/ 176 إلى مجاهد.]]. وهذا قول الحسن [[رواه عنه الطبري 2/ 91، وذكره الثعلبي 1/ 1359.]] وقتادة [[رواه عنه الطبري 2/ 91، وذكره الثعلبي 1/ 1359.]] والربيع [[رواه عنه الطبري 2/ 91، وذكره الثعلبي 1/ 1359.]]. قال الفراء: وهذه لغة يمانية، وحكى عن الكسائي قال: قال لي قاضي اليمن: اختصم إليَّ رجلان، فحلف أحدهما على حق صاحبه، فقال له الآخر: ما أصبرك على الله عز وجل [[ينظر: "معاني القرآن" للفراء 1/ 103، "تفسير الثعلبي" 1/ 1359، والسمعاني 2/ 134.]]! قال الفراء: ففي هذا وجهان: أحدهما: ما أجرأك على الله، والثاني: ما أصبرك على عذاب الله، كما تقول [[في (م): (يقال).]]: ما أشبه سخاءك بحاتم، أي: بسخاء حاتم، فتقيم حاتم مقام السخاء [[بتصرف من "معاني القرآن" للفراء 1/ 103، وهذا اختيار الطبري 2/ 92.]]. قال أهل المعاني: وإنما جاز استعمال الصبر بمعنى الجرأة؛ لأن الصبر حبس النفس على الشدة، والجريء يصبِّر نفسه على الشدة، فلما كانت الجرأة تقتضي الصبر سميت به. وقال السدي: هذا على وجه الاستهانة [[في (ش): (الاستهابة).]] [[ذكره الثعلبي 1/ 1360ولم ينسبه، وكذا القرطبي 2/ 236، وقد أخرج الطبري 2/ 91، والثعلبي 1/ 1360 عن السدي وعطاء وابن زيد وأبي بكر بن عياش نحوه.]]، وقد تقول في الكلام لمن تعرف ضعفه، تستخف به: ما أقواك على هذا الأمر! وقيل: أراد ما أبقاهم في النار، وما أطول مكثهم فيها، كما يقال: ما أصبر فلانًا على الضرب والحبس، أي: ما أبقاه فيهما [[ينظر: "معاني القرآن" للزجاج 1/ 245، "تفسير السمرقندي" 1/ 178، الثعلبي في "تفسيره" 1/ 1360، "زاد المسير" 1/ 176 - 177.]]. قال عطاء عن ابن عباس: لم يرد أنهم حين دخلوا النار صبروا عليها، ولكنه يريد: فما أعملهم بأعمال أهل النار [[تقدم الحديث عن هذه الرواية. وقد ورد هذا عن مجاهد في "تفسيره" ص 94، ورواه عنه الطبري 2/ 91، وسعيد بن منصور في "سننه" 2/ 647، وأبو نعيم في "الحلية" 3/ 331.]]. قال أصحاب المعاني: ومعنى التعجب من الله أنه يُعجِّب المخلوقين، ويدلُّنا على أنهم قد حلّوا محلّ من يتعجب منه [[ينظر: "تفسير الطبري" 2/ 92، "زاد المسير" 1/ 176.]]، ولا يجوز على الله التعجب؛ لأنا قد ذكرنا أن التعجب إنما هو مما لا يعرف سببه، والله تعالى عالم لا يخفى عليه شيء [[قد دلت النصوص على إثبات صفة التعجب لله، وعقيدة أهل السنة إثباتها كما جاءت دون تأويل، قال الله تعالى: ﴿بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ﴾، في قراءة ضم تاء الفاعل، وقوله ﷺ: "عجب ربنا من قنوط عباده وقرب غِيَره" رواه أحمد 4/ 11 - 12، وقال ﷺ: "يعجب ربك من شاب ليست له صبوة" رواه أحمد 4/ 151، وفيه ضعف، وقوله ﷺ: "عجب الله عز وجل من قوم بأيديهم السلاسل حتى يدخلوا الجنة" أخرجه البخاري (3010) كتاب الجهاد والسير، باب: الأسارى في السلاسل وغيرها. وحقيقة التعجب: استغراب الشيء، ويكون ذلك لسببين: الأول: لخفاء الأمر على المستغرب المتعجب، وهذا مستحيل على الله؛ لأن الله عليم بكل شيء. والثاني: لخروج ذلك الشيء عن نظائره، وعما ينبغي أن يكون عليه، بدون قصور من المتعجب، وهذا ثابت لله عز وجل، وليس فيه نقص. ينظر: "شرح العقيدة الواسطية" للشيخ محمد العثيمين 2/ 446، "الأسماء والصفات" للبيهقي 2/ 415.]]. الوجه الثاني من التأويل: أن (ما) في هذه الآية استفهام يتضمن التوبيخ، معناه: ما الذي صبرهم؟، وأي شيء صبرهم على النار حين تركوا الحق واتبعوا الباطل؟ وهذا قول عطاء [[رواه عنه الطبري 2/ 91، وذكره عنه الثعلبي.]] وابن زيد [[رواه عنه الطبري 2/ 91، ورواه أيضا عن أبي بكر بن عياش، وزاد نسبته في "زاد == المسير" 1/ 177 إلى السدي، وهو قول أبي عبيدة في "مجاز القرآن"، ونسبه في "البحر المحيط" 1/ 495 إلى ابن عباس والمبرد، وذكر قولًا ثالثًا وهو أن ما نافية، والمعنى: أن الله ما أصبرهم على النار، أي ما يجعلهم يصبرون على العذاب.]]، وقد ذكرنا عن ابن الأنباري أصبر بمعنى صبّر. وقيل: معناه: أيُّ: شيء غرّهم من النار أنهم يصبرون عليها؟.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب