الباحث القرآني

القول في تأويل قوله تعالى: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ﴾ قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"أولئك الذين اشترَوُا الضلالة بالهدى"، أولئك الذين أخذوا الضلالة، وتركوا الهدى، وأخذوا ما يوجب لهم عذاب الله يوم القيامة، وتركوا ما يُوجب لهم غفرانه ورضْوَانه. فاستغنى بذكر"العذاب" و"المغفرة"، من ذكر السبب الذي يُوجبهما، لفهم سامعي ذلك لمعناه والمراد منه. وقد بينا نظائر ذلك فيما مضى. [[انظر ما سلف فهارس مباحث العربية.]] وكذلك بينا وجه"اشتروا الضلالة بالهدى" باختلاف المختلفين، والدلالة الشاهدة بما اخترنا من القول، فيما مضى قبل، فكرهنا إعادته. [[انظر ما سلف ١: ٣١١-٣١٥.]] * * * القول في تأويل قوله تعالى: ﴿فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ (١٧٥) ﴾ قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك. فقال بعضهم معنى ذلك: فما أجرأهم على العمل الذي يقرِّبُهم إلى النار. * ذكر من قال ذلك: ٢٥٠٠- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"فما أصْبَرهم على النار"، يقول: فما أجرأهم على العمل الذي يقربهم إلى النار. ٢٥٠١- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"فما أصْبَرهم على النار"، يقول: فما أجرأهم عليها. ٢٥٠٢- حدثني المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال، حدثنا هشيم، عن بشر، عن الحسن في قوله:"فما أصْبرهم على النار" قال، والله ما لهم عليها من صبر، ولكن ما أجرأهم على النار. ٢٥٠٣- حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد الزبيري قال، حدثنا مسعر = وحدثني المثنى قال، حدثنا أبو بكير قال، حدثنا مسعر =، عن حماد، عن مجاهد، أو سعيد بن جبير، أو بعض أصحابه:"فما أصبرهم على النار"، ما أجرأهم. ٢٥٠٤- حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله:"فما أصبرهم على النار"، يقول: ما أجرأهم وأصبرهم على النار. * * * وقال آخرون: بل معنى ذلك: فما أعملهم بأعمال أهل النار. * * * * ذكر من قال ذلك: ٢٥٠٥- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"فما أصْبرهم على النار" قال، ما أعملهم بالباطل. ٢٥٠٦- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله. * * * واختلفوا في تأويل"ما" التي في قوله:"فما أصبرهم على النار". فقال بعضهم: هي بمعنى الاستفهام، وكأنه قال: فما الذي صبَّرهم؟ أيُّ شيء صبرهم؟ [[وذلك قول أبي عبيدة في مجاز القرآن: ٦٤.]] * ذكر من قال ذلك: ٢٥٠٧- حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"فما أصبرَهم على النار"، هذا على وجه الاستفهام. يقول: مَا الذي أصبرهم على النار؟ ٢٥٠٨- حدثني عباس بن محمد قال، حدثنا حجاج الأعور قال، أخبرنا ابن جريج قال، قال لي عطاء:"فما أصبرهم على النار" قال، ما يُصبِّرهم على النار، حين تَركوا الحق واتبعوا الباطل؟ ٢٥٠٩- حدثنا أبو كريب قال: سُئل أبو بكر بن عياش:"فما أصبرهم على النار" قال، هذا استفهام، ولو كانت من الصبر قال:"فما أصبرُهم"، رفعًا. قال: يقال للرجل:"ما أصبرك"، ما الذي فعل بك هذا؟ ٢٥١٠- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"فما أصبرهم على النار" قال، هذا استفهام. يقول ما هذا الذي صبَّرهم على النار حتى جَرأهم فعملوا بهذا؟ * * * وقال آخرون: هو تعجُّب. يعني: فما أشد جراءتهم على النار بعَملهم أعمال أهل النار! * ذكر من قال ذلك: ٢٥١١- حدثنا سفيان بن وكيع قال، حدثنا أبي، عن ابن عيينة، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"فما أصبرهم على النار" قال، ما أعملهم بأعمال أهل النار! وهو قول الحسن وقتادة، وقد ذكرناه قبل. [[انظر ما سلف رقم: ٢٥٠١، ٢٥٠٢.]] * * * فمن قال: هو تعجُّب - وجَّه تأويلَ الكلام إلى:"أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى والعذابَ بالمغفرة"، فما أشد جراءتهم -بفعلهم ما فعلوا من ذلك- على ما يوجب لهم النار! كما قال تعالى ذكره: ﴿قُتِلَ الإنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ﴾ [سورة عبس: ١٧] ، تعجبًا من كفره بالذي خَلقه وسَوَّى خلقه. * * * فأما الذين وجهوا تأويله إلى الاستفهام، فمعناه: هؤلاء الذين اشتروا الضلالة بالهدى والعذاب بالمغفرة، فما أصبرهم على النار -والنار لا صبر عليها لأحد- حتى استبدلوها بمغفرة الله فاعتاضوها منها بدلا؟ * * * قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بتأويل الآية قول من قال: ما أجرأهم على النار، بمعنى: ما أجرأهم على عَذاب النار وأعملهم بأعمال أهلها. وذلك أنه مسموع من العرب:"ما أصبرَ فلانًا على الله"، بمعنى: ما أجرأ فلانًا على الله! [[انظر خبر ذلك في معاني القرآن للفراء ١: ١٠٣.]] وإنما يعجب الله خَلقه بإظهار الخبر عن القوم الذين يكتمون ما أنزل الله تبارك وتعالى من أمر محمد ﷺ ونبوَّته، واشترائهم بكتمان ذلك ثَمنًا قليلا من السحت والرشى التي أعطوها - على وَجه التعجب من تقدمهم على ذلك. [[قدم، وتقدم، وأقدم، واستقدم، كلها بمعنى واحد، إذا كان جرئيًا فاقتحم.]] مع علمهم بأنّ ذلك موجبٌ لهم سَخط الله وأليم عقابه. وإنما معنى ذلك: فما أجرأهم علي عذاب النار! ولكن اجتزئ بذكر"النار" من ذكر"عذابها"، كما يقال:"ما أشبه سخاءك بحاتم"، بمعنى: ما أشبه سَخاءك بسخاء حاتم،"وما أشبه شَجاعتك بعنترة". [[انظر معاني القرآن للفراء ١: ١٠٣، أيضًا.]]
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب