الباحث القرآني

قوله تعالى: ﴿وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ﴾ إنما كرر هذا؛ لأن هذا من مواضع التوكيد؛ لأجل النسخ الذي نُقلوا فيه من جهة إلى جهة للتقرير [[ينظر: "تفسير البغوي" 1/ 165، "المحرر الوجيز" 2/ 24.]]. وقوله تعالى ﴿لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ﴾ قيل: الحجة: فُعلة، من الحج الذي هو القصد، لأنها مقصودة للمخاصم، ومنه: المحجّة: لأنها تقصد بالسلوك. والمخاصمةُ يقال لها: المحاجّة؛ لقصد كل واحد من الخصمين إلى إقامة بينته وإبطال ما في يد صاحبه [[ينظر: "تفسير الثعلبي" 1/ 1250، "المفردات" ص 115، "لسان العرب" 2/ 779 (حجج).]]. وقوله تعالى ﴿إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا﴾ اختلف العلماء في وجه هذا الاستثناء، وهم في هذه الآية فريقان: فريق أوّلوا الآية على سياقها، وصححوا الاستثناء على ظاهره [[بين أبو حيان في "البحر المحيط" 1/ 441 أن الاستثناء في الآية متصل، ونسبه إلى ابن عباس، قال: واختاره الطبري، وبدأ به ابن عطية، ولم يذكر الزمخشري غيره، وذلك أنه متى أمكن الاستثناء المتصل إمكانًا حسنًا كان أولى من غيره.]]، وهم مجاهد [[ينظر: "تفسير ابن أبي حاتم" 1/ 259، وذكره الثعلبي 1/ 1251.]] وعطاء [[رواه عنه الطبري 2/ 32، وذكره الثعلبي 1/ 1251.]] وقتادة [[رواه عنه الطبري 2/ 32، وذكره الثعلبي 1/ 1251.]] والربيع [[رواه الطبري 2/ 32، وذكره الثعلبي 1/ 1251.]] والسدي [[رواه عنه الطبري 2/ 32، وذكره الثعلبي 1/ 1251.]] وابن جرير [[ينظر: "تفسير الطبري" 2/ 31 - 35.]] وأبو روق [[هو عطية بن الحارث الهمداني الكوفي صدوق، صاحب تفسير، عده ابن حجر من طبقة صغار التابعين، ينظر: "تقريب التهذيب" ص 393 (4615)، "الجرح والتعديل" 3/ 382.]] [[ينظر: "تفسير الثعلبي" 1/ 1254.]]، قالوا: الناس هاهنا اليهود، كانوا يحتجون على رسول الله ﷺ في صلاتهم إلى بيت المقدس، ويقولون: ما درى محمد وأصحابه أين قبلتهم حتى هديناهم نحن، ويقولون: يخالفنا محمد في ديننا ويتبع قبلتنا [[ينظر: "تفسير الطبري" 2/ 31 - 32، 2/ 19 - 20، والثعلبي 1/ 1251، والبغوي 1/ 165، و"زاد المسير" 1/ 159 - 160، وزاد نسبة هذا القول لابن عباس وأبي العالية ومقاتل.]]. وهذا كان حجتهم التي كانوا يحتجون بها على المؤمنين، على وجه الخصومة والتمويه بها على الجهال، فلما صرفت القبلة إلى الكعبة بطلت هذه الحجة [[ينظر: "تفسير الثعلبي" 1/ 1251، "معاني القرآن" للزجاج 1/ 226 - 227، "البحر المحيط" 1/ 442.]]. ثم قال: ﴿إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا﴾ وهم المشركون، فإنهم قالوا: قد تحيّر محمد في دينه، فتوجه إلى قبلتنا، وعلِم أنّا [[في (ش): (أننا).]] أهدى سبيلًا منه، ويوشك أن يرجع إلى ديننا [[ذكر ذلك الطبري في "تفسيره" 2/ 32 - 34، وابن أبي حاتم 1/ 258، بسنده عن أبي العالية، ثم ذكر عن مجاهد وعطاء والسدي وقتادة والربيع بن أنس والضحاك، وينظر: "تفسير الثعلبي" 3/ 1251، والبغوي 1/ 156.]]، فهؤلاء تبقى لهم [[في (أ)، (م): (فهو لانتقالهم الخصومة).]] الخصومة. والحجةُ قد تكون بمعنى الخصومة، كقوله: ﴿لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُم﴾ [الشورى: 15]، أي: لا خصومة [[ينظر: "تفسير الطبري" 2/ 31، "تفسير الثعلبي" 1/ 1252.]]. قال أبو روق: حجة اليهود أنّهم كانوا قد عرفوا أنّ النبيّ المبعوث في آخر الزمان قبلته الكعبة، وأنه يحوَّل إليها، فلما رأوا محمدًا ﷺ يصلي إلى الصخرة واحتجوا بذلك، فصرفت قبلته إلى الكعبة؛ لئلا يكون لهم عليه حجة إلا الذين ظلموا منهم [[ذكره الثعلبي في "تفسيره" 1/ 1254، والبغوي 1/ 165، وقد ذكر الرازي في "تفسيره" 4/ 140 أربعة أوجه لتأويل كون الاستثناء متصلًا.]]، يريد: إلا الظالمين الذين يكتمون ما عرفوا من أنه يُحَوَّل إلى الكعبة. وقال المفضَّل بن سلمة [[هو المفضل بن سلمة بن عاصم، أبو طالب الضبي، لغوي، كان كوفي المذهب في النحو، لقي ابن الأعرابي وغيره من العلماء، توفي في نحو 290 هـ كما في "الأعلام". ينظر: "إنباه الرواة" 3/ 305، "بغية الوعاة" 2/ 296 - 297، "الأعلام" 7/ 279.]]: المراد بالناس في هذه الآية: جميع الناس، كانوا يحتجّون على النبي ﷺ بأنه [[في (م): (لأنه).]] لو كان نبيًّا لكانت له قبلة، ولم يصلّ إلى قبلة اليهود، فلما حُوِّلت قبلته إلى الكعبة، بطل هذا الاحتجاج، إلا أن الظالمين يتعنتون ويخاصمون. فيقول المشركون ومن دان بدينهم: إنما رجع إلى الكعبة؛ لأنها قبلة آبائه وهي الحق، وكذا يرجع إلى ديننا، ويقول اليهود: إنما انصرف عن بيت المقدس مع علمه بأنه حق؛ لأنه يفعل برأيه ويزعم أنه أُمِرَ به. وهذا مذهب أبي إسحاق، فإنه يقول: المعنى: لأن لا يكون للناس عليكم حجة إلا من ظلم باحتجاجه فيما قد وضح له، كما تقول: مالك علي حجة، وحجته داحضة عند الله -عز وجل- قال الله تعالى: ﴿حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ﴾ [الشورى: 16]، فسماها حجة مع بطلانها. وعلى هذا المذهب موضع (الذين) خفض على البدل من الناس: كما تقول: ما مررت بأحد إلا زيد. ويجوز أن يكون موضعه نصبًا على الاستثناء، كما يستثنى بعد الإيجاب؛ كقوله: ﴿مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ﴾ [النساء: 66] من رفعه جعله بدلًا من الواو، ومن نصبه نصبه على الاستثناء [[قرأ ابن عامر بنصب قليل والباقون برفعها، ينظر: "السبعة" ص 235.]]، وكذلك: ﴿وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ﴾ [هود: 81]، رفعًا ونصبًا [[قرأ ابن كثير وأبو عمرو إلا امرأتك برفع التاء. والباقون بنصبها. ينظر: "السبعة" ص 338.]]. وأما الفريق الثاني فإنهم لم يصححوا الاستثناء، وعدلوا به عن ظاهره، وهم الأخفش والمؤرج والفراء ومعمر بن المثنى. قال الفراء والمؤرج: هذا استثناء منقطع من الكلام الأول، ومعناه: لأن لا يكون للناس كلهم عليكم حجة إلا الذين ظلموا فإنهم يحاجّونكم بالظلم. هذا معنى قولهما، ثم قال الفراء: وهو كما تقول في الكلام: الناس كلهم حامدون إلا الظالم لك، فإن ذلك لا يُعتدّ به وبتركه الحمد لعداوته لك، وكذلك: الظالم لا حجة له وقد سمّي ظالمًا. قال ابن الأنباري: (إلاَّ) في الاستثناء المنقطع له معنيان: أحدهما: أن يكون الذي بعدها مستأنفًا، يلابس الأول من جهة عائد عليه منها، أو معنى يقرب به منه، كقول القائل: قعدنا نتذاكر الخير وما يقرّبنا من الله، إلا أن قومًا يبغضون ما كنا فيه. فالذي بعد (إلا) مستأنف، يلبس بالأول من جهة المعنى، وذلك بغضهم لما كانوا فيه، فتأويل إلا: لكن قومًا. ولو لم يلتبس ما بعد (إلا) بما قبلها من وجه لم يكن الاستثناء معنى على جهة إيصال ولا انقطاع، ولذلك يقول النحويون: (إلا) في الاستثناء المنقطع بمنزلة (لكن)، لأن الذي بعد (لكن) مستأنف. وبهذا قال الأخفش في هذه الآية، لأنه قال: معناه: لكن الذين ظلموا، كقوله: ﴿مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ﴾ [النساء: 157] يعني: لكن الذين يتبعون الظن ﴿وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى (19) إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى﴾ [الليل:19 - 20]، يعني: لكن يبتغي، فيكون منقطعًا من الكلام الأول. وأما المتصل فإنه يخرج من أسماء تشاكله ومن فعل يخالف بخروجه منه ما قبله من الأسماء المذكورة، كما تقول: خرج القوم إلا زيدًا، فزيد من جنس القوم قد خالفهم بترك الخروج. والمنقطع لا يكون مخرجًا من الأسماء التي قبل إلا في الظاهر، ولكن من معنى من معاني الكلام يجب به الملابسة كما ذكرنا. والمعنى الثاني في الاستثناء المنقطع: أن يكون مؤكدًا لما قبله، وذلك أن الرجل إذا قال: ارتحل الناس إلا الأثقال، أكّد ارتحال الناس بقوله: إلا الأثقال، وذهب إلى أنه إذا لم يبق إلا الأثقال، كان القوم كلهم مرتحلين، وكان تأويله: ارتحل الناس كلهم. وكذلك: مضى العسكر إلا الأبنية والخيام، معناه: مضوا أجمعون؛ لأنه إذا لم يبق إلا بناء وخيمة كان القوم غير متخلف منهم واحد. ومنه قوله عز وجل: ﴿وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ﴾ [النساء: 23] معناه: لكن ما قد سلف وأنتم غير مؤاخذين، فهو مستأنف يلابس الأول، إذ كان أخرج من الأمور التي فيها المآثم والأوزار، فجعل لا مأثم فيه ولا وزر، ومثله قول النابغة: ......... وما بالربع من أحد إلا أواري ......... [[تمام البيتين: وقفتُ بها أصيلانًا أسائلها ... عيَّتْ جوابًا وما بالربع من أحدِ إلا الأواريَّ لأيًا ما أبينها ... والنؤيُ كالحوض بالمظلومة الجَلَدِ ينظر: "ديوانه" ص 9، "الأغاني" 11/ 27، "الخزانة" 2/ 122.]] معناه: لكن، وضم الاستثناء؛ لأنها كانت مستثناة ممن كان بالربع، فالربع كان يشملهم، وهذا ملابسة بينهما، وأيضًا فإن هذا التأكيد لخلو الأرض؛ لأنه إذا لم يبق في الدار إلا الأواري كان خلوها من الإنس متيقنًا. فهذان المعنيان ذكرناهما في الاستثناء المنقطع تحتملهما الآية؛ لأن الظالمين وإن لم يكن لهم حجة فهم يموّهون ويحتجون بالباطل، وأيضًا: فإنه إذا لم يكن لأحد عليهم حجة إلا من كان ظالمًا كان في هذا تأكيدًا لنفي الحجة. فعلى المذهب الأول: الظالمون كانوا ظالمين بشركهم وكفرهم، وعلى المذهب الثاني: كانوا ظالمين لاحتجاجهم بما لا متعلق لهم به. وموضع (الذين) على هذا القول -وهو قول الفريق الثاني- نصب على أكثر العرب؛ لأنهم ينصبون ما كان من الاستثناء المنقطع كقوله: إلا أواريّ ...... غير أن بني تميم يجيزون البدل، كما يكون الاستثناء متصلًا، وعلى لغتهم ينشد: وبلدةٍ ليس بها أنيسُ ... إلّا اليعافيرُ وإلّا العِيسُ [[الرجز لجران العود في "ديوانه" ص 97، "لسان العرب" 7/ 3938 (كنز)، وأوضح المسالك 2/ 261.]] فجعل اليعافير بدلًا من الأنيس. والقرآن نزل بلغة أهل الحجاز فلذلك نصب كل مستثنى منقطع من الأول، كقوله: ﴿إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ﴾ [النساء: 157] وقوله: ﴿فَلَا صَرِيخَ لَهُمْ﴾ ثم قال: ﴿إِلَّا رَحْمَةً﴾ [يس:43 - 44] وكذلك قوله: ﴿إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ﴾ [الليل: 20] [[ينظر: "تفسير البغوي" 1/ 165، وقال في "البحر" 1/ 442 مبينا مثار الخلاف بين من قال بالاتصال والانقطاع هو: هل الحجة هو الدليل والبرهان الصحيح، أو الحجة هو الاحتجاج والخصومة؟ فإن كان الأول: فهو استثناء منقطع، وإن كان الثاني: فهو استثناء متصل.]]. وقال معمر بن المثنى: إلا هاهنا معناها: الواو، فهو عطفٌ عُطِف به ﴿الَّذِينَ﴾ على ﴿النَّاسِ﴾. والمعنى: لئلا يكون للناس والذين ظلموا عليكم حجة [[ينظر: "مجاز القرآن" لأبي عبيدة 1/ 60 - 61، و"تفسير الثعلبي" 1/ 1255، و"تفسير البغوي" 1/ 166.]]، واحتُجَّ على هذا المذهب بأبيات منها [[احتج أبو عبيدة بهذه الأبيات: الأول للأعشى: إلا كخارجةَ المكلِّفِ نفسَه ... وابني قبيصة أن أَغيبَ وأشهدا ومعناه: وخارجة. والثاني: لعنز بن دجاجة المازني: من كان أسرع في تفرق فالج ... فلبونُه جَرِبتْ معَا وأغدَّتِ إلا كناشرةَ الذي ضيّعتمُ ... كالغصن في غُلَوائه المتنبِّتِ يريد وناشرة الذي ضيعتم.]]: وكل أخٍ مفارقُهُ أخوه ... لَعَمْرُ أبيك إلا الفرقدان [[البيت. نسب لعمرو بن معدي كرب، ينظر: "ديوانه" ص178، "الكتاب" 2/ 334، "المؤتلف والمختلف" ص 151، ولعمرو أو لحضرمي في "خزانة الأدب" 3/ 421. وهو بلا نسبة في "تفسير الثعلبي" 1/ 1255، "لسان العرب" 6/ 3402 "فرقد". والفرقدان: نجمان في السماء لا يغربان.]] فقال: أراد: والفرقدان أيضًا يفترقان. وما أنشده الأخفش [[ينظر: "معاني القرآن" للأخفش 1/ 152.]]: وأرى لها دارًا بأغْدِرَةِ السِّيـ ... ـدَانِ لم يَدْرُس لها رَسْمُ إلّا رَمَادًا خامدًا دَفَعَتْ ... عنهُ الرِّياحَ خَوَالِد سُحْمُ [[البيت للمُخَبَّل السعدي، ينظر: "ديوانه" ص 312، "تفسير الثعلبي" 1/ 1256، "لسان العرب" 2/ 1225 (خلد)، "المفضليات" ص 113 - 114. والأغدرة: جمع غدير، السِّيدان: أرض لبني سعد. الخوالد: البواقي وعنى بها: الأثافي. سحم: ذات لون يضرب إلى السواد.]] أراد: أرى دارًا ورمادًا [[سقط من (ش).]]. وهذا القول عند الفراء خطأ [[ينظر: "معاني القرآن" للفراء 1/ 89، وخطأه أيضًا الطبري في "تفسيره" 2/ 33 - 34، وقال في "البحر المحيط" 1/ 442: وإثبات إلا بمعنى الواو، لا يقوم عليه دليل، والاستثناء سائغ فيما ادعى فيه أن إلا بمعنى الواو، وكان أبو عبيدة يضعَّف في النحو، ثم نقل تخطئة الزجاج لهذا القول.]]؛ لأن (إلا) [[كتبت في (ش): (لئلا).]] لا يُخرج عن الاستثناء إلى النسق حتى يتقدمها عدد لا يصلح أن يستثنى منه، فتجري مجرى الواو إذا بطل فيها معنى الاستثناء، بيانه: قولك: لي على فلان ألفٌ إلا عشرةً إلا مائةً، لا يصلح استثناء المائة من العشرة، فعادت المائة إلى الألف لا بالاستثناء ولكن بالعطف، كأنك أغفلت المائة فاستدركتها فقلت: اللهم إلا مائة فالمعنى: لي عليه ألف ومائة، وكما قال الشاعر: ما بالمدينة دارٌ غيرُ واحدةٍ ... دارُ الخليفة إلا دارُ مروانا [[البيت للفرزدق في "الكتاب" 2/ 340، وليس في "ديوانه"، وبلا نسبة في "تذكره النحاة" ص 596، "المقتضب" 4/ 425.]] كأنه قال: ما بالمدينة دار إلا دار الخليفة ودار مروان [[ينظر: "معاني القرآن" للفراء 1/ 89 - 90.]]. فعند الفراء إنما تكون (إلا) [[سقطت من (ش).]] بمنزله الواو إذا عطفتها على استثناء قبلها، لا يصلح أن يكون الثاني استثناء من الأول، كما بيّنا، ومن الناس من صوّب أبا عبيدة في مذهبه، وصحح قوله بما احتج به من الشعر. وقال قطرب: الاستثناء في هذه الآية من الضمير في ﴿عَلَيْكُمْ﴾، المعنى: لئلا يكون للناس عليكم حجة إلا على الذين ظلموا منهم فإن عليهم الحجة [[ينظر: "تفسير الثعلبي" 1/ 1257، "التفسير الكبير" 4/ 140، "البحر المحيط" 1/ 442، وممن ضَّعف هذا: الطبري في "تفسيره" 2/ 34.]]، وهذا الوجه اختيار أبي منصور الأزهري. حكاه لي أحمد بن إبراهيم المقبري -رحمه الله- عن الحسن بن محرم، عنه. قال أبو بكر بن الأنباري: وهذا عندي بعيد رديء [[ساقط من (أ)، (م).]]؛ لأن المكني المخفوض لا ينسق عليه إلا بإعادة الخافض، ولأن [[في (ش): (ولكن).]] الكاف والميم في عليكم، للمخاطبين، فلو استثنى الذين ظلموا منهم لقال: إلا الذين ظلموا منكم، فلما قال: (منهم) دلّ بالغيبة على أنّ الذين ظلموا لم [[في (ش): (من).]] يُستثنَوا من الكاف والميم. وقوله تعالى: ﴿فَلَا تَخْشَوْهُمْ﴾ الكناية ترجع إلى الذين ظلموا، والمعنى: لا تخشوهم في انصرافكم إلى الكعبة، وفي تظاهرهم عليكم في المحاجّة والمحاربة [[في (ش): (والمجابهة).]]، فإني وليكم، أُظْهركم عليهم بالحجة والنصرة [[ينظر: "تفسير الثعلبي" 1/ 1257.]]. ﴿وَاخْشَوْنِي﴾ في تركها ومخالفتها [[ينظر: "تفسير الثعلبي" 1/ 1257، والطبري 2/ 35، و"معالم التنزيل" 1/ 166.]]. ﴿وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ﴾ عطف على قوله: ﴿لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ﴾ [[ينظر: "تفسير الثعلبي" 1/ 1258، "البحر المحيط" 1/ 422، "التبيان" ص 105.]]، ولكن [[هكذا وردت في الأصول، ووردت في "الثعلبي": ولكي. وهي أوضح في المعنى.]] أتم نعمتي عليكم بهدايتي إياكم إلى قبلة إبراهيم فتتم لكم الملة الحنيفية [[ينظر: "تفسير الثعلبي" 1/ 1258، والطبري 2/ 35، والبغوي 1/ 166.]]. قال عطاء: عن ابن عباس: ﴿وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ﴾ يريد: في الدنيا والآخرة، أما الدنيا: فأنصركم على عدوكم، وأورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم وأولادهم، وأما في الآخرة: ففي رحمتي وجنتي، وأزوجكم من الحور العين [[تقدم الحديث عن هذه الرواية في المقدمة.]]. وقال علي - رضي الله عنه -: تمام النعمة: الموت على الإسلام. وعنه أيضًا: النعم ست: الإسلام [[ساقطة من (ش).]] [[ذكره عنه الثعلبي 1/ 1258، والبغوي 1/ 166.]]، والقرآن، ومحمد ﷺ، والستر، والعافية، والغنى عما في أيدي الناس [[ذكره عنه الثعلبي في "تفسيره" 1/ 1258، وذكر أبوحيان في "البحر المحيط" 1/ 443: ثمانية أقوال في معنى تمام النعمة، قال فيها: صدرت مصدر المثال، لا مصدر التعيين، وكل فيها نعمة.]]. وقوله تعالى: ﴿وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾ ذكرنا معنى (لعل) فيما تقدم [[وقد ذكر الثعلبي في هذا الموضع من "تفسيره" 1/ 1258 - 1260: معاني لعل.]]، ونظمُ الكلام يوجب طرح الواو؛ لأن معناه: ولأتم [[في (ش): (لأتم).]] نعمتي عليكم لعلكم تهتدون بنعمتي، إلا أنه قد يحسن استعمال الواو في مثل هذا الموضع، ويستفاد منه أن يكون ما بعده جملة مبتدئة تتضمن الاتصال بما سبق من الكلام، ويحسن حذف الواو فيكون حينئذ اتصالًا محضًا لا يتضمن استئناف جملة، مثاله: أن تقول: أعطيتك وأكرمتك أرجو رُشْدك، ويحسن أن تقول: وأرجو رُشْدك، أي: بالإكرام والإعطاء، وإن كانت جملة مبتدئة.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب