الباحث القرآني

﴿ومِن حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وجْهَكَ شَطْرَ المَسْجِدِ الحَرامِ وحَيْثُما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكم شَطْرَهُ﴾: ظاهِرُ هَذِهِ الجُمْلَةِ أنَّها كُرِّرَتْ تَوْكِيدًا لِما قَبْلَها في الآيَةِ الَّتِي تَلِيها فَقَطْ، لا أنَّ ذَلِكَ تَوْكِيدٌ لِلْآيَةِ الأُولى، لِأنّا قَدْ بَيَّنّا أنَّ الأُولى في الإقامَةِ، والثّانِيَةَ في السَّفَرِ، وأمّا الثّالِثَةُ فَهي في السَّفَرِ، فَهي تَأْكِيدٌ لِلثّانِيَةِ. وحِكْمَةُ هَذا التَّأْكِيدِ تَثْبِيتُ هَذا الحُكْمِ، وتَقْرِيرُ نَسْخِ اسْتِقْبالِ بَيْتِ المَقْدِسِ؛ لِأنَّ النَّسْخَ هو مِن مَظانِّ الفِتْنَةِ والشُّبْهَةِ وتَزْيِينِ الشَّيْطانِ لِلطَّعْنِ في تَبْدِيلِ قِبْلَةٍ بِقِبْلَةٍ، إذْ كانَ ذَلِكَ صَعْبًا عَلَيْهِمْ، فَأكَّدَ بِذَلِكَ أمْرَ النَّسْخِ وثَبَّتَ. وكانَ التَّأْكِيدُ عَلى ما قَرَّرْناهُ بِتَكْرِيرِ هَذِهِ الجُمَلِ مَرَّتَيْنِ؛ لِأنَّ ذَلِكَ هو الأكْثَرُ المَعْهُودُ في لِسانِ العَرَبِ، وهو أنْ تُعادَ الجُمْلَةُ مَرَّةً واحِدَةً. وقالَ المَهْدَوِيُّ: كُرِّرَتْ هَذِهِ الأوامِرُ؛ لِأنَّهُ لا يَحْفَظُ القُرْآنَ كُلُّ أحَدٍ، فَكانَ يُوجَدُ عِنْدَ بَعْضِ النّاسِ ما لَيْسَ عِنْدَ بَعْضٍ لَوْ لَمْ يُكَرِّرْ. وهَذا المَعْنى في التَّكْرِيرِ يُرْوى عَنْ جَعْفَرٍ الصّادِقِ، ولِهَذا المَعْنى رُفِعَ التَّكْرِيرُ في القِصَصِ. وقِيلَ: لَمّا كانَتْ هَذِهِ الواقِعَةُ أوَّلَ الوَقائِعِ الَّتِي ظَهَرَ النَّسْخُ فِيها في شَرْعِنا، كُرِّرَتْ لِلتَّأْكِيدِ والتَّقْرِيرِ وإزالَةِ الشُّبْهَةِ، وقَدْ ذَكَرَ العُلَماءُ في هَذِهِ الآياتِ مُخَصَّصاتٍ تُخْرِجُها بِذَلِكَ عَنِ التَّأْكِيدِ. فَقِيلَ: الأُولى مِن قَوْلِهِ: (فَوَلِّ وجْهَكَ)، نَسْخٌ لِلْقِبْلَةِ الأُولى، والثّانِيَةُ لِاسْتِواءِ الحُكْمِ في جَمِيعِ الأمْكِنَةِ، والثّالِثَةُ لِلدَّوامِ في جَمِيعِ الأزْمانِ. وقِيلَ: الأُولى في المَسْجِدِ الحَرامِ، والثّانِيَةُ خارِجُ المَسْجِدِ، والثّالِثَةُ خارِجُ البَلَدِ. وقِيلَ: الخُرُوجُ الأوَّلُ إلى مَكانٍ تُرى فِيهِ الكَعْبَةُ، والثّانِي إلى مَكانٍ لا تُرى فِيهِ، فَسَوّى بَيْنِ الحالَتَيْنِ. وقِيلَ: الخُرُوجُ الأوَّلُ مُتَّصِلٌ بِذِكْرِ السَّبَبِ، وهو: ﴿وإنَّهُ لَلْحَقُّ مِن رَبِّكَ﴾ [البقرة: ١٤٩]، والثّانِي مُتَّصِلٌ بِانْتِفاءِ الحُجَّةِ، وهو: ﴿لِئَلّا يَكُونَ لِلنّاسِ عَلَيْكم حُجَّةٌ﴾ . وقِيلَ: الأوَّلُ لِجَمِيعِ الأحْوالِ، والثّانِي لِجَمِيعِ الأمْكِنَةِ، والثّالِثُ لِجَمِيعِ الأزْمِنَةِ. وقِيلَ: الأوَّلُ أنْ يَكُونَ الإنْسانُ في المَسْجِدِ الحَرامِ، والثّانِي: أنْ يَكُونَ خارِجًا عَنْهُ وهو في البَلَدِ، والثّالِثُ أنْ يَخْرُجَ عَنِ البَلَدِ إلى أقْطارِ الأرْضِ، فَسَوّى بَيْنِ هَذِهِ الأحْوالِ، لِئَلّا يُتَوَهَّمَ أنَّ لِلْأقْرَبِ حُرْمَةً لا تَثْبُتُ لِلْأبْعَدِ. وقِيلَ: التَّخْصِيصُ حَصَلَ في كُلٍّ واحِدٍ مِنَ الثَّلاثَةِ بِأمْرٍ، فالأوَّلُ بَيَّنَ فِيهِ أنَّ أهْلَ الكِتابِ يَعْلَمُونَ أمْرَ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ ﷺ وأمْرَ هَذِهِ القِبْلَةِ، حَتّى أنَّهم شاهَدُوا ذَلِكَ في التَّوْراةِ والإنْجِيلِ، والثّانِي فِيهِ شَهادَةُ اللَّهِ بِأنَّ ذَلِكَ حَقٌّ، والثّالِثُ بَيَّنَ فِيهِ أنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ ﴿لِئَلّا يَكُونَ لِلنّاسِ عَلَيْكم حُجَّةٌ﴾، فَقَطَعَ بِذَلِكَ قَوْلَ المُعانِدِينَ. وقِيلَ: الأوَّلُ مَقْرُونٌ بِإكْرامِهِ تَعالى إيّاهم بِالقِبْلَةِ الَّتِي كانُوا يُحِبُّونَها، وهي قِبْلَةُ إبْراهِيمَ - عَلى نَبِيِّنا وعَلَيْهِ أفْضَلُ الصَّلاةِ والسَّلامِ - بِقَوْلِهِ: ﴿ولِكُلٍّ وِجْهَةٌ هو مُوَلِّيها﴾ [البقرة: ١٤٨]، أيْ لِكُلِّ صاحِبِ دَعْوَةِ قِبْلَةٌ يَتَوَجَّهُ إلَيْها، فَتَوَجَّهُوا أنْتُمْ إلى أشْرَفِ الجِهاتِ الَّتِي يَعْلَمُ اللَّهُ أنَّها الحَقُّ، والثّالِثُ مَقْرُونٌ بِقَطْعِ اللَّهِ حُجَّةَ مَن خاصَمَهُ مِنَ اليَهُودِ. وقِيلَ: رُبَّما خَطَرَ في بالِ جاهِلٍ أنَّهُ تَعالى فَعَلَ ذَلِكَ لِرِضا نَبِيِّهِ لِقَوْلِهِ: ﴿فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها﴾ [البقرة: ١٤٤]، فَأزالَ هَذا الوَهْمَ بِقَوْلِهِ: ﴿وإنَّهُ لَلْحَقُّ مِن رَبِّكَ﴾ [البقرة: ١٤٩]، أيْ ما حَوَّلْناكَ لِمُجَرَّدِ الرِّضا، بَلْ لِأجْلِ أنْ هَذا التَّحْوِيلَ هو الحَقُّ، فَلَيْسَتْ كَقِبْلَةِ اليَهُودِ الَّتِي يَتَّبِعُونَها بِمُجَرَّدِ الهَوى، ثُمَّ أعادَ ثالِثًا، والمُرادُ: دُومُوا عَلى هَذِهِ القِبْلَةِ في جَمِيعِ الأزْمِنَةِ. وقِيلَ: كَرَّرَ (وحَيْثُما كُنْتُمْ)، فَحَثَّ بِإحْداهُما عَلى التَّوَجُّهِ إلى القِبْلَةِ بِالقَلْبِ والبَدَنِ، في أيْ مَكانٍ كانَ الإنْسانُ، نائِيًا كانَ عَنْها أوْ دانِيًا مِنها، وذَلِكَ في حالِ التَّمَكُّنِ والِاخْتِيارِ، وحَثَّ بِالأُخْرى عَلى التَّوَجُّهِ بِالقَلْبِ نَحْوَهُ عِنْدَ اشْتِباهِ القِبْلَةِ في حالَةِ المُسابَقَةِ، وفي النّافِلَةِ في حالَةِ السَّفَرِ، وعَلى الرّاحِلَةِ في السَّفَرِ. (لِئَلّا يَكُونَ): هَذِهِ لامُ كَيْ، وأنَّ بَعْدَها لا النّافِيَةُ، وقَدْ حَجَزَ بِها بَيْنَ أنْ ومَعْمُولِها الَّذِي هو يَكُونُ، كَما أنَّهم حَجَزُوا بِها بَيْنَ الجازِمِ والمَجْزُومِ في قَوْلِهِمْ: أإنْ لا تَفْعَلَ أفْعَلُ. وكُتِبَتْ في المُصْحَفِ: لا ما بَعْدَها ياءٌ، بَعْدَها لامُ ألْفٍ، فَجَعَلُوا صُورَةً لِلْهَمْزَةِ الياءَ، وذَلِكَ عَلى حَسَبِ (p-٤٤١)التَّخْفِيفِ الَّذِي قَرَأ بِهِ نافِعٌ في القُرْآنِ مِن إبْدالِ هَذِهِ الهَمْزَةِ ياءً. وقَرَأ الجُمْهُورُ بِالتَّحْقِيقِ: وهَذِهِ أنْ واجِبَةُ الإظْهارِ هُنا؛ لِكَراهَتِهِمُ اجْتِماعَ لامِ الجَرِّ مَعَ لا النّافِيَةِ؛ لِأنَّ في ذَلِكَ قَلَقًا في اللَّفْظِ، وهي جائِزَةُ الإظْهارِ في غَيْرِ هَذا المَوْضِعِ، فَإذا أثْبَتُوها، فَهو الأصْلُ، وهو الأقَلُّ في كَلامِهِمْ، وإذا حَذَفُوها؛ فَلِأنَّ المَعْنى يَقْتَضِيها ضَرُورَةَ أنَّ اللّامَ لا تَكُونُ النّاصِبَةَ؛ لِأنَّها قَدْ ثَبَتَ لَها أنْ تَعْمَلَ في الأسْماءِ الجَرَّ، وعَوامِلُ الأسْماءِ لا تَعْمَلُ في الأفْعالِ. ﴿لِلنّاسِ عَلَيْكم حُجَّةٌ﴾: أيِ احْتِجاجٌ. والنّاسُ: قِيلَ هو عُمُومٌ في اليَهُودِ والعَرَبِ وغَيْرِهِمْ. وقِيلَ: اليَهُودُ، وحُجَّتُهم قَوْلُهم: يُخالِفُنا مُحَمَّدٌ في قِبْلَتِنا، وقَدْ كانَ يَتْبَعُها، أوْ لَمْ يَنْصَرِفْ عَنْ بَيْتِ المَقْدِسِ، مَعَ عِلْمِهِ بِأنَّهُ حَقٌّ إلّا بِرَأْيِهِ، ويَزْعُمُ أنَّهُ أُمِرَ بِهِ، أوْ ما دَرى مُحَمَّدٌ وأصْحابُهُ أيْنَ قِبْلَتُهم حَتّى هَدَيْناهم. وقِيلَ: مُشْرِكُو العَرَبِ، وحُجَّتُهم قَوْلُهم: قَدْ رَجَعَ مُحَمَّدٌ إلى قِبْلَتِنا، وسَيَرْجِعُ إلى دِينِنا حِينَ صارَ يَسْتَقْبِلُ القِبْلَةَ. وقِيلَ: النّاسُ عامٌّ، والمَعْنى: أنَّ اللَّهَ وعَدَهم بِأنَّهُ لا يَقُومُ لِأحَدٍ عَلَيْهِمْ حُجَّةٌ إلّا حُجَّةً باطِلَةً، وهي قَوْلُهم: يُوافِقُ اليَهُودَ مَعَ قَوْلِهِ: إنِّي حَنِيفٌ أتَّبِعُ مِلَّةَ إبْراهِيمَ، أوْ لا يَقِينَ لَكم ولا تَثْبُتُونَ عَلى دِينٍ، أوْ قالُوا: ما لَكَ تَرَكْتَ بَيْتَ المَقْدِسِ ؟ إنْ كانَتْ ضَلالَةً فَقَدْ دِنْتَ بِها، وإنْ كانَتْ هُدًى فَقَدْ نَقَلْتَ عَنْهُ، أوْ قَوْلُهُمُ: اشْتاقَ الرَّجُلُ إلى بَيْتِ أبِيهِ ودِينِ قَوْمِهِ، أوْ قَوْلُهم في التَّوْراةِ: إنَّهُ يَتَحَوَّلُ إلى قِبْلَةِ أبِيهِ إبْراهِيمَ، فَحَوَّلَهُ اللَّهُ؛ لِئَلّا يَقُولُوا: نَجِدُهُ في التَّوْراةِ يَتَحَوَّلُ فَما تَحَوَّلَ، فَيَكُونُ لَهم ذَلِكَ حُجَّةً، فَأذْهَبَ اللَّهُ حُجَّتَهم بِذَلِكَ. واللّامُ في لِئَلّا لامُ الجَرِّ دَخَلَتْ عَلى إنْ وما بَعْدَها فَتَتَقَدَّرُ بِالمَصْدَرِ، أيْ لِانْتِفاءِ الحُجَّةِ عَلَيْكم. وتَتَعَلَّقُ هَذِهِ اللّامُ، قِيلَ: بِمَحْذُوفٍ، أيْ عَرَّفْناكم وجْهَ الصَّوابِ في قِبْلَتِكم، والحُجَّةُ في ذَلِكَ لِئَلّا يَكُونَ. وقِيلَ: تَتَعَلَّقُ بِـ”ولُّوا“، والقِراءَةُ بِالياءِ؛ لِأنَّ الحُجَّةَ تَأْنِيثُها غَيْرُ حَقِيقِيٍّ، وقَدْ حَسُنَ ذَلِكَ الفَصْلُ بَيْنَ الفِعْلِ ومَرْفُوعِهِ بِمَجْرُورَيْنِ، فَسَهُلَ التَّذْكِيرُ جِدًّا، وخَبَرُ كانَ قَوْلُهُ: ”لِلنّاسِ“، و”عَلَيْكم“: في مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلى الحالِ، وهو في الأصْلِ صِفَةٌ لِلْحُجَّةِ، فَلَمّا تَقَدَّمَ عَلَيْها انْتَصَبَ عَلى الحالِ، والعامِلُ فِيها مَحْذُوفٌ، ”ولا“ جائِزٌ أنْ يَتَعَلَّقَ بِحُجَّةٍ؛ لِأنَّهُ في مَعْنى الِاحْتِجاجِ، ومَعْمُولُ المَصْدَرِ المُنْحَلِّ لِحَرْفٍ مَصْدَرِيٍّ، والفِعْلِ لا يَتَقَدَّمُ عَلى عامِلِهِ. وأجازَ بَعْضُهم أنْ يَتَعَلَّقَ ”عَلَيْكم“ ”بِحُجَّةٍ“، هَكَذا نَقَلُوا، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ ”عَلَيْكُمُ“ الخَبَرَ، ولِلنّاسُ مُتَعَلِّقٌ بِلَفْظِ يَكُونُ؛ لِأنَّ كانَ النّاقِصَةَ قَدْ تَعْمَلُ في الظَّرْفِ والجارِّ والمَجْرُورِ. ﴿إلّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنهُمْ﴾، قَرَأ الجُمْهُورُ: ”إلّا“ جَعَلُوها أداةَ اسْتِثْناءٍ، وقَرَأ ابْنُ عامِرٍ وزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ وابْنُ زَيْدٍ: ألا، بِفَتْحِ الهَمْزَةِ وتَخْفِيفِ لامِ ألّا، إذْ جَعَلُوها الَّتِي لِلتَّنْبِيهِ والِاسْتِفْتاحِ. فَعَلى قِراءَةِ هَؤُلاءِ يَكُونُ إعْرابُ ”الَّذِينَ ظَلَمُوا“ مُبْتَدَأً، والجُمْلَةُ مِن قَوْلِهِ: ﴿فَلا تَخْشَوْهم واخْشَوْنِي﴾ في مَوْضِعِ الخَبَرِ، ودَخَلَتِ الفاءُ لِأنَّهُ سَلَكَ بِالَّذِينَ مَسْلَكَ الشَّرْطِ، والفِعْلُ الماضِي الواقِعُ صِلَةً هو مُسْتَقْبَلُ. المَعْنى: كَأنَّهُ قِيلَ: مَن يَظْلِمُ مِنَ النّاسِ، فَلا تَخافُوا مَطاعِنَهم في قِبْلَتِكم. واخْشَوْنِي: فَلا تُخالِفُوا أمْرِي، ولَوْلا دُخُولُ الفاءِ لَتَرَجَّحَ نَصْبُ ”الَّذِينَ ظَلَمُوا“، عَلى أنْ تَكُونَ المَسْألَةُ مِن بابِ الِاشْتِغالِ، أيْ لا تَخْشَوُا الَّذِينَ ظَلَمُوا، لا تَخْشَوْهم، لَكِنَّ ذَلِكَ يَجُوزُ عَلى مَذْهَبِ الأخْفَشِ في زِيادَةِ الفاءِ، وأجازَ ابْنُ عَطِيَّةَ أنْ يَكُونَ الَّذِينَ نُصِبَ بِفِعْلٍ مُقَدَّرٍ عَلى الإغْراءِ. ونَقَلَ السَّجاوَنْدِيُّ عَنْ أبِي بَكْرِ بْنِ مُجاهِدٍ أنَّهُ قَرَأ إلى الَّذِينَ، جَعَلَها حَرْفَ جَرٍّ، وتَأوَّلَها بِمَعْنى مَعَ. وأمّا عَلى قِراءَةِ الجُمْهُورِ، فالِاسْتِثْناءُ مُتَّصِلٌ، قالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ وغَيْرُهُ، واخْتارَهُ الطَّبَرِيُّ، وبَدَأ بِهِ ابْنُ عَطِيَّةَ، ولَمْ يَذْكُرِ الزَّمَخْشَرِيُّ غَيْرَهُ، وذَلِكَ أنَّهُ مَتى أمْكَنَ الِاسْتِثْناءُ المُتَّصِلُ إمْكانًا حَسَنًا كانَ أوْلى مِن غَيْرِهِ. قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: ومَعْناهُ لِئَلّا يَكُونَ حُجَّةً لِأحَدٍ مِنَ اليَهُودِ، إلّا لِلْمُعانِدِينَ مِنهُمُ القائِلِينَ: ما تَرَكَ قِبْلَتِنا إلى الكَعْبَةِ إلّا مَيْلًا إلى دِينِ قَوْمِهِ وحَبًّا لِبَلَدِهِ، ولَوْ كانَ عَلى الحَقِّ لَلَزِمَ قِبْلَةَ الأنْبِياءِ. (فَإنْ قُلْتَ): أيُّ حُجَّةٍ كانَتْ تَكُونُ لِلْمُتَّصِفِينَ مِنهم لَوْ لَمْ يُحَوِّلْ حَتّى احْتَرَزَ مِن تِلْكَ الحُجَّةِ ولَمْ يُبالِ بِحُجَّةِ المُعانِدِينَ ؟ ”قُلْتُ“: كانُوا يَقُولُونَ: ما لَهُ لا يُحَوِّلُ إلى قِبْلَةِ أبِيهِ (p-٤٤٢)إبْراهِيمَ، كَما هو مَذْكُورٌ في نَعْتِهِ في التَّوْراةِ ؟ (فَإنْ قُلْتَ): كَيْفَ أطْلَقَ اسْمَ الحُجَّةِ عَلى قَوْلِ المُعانِدِينَ ؟ (قُلْتُ): لِأنَّهم يَسُوقُونَهُ سِياقَ الحُجَّةِ، انْتَهى كَلامُهُ. وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: المَعْنى أنَّهُ لا حُجَّةَ لِأحَدٍ عَلَيْكم إلّا الحُجَّةَ الدّاحِضَةَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنَ اليَهُودِ وغَيْرِهِمْ مِن كُلِّ مَن تَكَلَّمَ في النّازِلَةِ في قَوْلِهِمْ: ﴿ما ولّاهم عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها﴾ [البقرة: ١٤٢] اسْتِهْزاءً، وفي قَوْلِهِمْ: تَحَيَّرَ مُحَمَّدٌ في دِينِهِ، وغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الأقْوالِ الَّتِي لَمْ تَنْبَعِثْ إلّا مِن عابِدِ وثَنٍ، أوْ مِن يَهُودِيٍّ، أوْ مِن مُنافِقٍ. وسَمّاها تَعالى: حُجَّةً، وحَكَمَ بِفَسادِها حِينَ كانَتْ مِن ظَلَمَةٍ. انْتَهى كَلامُهُ. وقَدِ اتَّضَحَ بِهَذا التَّقْرِيرِ اتِّصالُ الِاسْتِثْناءِ. وذَهَبَ قَوْمٌ إلى أنَّهُ اسْتِثْناءٌ مُنْقَطِعٌ، أيْ لَكِنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا فَإنَّهم يَتَعَلَّقُونَ عَلَيْكم بِالشُّبْهَةِ، يَضَعُونَها مَوْضِعَ الحُجَّةِ، ولَيْسَتْ بِحُجَّةٍ. ومَثارُ الخِلافِ هو: هَلِ الحُجَّةُ هو الدَّلِيلُ والبُرْهانُ الصَّحِيحُ ؟ أوِ الحُجَّةُ هو الِاحْتِجاجُ والخُصُومَةُ ؟ ومَثارُ الخِلافِ هو: هَلِ الحُجَّةُ هو الدَّلِيلُ والبُرْهانُ الصَّحِيحُ ؟ أوِ الحُجَّةُ هو الِاحْتِجاجُ والخُصُومَةُ ؟ فَإنْ كانَ الأوَّلَ فَهو اسْتِثْناءٌ مُنْقَطِعٌ، وإنْ كانَ الثّانِي فَهو اسْتِثْناءٌ مُتَّصِلٌ. قالَ الزَّجّاجُ: أيْ عَرَّفَكُمُ اللَّهُ أمْرَ الِاحْتِجاجِ في القِبْلَةِ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿ولِكُلٍّ وِجْهَةٌ هو مُوَلِّيها﴾ [البقرة: ١٤٨]: لِئَلّا يَكُونَ لِلنّاسِ عَلَيْكم حُجَّةً إلّا مِن ظَلَمَ بِاحْتِجاجِهِ فِيما قَدْ وضَحَ لَهُ، كَما تَقُولُ: ما لَكَ عَلَيَّ حُجَّةٌ إلّا الظُّلْمَ، أوْ إلّا أنْ تَظْلِمَنِي، أيْ ما لَكَ حُجَّةٌ ألْبَتَّةَ، ولَكِنَّكَ تَظْلِمُنِي. وأجازَ قُطْرُبٌ أنْ يَكُونَ الَّذِينَ في مَوْضِعِ جَرٍّ بَدَلًا مِن ضَمِيرِ الخِطابِ في عَلَيْكم، ويَكُونُ التَّقْدِيرُ: لِئَلّا تَثْبُتَ حُجَّةٌ لِلنّاسِ عَلى غَيْرِ الظّالِمِينَ مِنهم، وهم أنْتُمْ أيُّها المُخاطَبُونَ، بِتَوْلِيَةِ وُجُوهِكم إلى القِبْلَةِ. ونَقَلَ السَّجاوَنْدِيُّ أنَّ قُطْرُبًا قَرَأ: إلّا عَلى الَّذِينَ ظَلَمُوا، وهو بَدَلٌ أيْضًا عَلى إظْهارِ حَرْفِ الجَرِّ، كَقَوْلِهِ: ﴿لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَن آمَنَ مِنهُمْ﴾ [الأعراف: ٧٥]، وهَذا ضَعِيفٌ؛ لِأنَّ فِيهِ إبْدالَ الظّاهِرِ مِن ضَمِيرِ الخِطابِ، بَدَلَ شَيْءٍ مِن شَيْءٍ، وهُما لِعَيْنٍ واحِدَةٍ، ولا يَجُوزُ ذَلِكَ إلى عَلى مَذْهَبِ الأخْفَشِ. وزَعَمَ أبُو عُبَيْدٍ مَعْمَرُ بْنُ المُثَنّى أنَّ ”إلّا“ في الآيَةِ بِمَعْنى الواوِ، وجَعَلَ مِن ذَلِكَ قَوْلَهُ: ؎ما بِالمَدِينَةِ دارٌ غَيْرُ واحِدَةٍ دارُ الخَلِيفَةِ إلّا دارَ مَرْوانا وقَوْلُهُ: ؎وكُلُّ أخٍ مُفارِقُهُ أخُوهُ ∗∗∗ لَعَمْرُ أبِيكَ إلّا الفَرْقَدانِ التَّقْدِيرُ: عِنْدَهُ والَّذِينَ ظَلَمُوا، ودارُ مَرْوانَ والفَرْقَدانِ. وإثْباتُ إلّا بِمَعْنى الواوِ، لا يَقُومُ عَلَيْهِ دَلِيلٌ، والِاسْتِثْناءُ سائِغٌ فِيما ادَّعى فِيهِ أنَّ ”إلّا“ بِمَعْنى الواوِ، وكانَ أبُو عُبَيْدَةَ يُضَعَّفُ في النَّحْوِ. وقالَ الزَّجّاجُ: هَذا خَطَأٌ عِنْدَ حُذّاقِ النَّحْوِيِّينَ، وأضْعَفُ مِن هَذا زَعْمُ أنَّ ”إلّا“ بِمَعْنى بَعْدَ، أيْ بَعْدَ الَّذِينَ ظَلَمُوا، وجَعَلَ مِن ذَلِكَ (إلّا ما قَدْ سَلَفَ)، أيْ بَعْدَ ما قَدْ سَلَفَ، و﴿إلّا المَوْتَةَ الأُولى﴾ [الدخان: ٥٦]، أيْ بَعْدَ المَوْتَةِ الأُولى، ولَوْلا أنَّ بَعْضَ المُفَسِّرِينَ ذَكَرَ هَذَيْنِ القَوْلَيْنِ، ما ذَكَرْتُهُما لِضَعْفِهِما. ﴿فَلا تَخْشَوْهم واخْشَوْنِي﴾: هَذا فِيهِ تَحْقِيرٌ لِشَأْنِهِمْ، وأمْرٌ بِاطِّراحِهِمْ، ومُراعاةٌ لِأمْرِهِ تَعالى. وضَمِيرُ المَفْعُولِ في فَلا تَخْشَوْهم يَحْتَمِلُ أنْ يَعُودَ عَلى النّاسِ، أيْ فَلا تَخْشَوُا النّاسَ، وأنْ يَعُودَ عَلى الَّذِينَ ظَلَمُوا، أيْ فَلا تَخْشَوُا الظّالِمِينَ. ونَهى عَنْ خَشْيَتِهِمْ فِيما يُزَخْرِفُونَهُ مِنَ الكَلامِ الباطِلِ، فَإنَّهم لا يَقْدِرُونَ عَلى نَفْعٍ ولا ضُرٍّ. وأمَرَ بِخَشْيَتِهِ هو في تَرْكِ ما أمَرَهم بِهِ مِنَ التَّوَجُّهِ إلى المَسْجِدِ الحَرامِ. وقِيلَ: المَعْنى ”فَلا تَخْشَوْهم“ في المُبايَنَةِ، ”واخْشَوْنِي“ في المُخالَفَةِ، ومَعْناهُ قَرِيبٌ مِنَ الأوَّلِ. وقَدْ ذَكَرْ نا شَرْحَ هاتَيْنِ الجُمْلَتَيْنِ في ذِكْرِ قِراءَةِ ابْنِ عَبّاسٍ بِقَرِيبٍ مِن هَذا. وقالَ السُّدِّيُّ: مَعْناهُ لا تَخْشَوْا أنْ أرُدَّكم في دِينِكم واخْشَوْنِي، وهَذا الَّذِي قالَهُ لا يُساعِدُهُ قَوْلُهُ: ”فَلا تَخْشَوْهم“ . قالَ بَعْضُهم: ذَكَرَ الخَشْيَةَ هُنا ولَمْ يَذْكُرِ الخَوْفَ؛ لِأنَّ الخَشْيَةَ حَذَرٌ مِن أمْرٍ قَدْ وقَعَ، والخَوْفُ حَذَرٌ مِن أمْرٍ لَمْ يَقَعْ. والَّذِي تَدُلُّ عَلَيْهِ اللُّغَةُ والِاسْتِعْمالُ أنَّ الخَشْيَةَ والخَوْفَ مُتَرادِفانِ، وقالَ تَعالى: ﴿فَلا تَخافُوهم وخافُونِ﴾ [آل عمران: ١٧٥]، كَما قالَ هُنا: ﴿فَلا تَخْشَوْهم واخْشَوْنِي﴾ . ﴿ولِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ﴾: الظّاهِرُ أنَّهُ مَعْطُوفٌ (p-٤٤٣)عَلى قَوْلِهِ: (لِئَلّا يَكُونَ)، وكانَ المَعْنى: عَرَّفْناكم وجْهَ الصَّوابِ في قِبْلَتِكم، والحُجَّةُ لَكم لِانْتِفاءِ حُجَجِ النّاسِ عَلَيْكم، ولِإتْمامِ النِّعْمَةِ، فَيَكُونُ التَّعْرِيفُ مُعَلَّلًا بِهاتَيْنِ العِلَّتَيْنِ، والفَصْلُ بِالِاسْتِثْناءِ وما بَعْدَهُ كَلا فَصْلٍ؛ إذْ هو مِن مُتَعَلِّقِ العِلَّةِ الأُولى. وقِيلَ: هو مَعْطُوفٌ عَلى عِلَّةٍ مَحْذُوفَةٍ، وكِلاهُما مَعْلُولُهُما الخَشْيَةُ السّابِقَةُ، كَأنَّهُ قِيلَ: واخْشَوْنِي لِأُوَفِّقَكم ولِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكم. وقِيلَ: تَتَعَلَّقُ اللّامُ بِفِعْلٍ مُؤَخَّرٍ، التَّقْدِيرُ: ولِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكم عَرَّفْتُكم قِبْلَتِي، ومَن زَعَمَ أنَّ الواوَ زائِدَةٌ، فَقَوْلُهُ ضَعِيفٌ. وإتْمامُ النِّعْمَةِ بِما هَداهم إلَيْهِ مِنَ القِبْلَةِ، أوْ بِما أعَدَّهُ لَهم مِن ثَوابِ الطّاعَةِ، أوْ بِما حَصَلَ لِلْعَرَبِ مِنَ الشَّرَفِ بِتَحْوِيلِ القِبْلَةِ إلى الكَعْبَةِ، أوْ بِإبْطالِ حُجَجِ المُحْتَجِّينَ عَلَيْهِمْ، أوْ بِإدْخالِهِمُ الجَنَّةَ، أوْ بِالمَوْتِ عَلى الإسْلامِ، أوِ النِّعْمَةِ سُنَّةِ الإسْلامِ، والقُرْآنِ، ومُحَمَّدٍ ﷺ، والسِّتْرِ، والعافِيَةِ، والغِنى عَنِ النّاسِ؛ أوْ بِشَرائِعِ المِلَّةِ الحَنِيفِيَّةِ، أقْوالٌ ثَمانِيَةٌ صَدَرَتْ مَصْدَرَ المِثالِ، لا مَصْدَرَ التَّعْيِينِ، وكُلٌّ فِيها نِعْمَةٌ. ﴿ولَعَلَّكم تَهْتَدُونَ﴾: تَقَدَّمَ القَوْلُ في لَعَلَّ بِالنِّسْبَةِ إلى مَجِيئِها مِنَ اللَّهِ تَعالى في قَوْلِهِ: ﴿الَّذِينَ مِن قَبْلِكم لَعَلَّكم تَتَّقُونَ﴾ [البقرة: ١٨٣]، في أوَّلِ البَقَرَةِ، وهو أوَّلُ مَواقِعِها فِيهِ. والمَعْنى: لِتَكُونُوا عَلى رَجاءِ إدامَةِ هِدايَتِي إيّاكم عَلى اسْتِقْبالِ الكَعْبَةِ، أوْ لِكَيْ تَهْتَدُوا إلى قِبْلَةِ أبِيكم إبْراهِيمَ، والظّاهِرُ رَجاءُ الهِدايَةِ مُطْلَقًا.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب