الباحث القرآني

قوله تعالى: ﴿أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ﴾ الآية. ذكرنا سبب نزول قصة أصحاب الكهف عند قوله: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ﴾ [الإسراء: 85]. وذكر محمد بن إسحاق سبب نزول هذه القصة مشروحًا، فقال: (كان النضر ابن الحارث من شياطين قريش، كان يؤذي رسول الله ﷺ، وينصب له العداوة، وكان قدم الحيرة [[الحِيرة -بكسر الحاء وسكون الياء-: مدينة مشهورة على ثلاثة أميال من الكوفة، تقع على نهر يربطها بالفرات، وكانت مسكنًا لملوك العرب في المجاهلية التابعين لمملكة الفرس، وهى قريبة من النجف. انظر: "معجم البلدان" 2/ 328، و"معجم المعالم الجغرافية" ص 107.]] وتعلم بها أحاديث رستم [[رستم الشديد بن دستار بن بريمان، من ملوك الفرس. انظر: "تاريخ الطبري" == 1/ 504، و"الروض الأنف" 2/ 52، و"الكامل في التاريخ" 1/ 137.]]، واسفنديار [[اسفنديار بن بشتاسب، من ملوك الفرس. انظر: "تاريخ الطبري" 1/ 562، و"الروض الأنف" 2/ 52، و"الكامل في التاريخ" 1/ 154.]]، وكان رسول الله -ﷺ- إذا جلس مجلسًا ذكر فيه الله تعالى، وحذر قومه ما أصاب من كان قبلهم من الأمم، خلفه في مجلسه إذا قام، ثم قال: وإنا والله يا معشر قريش أحسن حديثًا منه فهلمّوا أحدثكم بأحسن من حديثه، ثم يحدثهم عن ملوك فارس، فبعثته قريش، وبعثوا معه عقبة بن أبي معيط [[عقبة بن أبان بن ذكوان بن أمية بن عبد شمس بن أبي معيط، من مقدمي قريش في الجاهلية، كنيته أبو الوليد، وكنية أبيه أبو معيط، كان شديد الأذى للمسلمين عند ظهور الدعوة، أسر يوم بدر وقتل وصلب. انظر: "الروض الأنف" 2/ 76، و"ابن الأثير" 2/ 27، و"الأعلام" 4/ 240.]] إلى أحبار يهود [بالمدينة، وقالوا لهما: سلوا عن محمد، وعن صفته، وأخبروهم بقوله، فإنهم أهل الكتاب الأول، وعندهم من العلم مما ليس عندنا من علم الأنبياء، فخرجا حتى قدما المدينة فسألوا أحبار يهود] [[ما بين المعقوفين ساقط من نسخة (س).]] عن رسول الله -ﷺ- ووصفوا لهم صفته، وأخبروهم بأمره وببعض قوله، فقالت لهم أحبار يهود: سلوه عن ثلاث: عن فتية ذهبوا في الدهر الأول، ما كان من أمرهم؟ فإنه كان لهم حديث عجيب، وعن رجل طوّاف قد بلغ مشارق الأرض ومغاربها ما كان نبأه؟ وسلوه عن الروح ما هو؟ فإن أخبركم فهو نبي فاتبعوه، وإن لم يخبركم فهو متقوّل. فأقبل النضر بن الحارث وصاحبه حتى قدما مكة وقالا: قد جئناكم بفصل ما بيننا وبين محمد، وأخبراهم بما قالت اليهود. فجاؤوا رسول الله -ﷺ- وسألوه عن هذه الأشياء، فقال رسول الله -ﷺ-: "أخبركم بما سألتم عنه غدًا". ولم يستثن، فانصرفوا عنه، فمكث رسول الله -ﷺ- فيما يذكرون خمس عشرة ليلة لا يحدث الله إليه في ذلك وحيا، ولا يأتيه خبر، حتى أرجف أهل مكة به، وقالوا: وعدنا محمد غدًا واليوم خمس عشرة ليلة، وشقّ عليه ذلك، ثم جاءه جبريل من الله -عز وجل- بسورة أصحاب الكهف فيها معاتبة الله إياه على حزنه عليهم، وخبر ما سألوا عنه من أمر الفتية، والرجل الطوّاف) [["جامع البيان" 15/ 197، و"بحر العلوم" 2/ 290، و"المحرر الوجيز" 9/ 229 - 230، و"تفسير القرآن العظيم" 3/ 83، و"الدر المنثور" 4/ 380، و"أسباب النزول" للواحدي ص 306، و"لباب النقول في أسباب النزول" ص 143، و"جامع النقول في أسباب النزول" ص 208، و"الفتح السماوي" 2/ 494.]]. وافتتح السورة تبارك وتعالى بحمده وذكر نبوة رسوله لما أنكروه عليه من ذلك وهو قول: ﴿أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ﴾ [الكهف: 1]، فذكر أنه أنزل عليه القرآن للإنذار والتبشير إلى قوله: ﴿وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا﴾، يعني قريشًا في قولهم: الملائكة بنات الله [[نحو قوله تعالى في سورة النحل الآية رقم (57): ﴿وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ﴾، وقوله سبحانه في سورة الصافات الآية رقم (149): ﴿فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ﴾.]]. ثم عاتبه على حزنه عليهم حين فاته ما كان يرجو منهم من الإسلام بقوله: ﴿فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ﴾ الآية. ثم قال: ﴿إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا﴾ أيهم أتبعُ لأمري وأعمل بطاعتي، ﴿وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا﴾، يعني أنَّ ما على الأرض فانٍ زائل، وأن المرجع إلى فأجزي كلا بعمله، فلا يحزنك ما ترى وتسمع. ثم أخبر عن ما سألوه عنه من شأن الفتية فقال: ﴿أَمْ حَسِبْتَ﴾ فقال أبو إسحاق: (معناه: بل حسبت) [["معاني القرآن" 1/ 285.]]. والكلام في ﴿أَمْ﴾ في مثل هذا الموضع قد ذكرناه في قوله: ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ﴾ [البقرة: 214] وفي غيره من مواضع [[نحو قوله سبحانه في البقرة الآية رقم (108). ﴿أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى﴾ [البقرة: 108] الآية وقوله سبحانه في سورة السجدة الآية رقم (3): ﴿أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ﴾ الآية.]]. وقوله: ﴿أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ﴾ يعني أولئك الفتية الذين سئل عن قصتهم [[في نسخة: (س): (بعضهم)، وهو تصحيف.]]. و ﴿الْكَهْفِ﴾ قال الليث: (كالمغارة في الجبل) [["تهذيب اللغة" (كهف) 4/ 3199.]]. روى عكرمة عن ابن عباس أنه قال: (كل القرآن أعلمه إلا أربعة: غسلين [[الواردة في قوله سبحانه: ﴿وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ﴾ [الحاقة: 36].]]، وحنان [[في قوله تعالى: ﴿وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا﴾ [مريم: 13].]]، والأواه [[في قوله تعالى: ﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ﴾. ومثلها قوله تعالى: ﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ﴾ [هود: 75].]]، والرقيم) [["تفسير القرآن" للصنعاني 2/ 397، و"جامع البيان" 15/ 198، و"المحرر الوجيز" 9/ 237 - 238، و"تفسير القرآن العظيم" 3/ 82، و"الدر المنثور" 4/ 384.]]. وروى عكرمة أيضًا عن ابن عباس أنه سئل عن الرقيم فقال: (زعم كعب أنها القرية التي خرجوا منها) [["تفسير القرآن" للصنعاني 2/ 397، و"جامع البيان" 15/ 198، و"بحر العلوم" 2/ 290، و"تفسير القرآن العظيم" 3/ 83.]]؛ ونحو هذا قال السدي [["المحرر الوجيز" 9/ 237، و"زاد المسير" 5/ 108، و"الدر المنثور" 4/ 384 وعزاه لابن أبي حاتم، و"التفسير الكبير" 11/ 82.]]. وروي كن ابن أبي طلحة عنه قال: ("الرَّقِيم": الكتاب) [["جامع البيان" 15/ 198، و"تفسير القرآن العظيم" 3/ 82، و"الدر المنثور" 4/ 383، وعزاه لابن المنذر وابن أبي حاتم.]]. وهو قول مجاهد [["جامع البيان" 15/ 985 - 199، و"تفسير القرآن العظيم" 3/ 82 عن ابن عباس، و"الدر المنثور" 4/ 384 عزاه لابن أبي شيبة وابن المنذر.]]. وسعيد بن جبير قال: ("الرَّقِيم": لوح من حجارة) [["جامع البيان" 15/ 199، و"معالم التنزيل" 5/ 145، و"المحرر الوجيز" 9/ 283، و"تفسير القرآن العظيم" 3/ 82، و"الدر المنثور" 4/ 384.]]. وقيل: (من رصاص كتب فيه أسماؤهم وقصتهم، وجعل في البناء على باب الكهف) [["بحر العلوم" 2/ 290، و"معالم التنزيل" 5/ 144 - 145، و"الكشاف" 2/ 381، و"المحرر الوجيز" 9/ 283، و"البحر المحيط" 6/ 101.]]، ونحو هذا قال عطاء عن ابن عباس [["جامع البيان" 15/ 199، و"معالم التنزيل" 5/ 144 - 145، و"زاد المسير" 5/ 107، و"الدر المنثور" 4/ 384.]]، وهو قول جميع أهل المعاني والعربية قالوا: (الرقيم: الكتاب) [["معاني القرآن" للزجاج 3/ 269، و"معاني القرآن" للفراء 2/ 134، و"إملاء ما من به الرحمن" 1/ 395، و"تهذيب اللغة" رقم 2/ 1454، و"مقاييس اللغة" رقم 2/ 425، و"المفردات في غريب القرآن" رقم (201).]]. والأصل فيه المرقوم ثم حُول إلى فعيل، والرَّقْم: الكتابة، ومنه قوله -عز وجل-: ﴿كِتَابٌ مَرْقُومٌ﴾ [المطففين: 9] أي: مكتوب، وأنشدوا [[لم أهتد إلى قائله، وذكرته كتب اللغة بدون نسبة. القَرَاح: الماء الذي لا يخالطه شيء يطيب به كالعسل والتمر والزبيب. انظر: "تهذيب اللغة" رقم 2/ 1454، و"مقاييس اللغة" مريم 2/ 425، و"لسان العرب" رقم 3/ 1709.]]: سأرقم في الماء القراح إليكم ... على بعدكم إن كان في الماء راقمُ وقال الفراء: (الرقيم: لوح كان فيه أسماؤهم) [["معاني القرآن" للفراء 2/ 134.]]، ونرى أنه إنما سُمى رقيما؛ لأن أسماءهم كانت مرقومة [[في (ص): (من قومه)، وهو تصحيف.]] فيه [[وهذا القول هو الراجح، وهو الذي تعضده اللغة، ورجحه أكثر المفسرين. انظر: "جامع البيان" 15/ 199، و"تفسير القرآن العظيم" 3/ 82، و"تهذيب اللغة" 2/ 1454، و"لسان العرب" رقم 3/ 1710.]]. وقوله تعالى: ﴿كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا﴾ قال مجاهد، وسفيان: (لم يكونوا بأعجب آياتنا) [["جامع البيان" 15/ 197، و"معالم التنزيل" 5/ 144 بدون نسبة، و"تفسير القرآن العظيم" 3/ 82، و"الدر المنثور" 4/ 384.]]. قال المفضل: (أم حسبت أنهم كانوا عجبًا من آياتنا فقط، فلا يحسن ذلك، فإن آياتنا كلها عجيب) [[ذكرته كتب التفسير بدون نسبة. انظر: "جامع البيان" 15/ 197، و"الكشف والبيان" 3/ 385 ب، و"المحرر الوجيز" 9/ 237، و"معالم التنزيل" 5/ 144، و"زاد المسير" 5/ 108، و"تفسير القرآن العظيم" 3/ 82.]]. وقال أبو إسحاق: (أعلم الله أن قصة أصحاب الكهف ليست بعجيبة من آيات الله؛ لأن خلق السموات والأرض وما بينهما مما يشاهد أعجب من قصة أصحاب الكهف) [["معاني القرآن" للزجاج 3/ 270.]]. والعجب هاهنا مصدر سمي المفعول به. والتقدير: كانوا معجوبًا منهم، فسموا بالمصدر، والمفعول من هذا يستعمل باسم المصدر [["الكشاف" 2/ 381، و"الدر المصون" 7/ 446، و"البحر المحيط" 6/ 101، و"التفسير الكبير" 11/ 83.]].
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب