الباحث القرآني

﴿الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الكِتابَ ولَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجا﴾ [الكهف: ١] ﴿قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِن لَدُنْهُ ويُبَشِّرَ المُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصّالِحاتِ أنَّ لَهم أجْرًا حَسَنًا﴾ [الكهف: ٢] ﴿ماكِثِينَ فِيهِ أبَدًا﴾ [الكهف: ٣] ﴿ويُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ ولَدًا﴾ [الكهف: ٤] ﴿ما لَهم بِهِ مِن عِلْمٍ ولا لِآبائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِن أفْواهِهِمْ إنْ يَقُولُونَ إلّا كَذِبًا﴾ ﴿فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذا الحَدِيثِ أسَفًا﴾ ﴿إنّا جَعَلْنا ما عَلى الأرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهم أيُّهم أحْسَنُ عَمَلًا﴾ ﴿وإنّا لَجاعِلُونَ ما عَلَيْها صَعِيدًا جُرُزًا﴾ . (p-٩٥)هِيَ مَكِّيَّةٌ كُلُّها إلّا في قَوْلٍ. وعَنِ ابْنِ عَبّاسٍ وقَتادَةَ إلّا قَوْلَهُ: ﴿واصْبِرْ نَفْسَكَ﴾ [الكهف: ٢٨] الآيَةَ فَمَدَنِيَّةٌ. وقالَ مُقاتِلٌ: إلّا مِن أوَّلِها إلى (جُرُزًا) ومِن قَوْلِهِ: ﴿إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ﴾ [الكهف: ٣٠] الآيَتَيْنِ فَمَدَنِيٌّ. وسَبَبُ نُزُولِها أنَّ قُرَيْشًا بَعَثَتِ النَّضْرَ بْنَ الحارِثِ وعُقْبَةَ بْنَ أبِي مَعِيطٍ إلى أحْبارِ اليَهُودِ بِالمَدِينَةِ، فَقالُوا لَهُما: سَلاهم عَنْ مُحَمَّدٍ وصِفا لَهم صِفَتَهُ؛ فَإنَّهم أهْلُ الكِتابِ الأوَّلِ، وعِنْدَهم ما لَيْسَ عِنْدَنا مِن عِلْمِ الأنْبِياءِ، فَخَرَجا حَتّى أتَيا المَدِينَةَ فَسَألاهم فَقالَتْ: سَلُوهُ فَإنْ أخْبَرَكم بِهِنَّ فَهو نَبِيٌّ مُرْسَلٌ، وإنْ لَمْ يَفْعَلْ فالرَّجُلُ مُتَقَوِّلٌ، فَرُوا فِيهِ رَأْيَكم سَلُوهُ عَنْ فِتْيَةٍ ذَهَبُوا في الدَّهْرِ الأوَّلِ ما كانَ مِن أمْرِهِمْ، فَإنَّهُ كانَ لَهم حَدِيثٌ عَجِيبٌ، وسَلُوهُ عَنْ رَجُلٍ طَوّافٍ بَلَغَ مَشارِقَ الأرْضِ ومَغارِبَها ما كانَ بِناؤُهُ، وسَلُوهُ عَنِ الرُّوحِ، فَأقْبَلَ النَّضْرُ وعُقْبَةُ إلى مَكَّةَ فَسَألُوهُ فَقالَ: (غَدًا أُخْبِرُكم) ولَمْ يَقُلْ إنْ شاءَ اللَّهُ، فاسْتَمْسَكَ الوَحْيُ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا فَأرْجَفَ كُفّارُ قُرَيْشٍ، وقالُوا: إنَّ مُحَمَّدًا قَدْ تَرَكَهُ رَئِيُّهُ الَّذِي كانَ يَأْتِيهِ مِنَ الجِنِّ، وقالَ بَعْضُهم: قَدْ عَجَزَ عَنْ أكاذِيبِهِ فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ، فَلَمّا انْقَضى الأمَدُ جاءَهُ الوَحْيُ بِجَوابِ الأسْئِلَةِ وغَيْرِها. ورُوِيَ في هَذا السَّبَبِ أنَّ اليَهُودَ قالَتْ: إنْ أجابَكم عَنِ الثَّلاثَةِ فَلَيْسَ بِنَبِيٍّ، وإنْ أجابَ عَنِ اثْنَتَيْنِ وأمْسَكَ عَنِ الأُخْرى فَهو نَبِيٌّ. فَأنْزَلَ اللَّهُ سُورَةَ أهْلِ الكَهْفِ، وأنْزَلَ بَعْدَ ذَلِكَ ﴿ويَسْألُونَكَ عَنِ الرُّوحِ﴾ [الإسراء: ٨٥] . ومُناسَبَةُ أوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ لِآخِرِ ما قَبْلَها أنَّهُ لَمّا قالَ: ﴿وبِالحَقِّ أنْزَلْناهُ وبِالحَقِّ نَزَلَ﴾ [الإسراء: ١٠٥] وذَكَرَ المُؤْمِنِينَ بِهِ أهْلَ العِلْمِ وأنَّهُ يَزِيدُهم خُشُوعًا، وأنَّهُ تَعالى أمَرَ بِالحَمْدِ لَهُ وأنَّهُ لَمْ يَتَّخِذْ ولَدًا، أمَرَهُ تَعالى بِحَمْدِهِ عَلى إنْزالِ هَذا الكِتابِ السّالِمِ مِنَ العِوَجِ، القَيِّمِ عَلى كُلِّ الكُتُبِ، المُنْذِرِ مَنِ اتَّخَذَ ولَدًا، المُبَشِّرِ المُؤْمِنِينَ بِالأجْرِ الحَسَنِ. ثُمَّ اسْتَطْرَدَ إلى حَدِيثِ كَفّارِ قُرَيْشٍ والتَفَتَ مِنَ الخِطابِ في قَوْلِهِ: ﴿وكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا﴾ [الإسراء: ١١١] إلى الغَيْبَةِ في قَوْلِهِ: ﴿عَلى عَبْدِهِ﴾ [الكهف: ١] لِما في (عَبْدِهِ) مِنَ الإضافَةِ المُقْتَضِيَةِ تَشْرِيفَهُ، ولَمْ يَجِئِ التَّرْكِيبُ أنْزَلَ عَلَيْكَ. و(الكِتابَ) القُرْآنُ، والعِوَجُ في المَعانِي كالعِوَجِ في الأشْخاصِ ونُكِّرَ (عِوَجًا) لِيَعُمَّ جَمِيعَ أنْواعِهِ لِأنَّها نَكِرَةٌ في سِياقِ النَّفْيِ، والمَعْنى أنَّهُ في غايَةِ الِاسْتِقامَةِ لا تَناقُضَ ولا اخْتِلافَ في مَعانِيهِ، لا حُوشِيَّةَ ولا عِيَّ في تَراكِيبِهِ ومَبانِيهِ. و(قَيِّمًا) تَأْكِيدٌ لِإثْباتِ الِاسْتِقامَةِ إنْ كانَ مَدْلُولُهُ مُسْتَقِيمًا وهو قَوْلُ ابْنِ عَبّاسٍ والضَّحّاكِ. وقِيلَ: (قَيِّمًا) بِمَصالِحِ العِبادِ، وشَرائِعِ دِينِهِمْ، وأُمُورِ مَعاشِهِمْ ومَعادِهِمْ. وقِيلَ: (قَيِّمًا) عَلى سائِرِ الكُتُبِ بِتَصْدِيقِها. واخْتَلَفُوا في هَذِهِ الجُمْلَةِ المَنفِيَّةِ، فَزَعَمَ الزَّمَخْشَرِيُّ أنَّها مَعْطُوفَةٌ عَلى (أنْزَلَ) فَهي داخِلَةٌ في الصِّلَةِ، ورَتَّبَ عَلى هَذا أنَّ الأحْسَنَ في انْتِصابِ (قَيِّمًا) أنْ يَنْتَصِبَ بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ ولا يُجْعَلَ حالًا مِنَ (الكِتابَ) لِما يَلْزَمُ مِن ذَلِكَ وهو الفَصْلُ بَيْنَ الحالِ، وذِي الحالِ بِبَعْضِ الصِّلَةِ، وقَدَّرَهُ جَعَلَهُ (قَيِّمًا) . وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: (قَيِّمًا) نُصِبَ عَلى الحالِ مِن (p-٩٦)(الكِتابَ) فَهو بِمَعْنى التَّقْدِيمِ مُؤَخَّرٌ في اللَّفْظِ، أيْ: أنْزَلَ الكِتابَ (قَيِّمًا) واعْتَرَضَ بَيْنَ الحالِ وذِي الحالِ قَوْلُهُ: ﴿ولَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجا﴾ [الكهف: ١] ذَكَرَهُ الطَّبَرِيُّ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ مَنصُوبًا بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ تَقْدِيرُهُ أنْزَلَهُ أوْ جَعَلَهُ (قَيِّمًا) . أمّا إذا قُلْنا بِأنَّ الجُمْلَةَ المَنفِيَّةَ اعْتِراضٌ فَهو جائِزٌ، ويُفْصَلُ بِجُمَلٍ لِلِاعْتِراضِ بَيْنَ الحالِ وصاحِبِها. وقالَ العَسْكَرِيُّ: في الآيَةِ تَقْدِيمٌ وتَأْخِيرٌ كَأنَّهُ قالَ: احْمِدُوا اللَّهَ عَلى إنْزالِ القُرْآنِ (قَيِّمًا) لا عِوَجَ فِيهِ، ومِن عادَةِ البُلَغاءِ أنْ يُقَدِّمُوا الأهَمَّ. وقالَ أبُو عَبْدِ اللَّهِ الرّازِيُّ: ﴿ولَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا﴾ [الكهف: ١] يَدُلُّ عَلى كَوْنِهِ مُكَمَّلًا في ذاتِهِ. وقَوْلُهُ قَيِّمًا يَدُلُّ عَلى كَوْنِهِ مُكَمَّلًا بِغَيْرِهِ، فَثَبَتَ بِالبُرْهانِ العَقْلِيِّ أنَّ التَّرْتِيبَ الصَّحِيحَ هو الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّهُ، وأنَّ ما ذَكَرُوهُ مِنَ التَّقْدِيمِ والتَّأْخِيرِ فاسِدٌ يَمْتَنِعُ العَقْلُ مِنَ الذَّهابِ إلَيْهِ. وقالَ الكَرْمانِيُّ: إذا جَعَلْتَهُ حالًا وهو الأظْهَرُ فَلَيْسَ فِيهِ تَقْدِيمٌ ولا تَأْخِيرٌ، والصَّحِيحُ أنَّهُما حالانِ مِنَ (الكِتابَ) الأُولى جُمْلَةٌ والثّانِيَةُ مُفْرَدٌ. انْتَهى. وهَذا عَلى مَذْهَبِ مَن يُجَوِّزُ وُقُوعَ حالَيْنِ مِن ذِي حالٍ واحِدٍ بِغَيْرِ عَطْفٍ، وكَثِيرٌ مِن أصْحابِنا عَلى مَنعِ ذَلِكَ. انْتَهى. واخْتارَهُ الأصْبَهانِيُّ وقالَ: هُما حالانِ مُتَوالِيانِ، والتَّقْدِيرُ غَيْرُ جاعِلٍ لَهُ ﴿عِوَجًا قَيِّمًا﴾ [الكهف: ١] وقالَ صاحِبُ حَلِّ العَقْدِ: يُمْكِنُ أنْ يَكُونَ قَوْلُهُ قَيِّمًا بَدَلًا مِن قَوْلِهِ: ﴿ولَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا﴾ [الكهف: ١] أيْ: جَعَلَهُ مُسْتَقِيمًا (قَيِّمًا) . انْتَهى. ويَكُونُ بَدَلَ مُفْرَدٍ مِن جُمْلَةٍ كَما قالُوا في عَرَفْتُ زَيْدًا أبُو مَن أنَّهُ بَدَلُ جُمْلَةٍ مِن مُفْرَدٍ وفِيهِ خِلافٌ. وقِيلَ: (قَيِّمًا) حالٌ مِنَ الهاءِ المَجْرُورَةِ في ﴿ولَمْ يَجْعَلْ لَهُ﴾ [الكهف: ١] مُؤَكِّدَةٌ. وقِيلَ: مُنْتَقِلَةٌ، والظّاهِرُ أنَّ الضَّمِيرَ في (لَهُ) عائِدٌ عَلى (الكِتابَ) وعَلَيْهِ التَّخارِيجُ الإعْرابِيَّةُ السّابِقَةُ. وزَعَمَ قَوْمٌ أنَّ الضَّمِيرَ في (لَهُ) عائِدٌ عَلى (عَبْدِهِ) والتَّقْدِيرُ ﴿عَلى عَبْدِهِ﴾ [الكهف: ١] وجَعَلَهُ (قَيِّمًا) . وحَفْصٌ يَسْكُتُ عَلى قَوْلِهِ: (عِوَجًا) سَكْتَةً خَفِيفَةً ثُمَّ يَقُولُ: (قَيِّمًا) . وفي بَعْضِ مَصاحِفِ الصَّحابَةِ ﴿ولَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا﴾ [الكهف: ١] لَكِنْ جَعَلَهُ قَيِّمًا ويُحْمَلُ ذَلِكَ عَلى تَفْسِيرِ المَعْنى لا أنَّها قِراءَةٌ. وأنْذَرَ يَتَعَدّى لِمَفْعُولَيْنِ قالَ: ﴿إنّا أنْذَرْناكم عَذابًا قَرِيبًا﴾ [النبإ: ٤٠] وحُذِفَ هُنا المَفْعُولُ الأوَّلُ وصُرِّحَ بِالمُنْذَرِ بِهِ؛ لِأنَّهُ هو الغَرَضُ المَسُوقُ إلَيْهِ فاقْتُصِرَ عَلَيْهِ، ثُمَّ صُرِّحَ بِالمُنْذِرِ في قَوْلِهِ حِينَ كَرَّرَ الإنْذارَ فَقالَ: ﴿ويُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ ولَدًا﴾ [الكهف: ٤] فَحُذِفَ المُنْذِرُ أوَّلًا لِدَلالَةِ الثّانِي عَلَيْهِ، وحُذِفَ المُنْذَرُ بِهِ لِدَلالَةِ الأوَّلِ عَلَيْهِ، وهَذا مِن بَدِيعِ الحَذْفِ وجَلِيلِ الفَصاحَةِ، ولَمّا لَمْ يُكَرِّرِ البِشارَةَ أتى بِالمُبَشِّرِ والمُبَشَّرِ بِهِ، والظّاهِرُ أنَّ (لِيُنْذِرَ) مُتَعَلِّقَةٌ بِأنْزَلَ. وقالَ الحَوْفِيُّ: تَتَعَلَّقُ بِقَيِّمًا، ومَفْعُولُ لِيُنْذِرَ المَحْذُوفُ قَدَّرَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ (لِيُنْذِرَ) العالَمَ، وأبُو البَقاءِ (لِيُنْذِرَ) العِبادَ أوْ لِيُنْذِرَكم. والزَّمَخْشَرِيُّ قَدَّرَهُ خاصًّا قالَ: وأصْلُهُ (لِيُنْذِرَ) الَّذِينَ كَفَرُوا ﴿بَأْسًا شَدِيدًا﴾ [الكهف: ٢] والبَأْسُ مِن قَوْلِهِ: ﴿بِعَذابٍ بَئِيسٍ﴾ [الأعراف: ١٦٥] وقَدْ بَؤُسَ العَذابُ وبَؤُسَ الرَّجُلُ بَأْسًا وبَأْسَةً. انْتَهى. وكَأنَّهُ راعى في تَعْيِينِ المَحْذُوفِ مُقابَلَةً وهو ﴿ويُبَشِّرُ المُؤْمِنِينَ الَّذِينَ﴾ [الكهف: ٢] والبَأْسُ الشَّدِيدُ عَذابُ الآخِرَةِ ويُحْتَمَلُ أنْ يَنْدَرِجَ فِيهِ ما يَلْحَقُهم مِن عَذابِ الدُّنْيا. ومَعْنى مِن (لَدُنْهُ) صادِرٌ مِن عِنْدِهِ. وقَرَأ أبُو بَكْرٍ بِسُكُونِ الدّالِ وإشْمامِها الضَّمَّ وكَسْرِ النُّونِ، وتَقَدَّمَ الكَلامُ عَلَيْها في أوَّلِ هُودٍ. وقُرِئَ (ويُبَشِّرُ) بِالرَّفْعِ والجُمْهُورُ بِالنَّصْبِ عَطْفًا عَلى (لِيُنْذِرَ) والأجْرُ الحَسَنُ الجَنَّةُ، ولَمّا كَنّى عَنِ الجَنَّةِ بِقَوْلِهِ: ﴿أجْرًا حَسَنًا﴾ [الكهف: ٢] قالَ: ﴿ماكِثِينَ فِيهِ﴾ [الكهف: ٣] أيْ: مُقِيمِينَ فِيهِ، فَجَعَلَهُ ظَرْفًا لِإقامَتِهِمْ، ولَمّا كانَ المُكْثُ لا يَقْتَضِي التَّأْبِيدَ قالَ: (أبَدًا) وهو ظَرْفٌ دالٌّ عَلى زَمَنٍ غَيْرِ مُتَناهٍ، وانْتَصَبَ (ماكِثِينَ) عَلى الحالِ وذُو الحالِ هو الضَّمِيرُ في (لَهم) والَّذِينَ نَسَبُوا الوَلَدَ إلى اللَّهِ تَعالى بَعْضُ اليَهُودِ في عُزَيْرٍ، وبَعْضُ النَّصارى في المَسِيحِ، وبَعْضُ العَرَبِ في المَلائِكَةِ، والضَّمِيرُ في (بِهِ) الظّاهِرُ أنَّهُ عائِدٌ عَلى الوَلَدِ الَّذِي ادَّعَوْهُ. قالَ الَمَهْدَوِيُّ: فَتَكُونُ الجُمْلَةُ صِفَةً لِلْوَلَدِ. قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وهَذا مُعْتَرَضٌ؛ لِأنَّهُ لا يَصِفُهُ إلّا القائِلُ وهم لَيْسَ قَصْدُهم أنْ يَصِفُوهُ، والصَّوابُ عِنْدِي أنَّهُ نَفْيٌ مُؤْتَنِفٌ أخْبَرَ اللَّهُ تَعالى بِهِ بِجَهْلِهِمْ في ذَلِكَ، ولا مَوْضِعَ لِلْجُمْلَةِ مِنَ الإعْرابِ ويُحْتَمَلُ أنْ يَعُودَ عَلى اللَّهِ تَعالى، وهَذا التَّأْوِيلُ أذُمُّ لَهم وأقْضى في الجَهْلِ التّامِّ عَلَيْهِمْ وهو (p-٩٧)قَوْلُ الطَّبَرِيِّ. انْتَهى. قِيلَ: والمَعْنى ﴿ما لَهُمْ﴾ بِاللَّهِ ﴿مِن عِلْمٍ﴾ فَيُنَزِّهُوهُ عَمّا لا يَجُوزُ عَلَيْهِ، ويُحْتَمَلُ أنْ يَعُودَ عَلى القَوْلِ المَفْهُومِ مِن (قالُوا) أيْ ما لَهم بِقَوْلِهِمْ هَذا مِن عِلْمٍ، فالجُمْلَةُ في مَوْضِعِ الحالِ قالُوا جاهِلِينَ مِن غَيْرِ فِكْرٍ ولا رَوِيَّةٍ ولا نَظَرٍ في ما يَجُوزُ ويَمْتَنِعُ. وقِيلَ: يَعُودُ عَلى الِاتِّخاذِ المَفْهُومِ مِنِ اتَّخَذَهُ أيْ ما لَهم بِحِكْمَةِ الِاتِّخاذِ مِن عِلْمٍ إذْ لا يَتَّخِذُهُ إلّا مَن هو عاجِزٌ مَقْهُورٌ يَحْتاجُ إلى مُعِينٍ يَشُدُّ بِهِ عَضُدَهُ، وهَذا مُسْتَحِيلٌ عَلى اللَّهِ. قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: اتِّخاذُ اللَّهِ ولَدًا في نَفْسِهِ مُحالٌ، فَكَيْفَ قِيلَ ﴿ما لَهم بِهِ مِن عِلْمٍ﴾ قُلْتُ: مَعْناهُ ما لَهم بِهِ مِن عِلْمٍ؛ لِأنَّهُ لَيْسَ مِمّا يُعْلَمُ لِاسْتِحالَتِهِ، وانْتِفاءُ العِلْمِ بِالشَّيْءِ إمّا لِلْجَهْلِ بِالطَّرِيقِ المُوَصِّلِ إلَيْهِ، وإمّا لِأنَّهُ في نَفْسِهِ مُحالٌ لا يَسْتَقِيمُ تَعَلُّقُ العِلْمِ بِهِ. انْتَهى. ﴿ولا لِآبائِهِمْ﴾ مَعْطُوفٌ عَلى (لَهم) وهم مَن تَقَدَّمَ مِن أسْلافِهِمُ الَّذِينَ ذَهَبُوا إلى هَذِهِ المَقالَةِ السَّخِيفَةِ، بَلْ مَن قالَ ذَلِكَ إنَّما قالَهُ عَنْ جَهْلٍ وتَقْلِيدٍ، وذَكَرَ الآباءَ؛ لِأنَّ تِلْكَ المَقالَةَ قَدْ أخَذُوها عَنْهم وتَلَقَّفُوها مِنهم. وقَرَأ الجُمْهُورُ: (كَلِمَةً) بِالنَّصْبِ، والظّاهِرُ انْتِصابُها عَلى التَّمْيِيزِ، وفاعِلُ (كَبُرَتْ) مُضْمَرٌ يَعُودُ عَلى المَقالَةِ المَفْهُومَةِ مِن قَوْلِهِ: ﴿قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ ولَدًا﴾ [الكهف: ٤] وفي ذَلِكَ مَعْنى التَّعَجُّبِ أيْ: ما أكْبَرُها كَلِمَةً، والجُمْلَةُ بَعْدَها صِفَةٌ لَها تُفِيدُ اسْتِعْظامَ اجْتِرائِهِمْ عَلى النُّطْقِ بِها وإخْراجِها مِن أفْواهِهِمْ، فَإنَّ كَثِيرًا مِمّا يُوَسْوِسُ بِهِ الشَّيْطانُ في القُلُوبِ ويُحَدِّثُ بِهِ النَّفْسَ لا يُمْكِنُ أنْ يَتَفَوَّهَ بِهِ بَلْ يَصْرِفُ عَنْهُ الفِكْرَ، فَكَيْفَ بِمِثْلِ هَذا المُنْكَرِ وسُمِّيَتْ (كَلِمَةً) كَما يُسَمُّونَ القَصِيدَةَ كَلِمَةً. وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وهَذِهِ المَقالَةُ هي قائِمَةٌ في النَّفْسِ مَعْنًى واحِدًا فَيَحْسُنُ أنْ تُسَمّى (كَلِمَةً) وقالَ أيْضًا: وقَرَأ الجُمْهُورُ بِنَصْبِ الكَلِمَةِ، كَما تَقُولُ: نِعْمَ رَجُلًا زَيْدٌ، وفَسَّرَ بِالكَلِمَةِ ووَصَفَها بِالخُرُوجِ مِن أفْواهِهِمْ، فَقالَ بَعْضُهم: نَصْبُها عَلى التَّفْسِيرِ عَلى حَدِّ نَصْبِ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وساءَتْ مُرْتَفَقًا﴾ [الكهف: ٢٩] . وقالَتْ فِرْقَةٌ: نَصْبُها عَلى الحالِ أيْ كَبُرَتْ فِرْيَتُهم ونَحْوَ هَذا. انْتَهى. فَعَلى قَوْلِهِ كَما تَقُولُ: نِعْمَ رَجُلًا زَيْدٌ يَكُونُ المَخْصُوصُ بِالذَّمِّ مَحْذُوفًا؛ لِأنَّهُ جَعَلَ (تَخْرُجُ) صِفَةً لِكَلِمَةٍ، والتَّقْدِيرُ ﴿كَبُرَتْ كَلِمَةً﴾ خارِجَةً ﴿مِن أفْواهِهِمْ﴾ تِلْكَ المَقالَةُ الَّتِي فاهُوا بِها وهي مَقالَتُهم ﴿اتَّخَذَ اللَّهُ ولَدًا﴾ [الكهف: ٤] . والضَّمِيرُ في (كَبُرَتْ) لَيْسَ عائِدًا عَلى ما قَبْلَهُ، بَلْ هو مُضْمَرٌ يُفَسِّرُهُ ما بَعْدَهُ، وهو التَّمْيِيزُ عَلى مَذْهَبِ البَصْرِيِّينَ، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ المَخْصُوصُ بِالذَّمِّ مَحْذُوفًا، وتَخْرُجُ صِفَةً لَهُ أيْ ﴿كَبُرَتْ كَلِمَةً﴾ كَلِمَةً ﴿تَخْرُجُ مِن أفْواهِهِمْ﴾ . وقالَ أبُو عُبَيْدَةَ: نُصِبَ عَلى التَّعَجُّبِ أيْ: أكْبِرْ بِها (كَلِمَةً) أيْ: مِن (كَلِمَةً) . وقُرِئَ (كَبْرَتْ) بِسُكُونِ الباءِ، وهي في لُغَةِ تَمِيمٍ. وقَرَأ الحَسَنُ وابْنُ يَعْمُرُ وابْنُ مُحَيْصِنٍ والقَوّاسُ عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ بِالرَّفْعِ عَلى الفاعِلِيَّةِ والنَّصْبُ أبْلَغُ في المَعْنى وأقْوى، و(إنْ) نافِيَةٌ أيْ: ما (يَقُولُونَ) و(كَذِبًا) نَعْتٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ أيْ: قَوْلًا (كَذِبًا) . ﴿فَلَعَلَّكَ باخِعٌ﴾ لَعَلَّ لِلتَّرَجِّي في المَحْبُوبِ ولِلْإشْفاقِ في المَحْذُورِ. وقالَ العَسْكَرِيُّ: فِيها هُنا هي مَوْضُوعَةٌ مَوْضِعَ النَّهْيِ يَعْنِي أنَّ المَعْنى لا تَبْخَعْ نَفْسَكَ. وقِيلَ: وُضِعَتْ مَوْضِعَ الِاسْتِفْهامِ تَقْدِيرُهُ هَلْ أنْتَ ﴿باخِعٌ نَفْسَكَ﴾ وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: تَقْرِيرٌ وتَوْقِيفٌ بِمَعْنى الإنْكارِ عَلَيْهِ أيْ: لا تَكُنْ كَذَلِكَ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: شَبَّهَهُ وإيّاهم حِينَ تَوَلَّوْا عَنْهُ ولَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ وما تَداخَلَهُ مِنَ الوَجْدِ والأسَفِ عَلى تَوَلِّيهِمْ بِرَجُلٍ فارَقَتْهُ أحِبَّتُهُ وأعِزَّتُهُ، فَهو يَتَساقَطُ حَسَراتٍ عَلى آثارِهِمْ ويَبْخَعُ نَفْسَهُ وجْدًا عَلَيْهِمْ وتَلَهُّفًا عَلى فِراقِهِمُ. انْتَهى. وتَكُونُ لَعَلَّ لِلِاسْتِفْهامِ قَوْلٌ كُوفِيٌّ، والَّذِي يَظْهَرُ أنَّها لِلْإشْفاقِ أشْفَقَ أنْ يَبْخَعَ الرَّسُولُ ﷺ نَفْسَهُ لِكَوْنِهِمْ لَمْ يُؤْمِنُوا. وقَوْلُهُ: ﴿عَلى آثارِهِمْ﴾ اسْتِعارَةٌ فَصِيحَةٌ مِن حَيْثُ لَهم إدْبارٌ وتَباعُدٌ عَنِ الإيمانِ وإعْراضٌ عَنِ الشَّرْعِ، فَكَأنَّهم مِن فَرْطِ إدْبارِهِمْ قَدْ بَعُدُوا فَهو في إدْبارِهِمْ يَحْزَنُ عَلَيْهِمْ، ومَعْنى ﴿عَلى آثارِهِمْ﴾ مِن بَعْدِهِمْ أيْ: بَعْدَ يَأْسِكَ مِن إيمانِهِمْ أوْ بَعْدَ مَوْتِهِمْ عَلى الكُفْرِ. ويُقالُ: ماتَ فُلانٌ عَلى أثَرِ فُلانٍ أيْ: بَعْدَهُ، وقُرِئَ ﴿باخِعُ نَفْسِكَ﴾ بِالإضافَةِ. وقَرَأ الجُمْهُورُ: (باخِعٌ) بِالتَّنْوِينِ (نَفْسَكَ) بِالنَّصْبِ. قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: عَلى الأصْلِ (p-٩٨)يَعْنِي أنَّ اسْمَ الفاعِلِ إذا اسْتَوْفى شُرُوطَ العَلَمِ، فالأصْلُ أنْ يَعْمَلَ، وقَدْ أشارَ إلى ذَلِكَ سِيبَوَيْهِ في كِتابِهِ. وقالَ الكِسائِيُّ: العَمَلُ والإضافَةُ سَواءٌ، وقَدْ ذَهَبْنا إلى أنَّ الإضافَةَ أحْسَنُ مِنَ العَمَلِ بِما قَرَّرْناهُ في ما وضَعْنا في عِلْمِ النَّحْوِ. وقُرِئَ ﴿إنْ لَمْ يُؤْمِنُوا﴾ بِكَسْرِ المِيمِ وفَتْحِها فَمَن كَسَرَ، فَقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: هو يَعْنِي اسْمَ الفاعِلِ لِلِاسْتِقْبالِ، ومَن فَتَحَ فَلِلْمُضِيِّ يَعْنِي حالَةَ الإضافَةِ، أيْ لِأنَّ ﴿لَمْ يُؤْمِنُوا﴾ والإشارَةُ بِهَذا الحَدِيثِ إلى القُرْآنِ. قالَ تَعالى: ﴿اللَّهُ نَزَّلَ أحْسَنَ الحَدِيثِ كِتابًا مُتَشابِهًا﴾ [الزمر: ٢٣] . و﴿أسَفًا﴾ قالَ مُجاهِدٌ: جَزَعًا. وقالَ قَتادَةُ: غَضَبًا وعَنْهُ أيْضًا حَزَنًا. وقالَ السُّدِّيُّ: نَدَمًا وتَحَسُّرًا. وقالَ الزَّجّاجُ: الأسَفُ المُبالَغَةُ في الحُزْنِ والغَضَبِ. وقالَ مُنْذِرُ بْنُ سَعِيدٍ: الأسَفُ هُنا الحُزْنُ؛ لِأنَّهُ عَلى مَن لا يَمْلِكُ ولا هو تَحْتَ يَدِ الآسِفِ، ولَوْ كانَ الأسَفُ مِن مُقْتَدِرٍ عَلى مَن هو في قَبْضَتِهِ ومِلْكِهِ كانَ غَضَبًا، كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَلَمّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنهُمْ﴾ [الزخرف: ٥٥] أيْ: أغْضَبُونا. قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وإذا تَأمَّلْتَ هَذا في كَلامِ العَرَبِ اطَّرَدَ. انْتَهى. وانْتِصابُ (أسَفًا) عَلى أنَّهُ مَفْعُولٌ مِن أجْلِهِ أوْ عَلى أنَّهُ مَصْدَرٌ في مَوْضِعِ الحالِ، وارْتِباطُ قَوْلِهِ ﴿إنّا جَعَلْنا﴾ الآيَةَ بِما قَبْلَها هو عَلى سَبِيلِ التَّسْلِيَةِ لِلرَّسُولِ ﷺ لِأنَّهُ تَعالى أخْبَرَ أنَّهُ خَلَقَ ما عَلى الأرْضِ مِنَ الزِّينَةِ لِلِابْتِلاءِ والِاخْتِبارِ أيُّ النّاسِ ﴿أحْسَنُ عَمَلًا﴾ فَلَيْسُوا عَلى نَمَطٍ واحِدٍ في الِاسْتِقامَةِ واتِّباعِ الرُّسُلِ، بَلْ لا بُدَّ أنْ يَكُونَ فِيهِمْ مَن هو أحْسَنُ عَمَلًا ومَن هو أسْوَأُ عَمَلًا، فَلا تَغْتَمَّ وتَحْزَنْ عَلى مَن فُضِّلْتَ عَلَيْهِ بِأنَّهُ يَكُونُ أسْوَأ عَمَلًا ومَعَ كَوْنِهِمْ يَكْفُرُونَ بِي لا أقْطَعُ عَنْهم مَوادَّ هَذِهِ النِّعَمِ الَّتِي خَلَقْتُها. و(جَعَلْنا) هُنا بِمَعْنى خَلَقْنا، والظّاهِرُ أنَّ ما يُرادُ بِها غَيْرُ العاقِلِ وأنَّهُ يُرادُ بِهِ العُمُومُ فِيما لا يَعْقِلُ. و(زِينَةً) كُلُّ شَيْءٍ بِحَسَبِهِ. وقِيلَ: لا يَدْخُلُ في ذَلِكَ ما كانَ فِيهِ إيذاءٌ مِن حَيَوانٍ وحَجَرٍ ونَباتٍ؛ لِأنَّهُ لا زِينَةَ فِيهِ، ومَن قالَ بِالعُمُومِ قالَ فِيهِ: (زِينَةً) مِن جِهَةِ خَلْقِهِ وصَنْعَتِهِ وإحْكامِهِ. وقِيلَ: المُرادُ بِما هُنا خُصُوصُ ما لا يَعْقِلُ. فَقِيلَ: الأشْجارُ والأنْهارُ. وقِيلَ: النَّباتُ لِما فِيهِ مِنَ الِاخْتِلافِ والأزْهارِ. وقِيلَ: الحَيَوانُ المُخْتَلِفُ الأشْكالِ والمَنافِعِ والأفْعالِ. وقِيلَ: الذَّهَبُ والفِضَّةُ والنُّحاسُ والرَّصاصُ والياقُوتُ والزَّبَرْجَدُ والجَوْهَرُ والمَرْجانُ وما يَجْرِي مَجْرى ذَلِكَ مِن نَفائِسِ الأحْجارِ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: ﴿ما عَلى الأرْضِ﴾ يَعْنِي ما يَصْلُحُ أنْ يَكُونَ ﴿زِينَةً لَها﴾ ولِأهْلِها مِن زَخارِفِ الدُّنْيا وما يُسْتَحْسَنُ مِنها. وقالَتْ فِرْقَةٌ: أرادَ النَّعِيمَ والمَلابِسَ والثِّمارَ والخُضْرَةَ والمِياهَ. وقِيلَ: (ما) هُنا لِمَن يَعْقِلُ، فَعَنْ مُجاهِدٍ هو الرِّجالُ وقالَهُ ابْنُ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ، ورَوى عِكْرِمَةُ أنَّ الزِّينَةَ الخُلَفاءُ والعُلَماءُ والأُمَراءُ. وانْتَصَبَ (زِينَةً) عَلى الحالِ أوْ عَلى المَفْعُولِ مِن أجْلِهِ إنْ كانَ (جَعَلْنا) بِمَعْنى خَلَقْنا، وأوْجَدْنا، وإنْ كانَتْ بِمَعْنى صَيَّرْنا فانْتَصَبَ عَلى أنَّهُ مَفْعُولٌ ثانٍ. واللّامُ مِن (لِنَبْلُوَهم) تَتَعَلَّقُ بِجَعَلْنا، والِابْتِلاءُ الِاخْتِبارُ وهو مُتَأوَّلٌ بِالنِّسْبَةِ إلى اللَّهِ تَعالى. والضَّمِيرُ في (لِنَبْلُوَهم) إنْ كانَتْ (ما) لِمَن يَعْقِلُ فَهو عائِدٌ عَلَيْها عَلى المَعْنى، وأنْ لا يَعُودَ عَلى ما يُفْهَمُ مِن سِياقِ الكَلامِ وهو سُكّانُ الأرْضِ المُكُلَّفُونَ (وأيُّهم) يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ فِيها إعْرابًا فَيَكُونُ (أيُّهم) مُبْتَدَأً و(أحْسَنُ) خَبَرَهُ. والجُمْلَةُ في مَوْضِعِ المَفْعُولِ (لِنَبْلُوَهم) ويَكُونُ قَدْ عَلَّقَ (لِنَبْلُوَهم) إجْراءً لَها مَجْرى العِلْمِ؛ لِأنَّ الِابْتِلاءَ والِاخْتِبارَ سَبَبٌ لِلْعِلْمِ، كَما عَلَّقُوا سَلْ وانْظُرِ البَصَرِيَّةَ؛ لِأنَّهُما سَبَبانِ لِلْعِلْمِ وإلى أنَّ الجُمْلَةَ اسْتِفْهامِيَّةٌ مُبْتَدَأٌ وخَبَرٌ ذَهَبَ الحَوْفِيُّ، ويُحْتَمَلُ أنْ تَكُونَ الضَّمَّةُ فِيها بِناءً عَلى مَذْهَبِ سِيبَوَيْهِ لِوُجُودِ شَرْطِ جَوازِ البِناءِ في أيْ. وهو كَوْنُها مُضافَةً قَدْ حُذِفَ صَدْرُ صِلَتِها، فَأحْسَنُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ فَتَقْدِيرُهُ هو (أحْسَنُ) ويَكُونُ (أيُّهم) في مَوْضِعِ نَصْبٍ بَدَلًا مِنَ الضَّمِيرِ في (لِنَبْلُوَهم) والمُفَضَّلُ عَلَيْهِ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ مِمَّنْ لَيْسَ ﴿أحْسَنُ عَمَلًا﴾ . وقالَ الثَّوْرِيُّ: أحْسَنُهم عَمَلًا أزْهَدُهم فِيها. وقالَ أبُو عاصِمٍ العَسْقَلانِيُّ: أتْرَكُ لَها. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: حُسْنُ العَمَلِ الزُّهْدُ فِيها وتَرْكُ الِاغْتِرارِ بِها. وقالَ أبُو بَكْرٍ غالِبُ بْنُ عَطِيَّةَ: أحْسَنُ العَمَلِ (p-٩٩)أخْذٌ بِحَقٍّ مَعَ الإيمانِ وأداءُ الفَرائِضِ واجْتِنابُ المَحارِمِ والإكْثارُ مِنَ المَندُوبِ إلَيْهِ. وقالَ الكَلْبِيُّ: أحْسَنَ طاعَةً. وقالَ القاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ ما عَلَيْها مِنَ الأنْبِياءِ والعُلَماءِ لِيَبْلُوَ المُرْسَلَ إلَيْهِمْ والمُقَلِّدِينَ لِلْعُلَماءِ أيُّهم أحْسَنُ قَبُولًا وإجابَةً. وقالَ سَهْلٌ: أحْسَنُ تَوَكُّلًا عَلَيْنا فِيها. وقِيلَ: أصْفى قَلْبًا وأحْسَنُ سَمْتًا. وقالَ ابْنُ إسْحاقَ: أيَهُمُّ أتْبَعُ لِأمْرِي وأعْمَلُ بِطاعَتِي. (وإنّا لَجاعِلُونَ) أيْ: مُصَيِّرُونَ (ما عَلَيْها) مِمّا كانَ زِينَةً لَها أوْ (ما عَلَيْها) مِمّا هو أعَمُّ مِنَ الزِّينَةِ وغَيْرِهِ (صَعِيدًا) تُرابًا (جُرُزًا) لا نَباتَ فِيهِ، وهَذا إشارَةٌ إلى التَّزْهِيدِ في الدُّنْيا والرَّغْبَةِ عَنْها وتَسْلِيَةٌ لِلرَّسُولِ ﷺ عَنْ ما تَضَمَّنَتْهُ أيْدِي المُتْرَفِينَ مِن زِينَتِها، إذْ مَآلُ ذَلِكَ كُلِّهِ إلى الفَناءِ والمِحاقِ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: ﴿ما عَلَيْها﴾ مِن هَذِهِ الزِّينَةِ ﴿صَعِيدًا جُرُزًا﴾ يَعْنِي مِثْلَ أرْضٍ بَيْضاءَ لا نَباتَ فِيها بَعْدَ أنْ كانَتْ خَضْراءَ مُعْشِبَةً في إزالَةِ بَهْجَتِهِ، وإماطَةِ حُسْنِهِ، وإبْطالِ ما بِهِ كانَ زِينَةً مِن إماتَةِ الحَيَوانِ وتَجْفِيفِ النَّباتِ والأشْجارِ ونَحْوِ ذَلِكَ. انْتَهى. قِيلَ: والصَّعِيدُ ما تَصاعَدَ عَلى وجْهِ الأرْضِ. وقالَ مُجاهِدٌ: الأرْضُ الَّتِي لا نَباتَ بِها. وقالَ السُّدِّيُّ الأمْلَسُ المُسْتَوِي. وقِيلَ: الطَّرِيقُ. وفي الحَدِيثِ: (إيّاكم والقُعُودَ عَلى الصُّعُداتِ) .
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب