الباحث القرآني

﴿ونادى أصْحابُ الأعْرافِ رِجالًا يَعْرِفُونَهم بِسِيماهم قالُوا ما أغْنى عَنْكم جَمْعُكم وما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ﴾ يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ هَذا النِّداءُ وأُولَئِكَ الرِّجالُ في النّارِ، ومَعْرِفَتُهم إيّاهم في الدُّنْيا بِعَلاماتٍ، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ وهم يُحْمَلُونَ إلى النّارِ وسِيماهم تَسْوِيدُ الوَجْهِ وتَشْوِيهُ الخَلْقِ، وقالَ أبُو مِجْلَزٍ: المَلائِكَةُ تُنادِي رِجالًا في النّارِ، وهَذا عَلى تَفْسِيرِهِ أنَّ الأعْرافَ هم مَلائِكَةٌ والجُمْهُورُ عَلى أنَّهم آدَمِيُّونَ، ولَفْظُ ﴿رِجالًا﴾ يَدُلُّ عَلى أنَّهم غَيْرُ مُعَيَّنِينَ، وقالَ ابْنُ القُشَيْرِيِّ: يُنادِي أصْحابُ الأعْرافِ رُؤَساءَ المُشْرِكِينَ قَبْلَ امْتِحاءِ صُوَرِهِمْ بِالنّارِ يا ولِيدَ بْنَ المُغِيرَةِ يا أبا جَهْلِ بْنَ هِشامٍ يا عاصِي بْنَ وائِلٍ يا عُتْبَةُ بْنَ أبِي مُعَيْطٍ يا أُمَيَّةُ بْنَ خَلَفٍ يا أُبَيُّ بْنَ خَلَفٍ يا سائِرَ رُؤَساءِ الكُفّارِ ما أغْنى عَنْكم جَمْعُكم في الدُّنْيا - المالُ والوَلَدُ والأجْنادُ والحُجّابُ والجُيُوشُ - وما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ عَنِ الإيمانِ. انْتَهى. و﴿ما أغْنى﴾ اسْتِفْهامُ تَوْبِيخٍ وتَقْرِيعٍ، وقِيلَ: نافِيَةٌ و”ما“ في و﴿ما كُنْتُمْ﴾ [الأعراف: ٣٧] مَصْدَرِيَّةٌ، أيْ: وكَوْنُكم تَسْتَكْبِرُونَ وقَرَأتْ فِرْقَةٌ تَسْتَكْثِرُونَ بِالثّاءِ مُثَلَّثَةً مِنَ الكَثْرَةِ. ﴿أهَؤُلاءِ الَّذِينَ أقْسَمْتُمْ لا يَنالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكم ولا أنْتُمْ تَحْزَنُونَ﴾ الظّاهِرُ أنَّ هَذا مِن جُمْلَةِ مَقُولِ أهْلِ الأعْرافِ وتَكُونُ الإشارَةُ إلى أهْلِ الجَنَّةِ الَّذِينَ كانَ الرُّؤَساءُ يَسْتَهِينُونَ بِهِمْ ويُحَقِّرُونَهم لِفَقْرِهِمْ وقِلَّةِ حُظُوظِهِمْ في الدُّنْيا وكانُوا يُقْسِمُونَ بِاللَّهِ تَعالى لا يُدْخِلُهُمُ (p-٣٠٤)الجَنَّةَ. قالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ، وذَكَرَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ عَنْ بَعْضِ المُتَأوِّلِينَ، قالَ: الإشارَةُ بِهَؤُلاءِ إلى أهْلِ الجَنَّةِ والمُخاطَبُونَ هم أهْلُ الأعْرافِ، والَّذِينَ خُوطِبُوا أهْلُ النّارِ، والمَعْنى: ﴿أهَؤُلاءِ﴾ الضُّعَفاءُ في الدُّنْيا الَّذِينَ حَلَفْتُمْ أنَّ اللَّهَ لا يَعْبَأُ بِهِمْ قِيلَ لَهُمُ ادْخُلُوا الجَنَّةَ، وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ: ﴿أهَؤُلاءِ﴾ مِن كَلامِ مَلَكٍ بِأمْرِ اللَّهِ إشارَةً إلى أهْلِ الأعْرافِ ومُخاطَبَةً لِأهْلِ النّارِ، قالَ النَّقّاشُ لَمّا وبَّخُوهم بِقَوْلِهِمْ ﴿ما أغْنى عَنْكم جَمْعُكُمْ﴾ أقْسَمَ أهْلُ النّارِ أنَّ أهْلَ الأعْرافِ داخِلُونَ النّارَ مَعَهم فَنادَتْهُمُ المَلائِكَةُ ﴿أهَؤُلاءِ﴾، ثُمَّ نادى أهْلُ الأعْرافِ ادْخُلُوا الجَنَّةَ، وقِيلَ: الإشارَةُ بِهَؤُلاءِ إلى أهْلِ الأعْرافِ والقائِلُونَ هم أصْحابُ الأعْرافِ، ثُمَّ يَرْجِعُونَ إلى مُخاطَبَةِ أنْفُسِهِمْ فَيَقُولُ بَعْضُهم لِبَعْضٍ: ﴿ادْخُلُوا الجَنَّةَ﴾ . قالَهُ الحَسَنُ، وقِيلَ: الإشارَةُ إلى المُؤْمِنِينَ الَّذِينَ كانَ الكُفّارُ يَحْلِفُونَ أنَّهم لا يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ والقائِلُ إمّا اللَّهُ وإمّا المَلائِكَةُ، وقِيلَ: المُشارُ بِهَؤُلاءِ أصْحابُ الأعْرافِ والقائِلُ مالِكٌ خازِنُ النّارِ بِأمْرِ اللَّهِ تَعالى، وقالَ أبُو مِجْلَزٍ: أهْلُ الأعْرافِ هُمُ المَلائِكَةُ وهُمُ القائِلُونَ ﴿أهَؤُلاءِ﴾ إشارَةً إلى أهْلِ الجَنَّةِ، وكَذَلِكَ مَجِيءُ قَوْلِ مَن قالَ: أهْلُ الأعْرافِ أنْبِياءٌ وشُهَداءٌ، وقَرَأ الحَسَنُ، وابْنُ هُرْمُزَ: (أدْخِلُوا) مِن أدْخَلَ، أيْ: أدْخِلُوا أنْفُسَكم، أوْ يَكُونُ خِطابًا لِلْمَلائِكَةِ، ثُمَّ خاطَبَ بَعْدُ البَشَرَ. وقَرَأ عِكْرِمَةُ دَخَلُوا إخْبارًا بِفِعْلٍ ماضٍ، وقَرَأ طَلْحَةُ، وابْنُ وثّابٍ والنَّخَعِيُّ ﴿ادْخُلُوا﴾ خَبَرًا مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، وعَلى هاتَيْنِ القِراءَتَيْنِ يَكُونُ قَوْلُهُ: ﴿لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ﴾ عَلى تَقْدِيرِ: مَقُولًا لَهم لا خَوْفٌ عَلَيْكم، قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: يُقالُ لِأهْلِ الأعْرافِ ادْخُلُوا الجَنَّةَ بَعْدَ أنْ يُحْبَسُوا عَلى الأعْرافِ ويَنْظُرُوا إلى الفَرِيقَيْنِ ويَعْرِفُوهم بِسِيماهم ويَقُولُوا ما يَقُولُونَ، وفائِدَةُ ذَلِكَ بَيانُ أنَّ الجَزاءَ عَلى قَدْرِ الأعْمالِ، وأنَّ التَّقَدُّمَ والتَّأخُّرَ عَلى حَسَبِها، وأنَّ أحَدًا لا يَسْبِقُ عِنْدَ اللَّهِ تَعالى إلّا بِسَبْقِهِ مِنَ العَمَلِ ولا يَتَخَلَّفُهُ إلّا بِتَخَلُّفِهِ، ولِيَرْغَبَ السّامِعُونَ في حالِ السّابِقَيْنِ ويَحْرِصُوا عَلى إحْرازِ قَصَبِهِمْ، وأنَّ كُلًّا يَعْرِفُ ذَلِكَ اليَوْمَ بِسِيماهُ الَّتِي اسْتَوْجَبَ أنْ يُوسَمَ بِها مِن أهْلِ الخَيْرِ والشَّرِّ فَيَرْتَدِعَ المُسِيءُ عَنْ إساءَتِهِ ويَزِيدَ المُحْسِنُ في إحْسانِهِ ولِيُعْلَمَ أنَّ العُصاةَ يُوَبِّخُهم كُلُّ أحَدٍ حَتّى أقْصَرُ النّاسِ عَمَلًا. انْتَهى. وهو تَكْثِيرٌ مِن بابِ الخَطابَةِ لا طائِلَ تَحْتَهُ وفِيهِ دَسِيسَةُ الِاعْتِزالِ، وعَنْ حُذَيْفَةَ أنَّ أهْلَ الأعْرافِ يَرْغَبُونَ في الشَّفاعَةِ فَيَأْتُونَ آدَمَ فَيَدْفَعُهم إلى نُوحٍ، ثُمَّ يَتَدافَعُهُمُ الأنْبِياءُ حَتّى يَأْتُوا مُحَمَّدًا ﷺ فَيَشْفَعَ لَهم، فَيُشَفَّعُ فَيَدْخُلُونَ الجَنَّةَ فَيُلْقَوْنَ في نَهْرِ الحَياةِ فَيَبْيَضُّونَ ويُسَمَّوْنَ مَساكِينَ الجَنَّةِ. قالَ سالِمٌ مَوْلى أبِي حُذَيْفَةَ: لَيْتَ أنِّي مِن أهْلِ الأعْرافِ. ﴿ونادى أصْحابُ النّارِ أصْحابَ الجَنَّةِ أنْ أفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الماءِ أوْ مِمّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قالُوا إنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُما عَلى الكافِرِينَ﴾، وهَذا يَقْتَضِي سَماعَ كُلٍّ مِنَ الفَرِيقَيْنِ كَلامَ الآخَرِ، وهَذا جائِزٌ عَقْلًا عَلى بُعْدِ المَسافَةِ بَيْنَهُما مِنَ العُلُوِّ والسُّفْلِ وجائِزٌ أنْ يَكُونَ ذَلِكَ مَعَ رُؤْيَةٍ واطِّلاعٍ مِنَ اللَّهِ وذَلِكَ أخْزى، وأنْكى لِلْكُفّارِ، وجائِزٌ أنْ يَكُونَ ذَلِكَ وبَيْنَهُمُ الحِجابُ والسُّورُ، وعَنِ ابْنِ عَبّاسٍ أنَّهُ لَمّا صارَ أصْحابُ الأعْرافِ إلى الجَنَّةِ طَمِعَ أهْلُ النّارِ في الفَرَجِ (p-٣٠٥)بَعْدَ اليَأْسِ فَقالُوا: يا رَبِّ لَنا قَراباتٌ مِن أهْلِ الجَنَّةِ فَأْذَنْ لَنا حَتّى نَراهم ونُكَلِّمَهم فَيَنْظُرُونَ إلَيْهِمْ وإلى ما هم فِيهِ مِنَ النَّعِيمِ فَعَرَفُوهم ونَظَرَ أهْلُ الجَنَّةِ إلى قَراباتِهِمْ مِن أهْلِ جَهَنَّمَ فَلَمْ يَعْرِفُوهم قَدِ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهم وصارُوا خَلْقًا آخَرَ فَنادى أصْحابُ النّارِ أصْحابَ الجَنَّةِ بِأسْمائِهِمْ وأخْبَرُوهم بِقَراباتِهِمْ فَيُنادِي الرَّجُلُ أخاهُ فَيَقُولُ يا أخِي قَدِ احْتَرَقْتُ فَأغِثْنِي فَيَقُولُ: إنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُما عَلى الكافِرِينَ. ويُحْتَمَلُ أنْ تَكُونَ مَصْدَرِيَّةً ومُفَسِّرَةً، وكَلامُ ابْنُ عَبّاسٍ يَدُلُّ عَلى أنَّ هَذا النِّداءَ كانَ عَنْ رَجاءٍ وطَمَعِ حُصُولِ ذَلِكَ، وقالَ القاضِي هو مَعَ اليَأْسِ؛ لِأنَّهم قَدْ عَلِمُوا دَوامَ عِقابِهِمْ، وأنَّهم لا يُفَتَّرُ عَنْهم ولَكِنَّ اليائِسَ مِنَ الشَّيْءِ قَدْ يَطْلُبُهُ كَما يُقالُ في المَثَلِ: الغَرِيقُ يَتَعَلَّقُ بِالزَّبَدِ، وإنْ عَلِمَ أنَّهُ لا يُغْنِيهِ. انْتَهى. و﴿أفِيضُوا﴾ أمْكَنُ مِنَ اسْقُونا؛ لِأنَّها تَقْتَضِي التَّوْسِعَةَ، كَما يُقالُ أفاضَ اللَّهُ عَلَيْهِ نِعَمَهُ، أيْ: وسَّعَها. وسُؤالُهُمُ الماءَ لِشِدَّةِ التِهابِهِمْ واحْتِراقِهِمْ؛ ولِأنَّ مِن عادَتِهِ إطْفاءَ النّارِ، أوْ مِمّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ؛ لِأنَّ البِنْيَةَ البَشَرِيَّةَ لا تَسْتَغْنِي عَنِ الطَّعامِ إذْ هو مُقَوِّيها، أوْ لِرَجائِهِمُ الرَّحْمَةَ بِأكْلِ طَعامٍ و(أوْ) عَلى بابِها مِن كَوْنِهِمْ سَألُوا أحَدَ الشَّيْئَيْنِ وأتى ﴿أوْ مِمّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ﴾ عامًّا، والعَطْفُ بـِ أوْ يَدُلُّ عَلى أنَّ الأوَّلَ لا يَنْدَرِجُ في العُمُومِ، وقِيلَ: أوْ بِمَعْنى الواوِ لِقَوْلِهِمْ إنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُما، وقِيلَ: المَعْنى حَرَّمَ كُلًّا مِنهُما فـَ أوْ عَلى بابِها وما رَزَقَكُمُ اللَّهُ عامٌّ فَيَدْخُلُ فِيهِ الطَّعامُ والفاكِهَةُ والأشْرِبَةُ غَيْرَ الماءِ، وتَخْصِيصُهُ بِالثَّمَرَةِ، أوْ بِالطَّعامِ، أوْ غَيْرِ الماءِ مِنَ الأشْرِبَةِ، أقْوالٌ ثانِيها لِلسُّدِّيِّ وثالِثُها لِلزَّمَخْشَرِيِّ قالَ: ﴿أوْ مِمّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ﴾ مِن غَيْرِهِ مِنَ الأشْرِبَةِ لِدُخُولِهِ في حُكْمِ الإفاضَةِ فَقالَ: ويَجُوزُ أنْ يُرادَ وألْقُوا عَلَيْنا مِمّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ مِنَ الطَّعامِ والفاكِهَةِ كَقَوْلِهِ: ؎عَلَفْتُها تِبْنًا وماءً بارِدًا وإنَّما يَطْلُبُونَ ذَلِكَ مَعَ يَأْسِهِمْ مِنَ الإجابَةِ إلَيْهِ حَيْرَةً في أمْرِهِمْ كَما يَفْعَلُهُ المُضْطَرُّ المُمْتَحَنُ. انْتَهى وقَوْلُهُ وإنَّما يَطْلُبُونَ إلى آخِرِهِ هو كَلامُ القاضِي، وقَدْ قَدَّمْناهُ، ويَجُوزُ أنْ يُرادَ وألْقُوا عَلَيْنا مِمّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ مِنَ الطَّعامِ والفاكِهَةِ يَحْتَمِلُ وجْهَيْنِ، أحَدَهُما: أنْ يَكُونَ ﴿أفِيضُوا﴾ [البقرة: ١٩٩] ضِمْنَ مَعْنى ألْقُوا ﴿عَلَيْنا مِنَ الماءِ أوْ مِمّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ﴾ فَيَصِحُّ العَطْفُ، ويُحْتَمَلُ وهو الظّاهِرُ مِن كَلامِهِ أنْ يَكُونَ أضْمَرَ فِعْلًا بَعْدَ (أوْ) يَصِلُ إلى ﴿مِمّا رَزَقَكُمُ﴾ وهو ألْقُوا وهُما مَذْهَبانِ لِلنُّحاةِ فِيما عُطِفَ عَلى شَيْءٍ بِحَرْفِ عَطْفٍ، والفِعْلُ لا يَصِلُ إلَيْهِ والصَّحِيحُ مِنهُما التَّضْمِينُ لا الإضْمارُ عَلى ما قَرَّرْناهُ في عِلْمِ العَرَبِيَّةِ، ومَعْنى التَّحْرِيمِ هُنا المَنعُ كَما قالَ: ؎حَرامٌ عَلى عَيْنَيَّ أنْ تَطْعَما الكَرى وإخْبارُهم بِذَلِكَ هو عَنْ أمْرِ اللَّهِ. ﴿الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهم لَهْوًا ولَعِبًا وغَرَّتْهُمُ الحَياةُ الدُّنْيا﴾ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ مِثْلِ هَذا في الأنْعامِ. ﴿فاليَوْمَ نَنْساهم كَما نَسُوا لِقاءَ يَوْمِهِمْ هَذا وما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ﴾ هَذا إخْبارٌ مِنَ اللَّهِ عَمّا يَفْعَلُ بِهِمْ، قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: وجَماعَةٌ يَتْرُكُهم في العَذابِ كَما تَرَكُوا النَّظَرَ لِلِقاءِ هَذا اليَوْمِ. وقالَ قَتادَةُ: نُسُوا مِنَ الخَيْرِ ولَمْ يُنْسَوْا مِنَ الشَّرِّ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: يَفْعَلُ بِهِمْ فِعْلَ النّاسِينَ الَّذِينَ يَنْسَوْنَ عَبِيدَهم مِنَ الخَيْرِ لا يَذْكُرُونَهم بِهِ ﴿كَما نَسُوا لِقاءَ يَوْمِهِمْ هَذا﴾ كَما فَعَلُوا بِلِقائِهِ فِعْلَ النّاسِينَ فَلَمْ يُخْطِرُوهُ بِبالِهِمْ ولَمْ يَهْتَمُّوا بِهِ، وقالَ الحَسَنُ، والسُّدِّيُّ أيْضًا والأكْثَرُونَ: ”نَتْرُكُهم في عَذابِهِمْ كَما تَرَكُوا العَمَلَ لِلِقاءِ يَوْمِهِمْ“ . انْتَهى. وإنْ قُدِّرَ النِّسْيانُ بِمَعْنى الذُّهُولِ مِنَ الكَفَرَةِ فَهو في جِهَةِ اللَّهِ بِتَسْمِيَةِ العُقُوبَةِ بِاسْمِ الذَّنْبِ ﴿وما كانُوا﴾ مَعْطُوفٌ عَلى ما نَسُوا، وما فِيهِما مَصْدَرِيَّةٌ ويَظْهَرُ أنَّ الكافَ في ”كَما“ لِلتَّعْلِيلِ. ﴿ولَقَدْ جِئْناهم بِكِتابٍ فَصَّلْناهُ عَلى عِلْمٍ هُدًى ورَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ الضَّمِيرُ في ﴿ولَقَدْ جِئْناهُمْ﴾ عائِدٌ عَلى مَن تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ ويَكُونُ الكِتابُ (p-٣٠٦)عَلى هَذا جِنْسًا، أيْ: ﴿بِكِتابٍ﴾ إلَهِيٍّ إذِ الضَّمِيرُ عامٌّ في الكُفّارِ، وقالَ يَحْيى بْنُ سَلامٍ: الضَّمِيرُ لِمُكَذِّبِي مُحَمَّدٍ ﷺ وهو ابْتِداءُ كَلامٍ وتَمَّ الكَلامُ عِنْدَ قَوْلِهِ: ﴿يَجْحَدُونَ﴾ والكِتابُ هو القُرْآنُ و﴿فَصَّلْناهُ﴾ عالِمِينَ كَيْفِيَّةَ تَفْصِيلِهِ مِن أحْكامٍ ومَواعِظَ وقِصَصٍ وسائِرِ مَعانِيهِ، وقِيلَ: ﴿فَصَّلْناهُ﴾ بِإيضاحِ الحَقِّ مِنَ الباطِلِ، وقِيلَ: نَزَّلْناهُ في فُصُولٍ مُخْتَلِفَةٍ. وقَرَأ ابْنُ مُحَيْصِنٍ والجَحْدَرِيُّ فَضَّلْناهُ بِالضّادِ المَنقُوطَةِ، والمَعْنى: فَضَّلْناهُ عَلى جَمِيعِ الكُتُبِ عالِمِينَ بِأنَّهُ أهْلٌ لِلتَّفْضِيلِ عَلَيْها، وفي التَّحْرِيرِ أنَّهُ فُضِّلَ عَلى سائِرِ الكُتُبِ المُنَزَّلَةِ بِثَلاثِينَ خَصْلَةً لَمْ تَكُنْ في غَيْرِهِ و﴿فَصَّلْناهُ﴾ صِفَةٌ لِكِتابٍ، وعَلى عِلْمٍ الظّاهِرُ أنَّهُ حالٌ مِن فاعِلِ ﴿فَصَّلْناهُ﴾، وقِيلَ: التَّقْدِيرُ: مُشْتَمِلًا عَلى عِلْمٍ فَيَكُونُ حالًا مِنَ المَفْعُولِ وانْتَصَبَ ﴿هُدًى ورَحْمَةً﴾ عَلى الحالِ، وقِيلَ: مَفْعُولٌ مِن أجْلِهِ، وقُرِئَ بِالرَّفْعِ، أيْ: هو هُدًى ورَحْمَةٌ، وقَرَأ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: ”هُدًى ورَحْمَةٍ“ بِالخَفْضِ عَلى البَدَلِ مِن كِتابٍ، أوِ النَّعْتِ وعَلى النَّعْتِ لِكِتابٍ خَرَّجَهُ الكِسائِيُّ والفَرّاءُ رَحِمَهُما اللَّهُ. ﴿هَلْ يَنْظُرُونَ إلّا تَأْوِيلَهُ﴾، أيْ: مَآلُ أمْرِهِ وعاقِبَتِهِ. قالَهُ قَتادَةُ، ومُجاهِدٌ، وغَيْرُهُما، قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: مَآلُهُ يَوْمَ القِيامَةِ. وقالَ السُّدِّيُّ في الدُّنْيا كَوَقْعَةِ بَدْرٍ ويَوْمَ القِيامَةِ أيْضًا، وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ ما يَئُولُ إلَيْهِ مِن تَبْيِينِ صِدْقِهِ وظُهُورِ صِحَّتِهِ ما نَطَقَ بِهِ مِنَ الوَعْدِ الوَعِيدِ، والتَّأْوِيلُ مادَّتُهُ هَمْزَةٌ وواوٌ ولامٌ مِن آلَ يَئُولُ، وقالَ الخَطّابِيُّ: أوَّلْتُ الشَّيْءَ رَدَدْتُهُ إلى أوَّلِهِ فاللَّفْظَةُ مَأْخُوذَةٌ مِنَ الأوَّلِ. انْتَهى وهو خَطَأٌ لِاخْتِلافِ المادَّتَيْنِ. ﴿يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالحَقِّ فَهَلْ لَنا مِن شُفَعاءَ فَيَشْفَعُوا لَنا أوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنّا نَعْمَلُ﴾، أيْ: يَظْهَرُ عاقِبَةُ ما أخْبَرَ بِهِ مِنَ الوَعْدِ والوَعِيدِ وذَلِكَ يَوْمَ القِيامَةِ يَسْألُ تارِكُو أتْباعِ الرَّسُولِ هَلْ لَنا مِن شُفَعاءَ سُؤالًا عَنْ وجْهِ الخَلاصِ في وقْتِ أنْ لا خَلاصَ وفي الكَلامِ حَذْفٌ، أيْ: لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالحَقِّ ولَمْ نُصَدِّقْهم، أوْ ولَمْ نَتَّبِعْهم ﴿فَهَلْ لَنا مِن شُفَعاءَ﴾ والرُّسُلُ هُنا الأنْبِياءُ أخْبَرُوا يَوْمَ القِيامَةِ أنَّ الَّذِي جاءَتْهم بِهِ رُسُلُهم هو الحَقُّ. وقِيلَ: مَلائِكَةُ العَذابِ عِنْدَ المُعايَنَةِ ما أنْذَرُوا بِهِ، وقَرَأ الجُمْهُورُ ﴿أوْ نُرَدُّ﴾ بِرَفْعِ الدّالِ، (فَنَعْمَلَ) بِنَصْبِ اللّامِ عَطْفُ جُمْلَةٍ فِعْلِيَّةٍ عَلى جُمْلَةٍ اسْمِيَّةٍ، وتَقَدَّمَهُما اسْتِفْهامٌ فانْتَصَبَ الجَوابانِ، أيْ: هَلْ شُفَعاءُ لَنا فَيَشْفَعُوا لَنا في الخَلاصِ مِنَ العَذابِ، أوْ هَلْ نُرَدُّ إلى الدُّنْيا فَنَعْمَلَ عَمَلًا صالِحًا، وقَرَأ الحَسَنُ: فِيما نَقَلَ الزَّمَخْشَرِيُّ بِنَصْبِ الدّالِ ورَفْعِ اللّامِ، وقَرَأ الحَسَنُ فِيما نَقَلَ ابْنُ عَطِيَّةَ وغَيْرُهُ بِرَفْعِهِما عَطَفَ ﴿فَنَعْمَلَ﴾ عَلى (نُرَدُّ)، وقَرَأ ابْنُ أبِي إسْحاقَ، وأبُو حَيْوَةَ بِنَصْبِهِما، فَنَصَبَ أوْ (نُرَدَّ) عَطْفًا عَلى (فَيَشْفَعُوا لَنا) جَوابًا عَلى جَوابٍ فَيَكُونُ الشُّفَعاءُ في أحَدِ أمْرَيْنِ إمّا في الخَلاصِ مِنَ العَذابِ وإمّا مِنَ الرَّدِّ إلى الدُّنْيا لِاسْتِئْنافِ العَمَلِ الصّالِحِ وتَكُونُ الشَّفاعَةُ قَدِ انْسَحَبَتْ عَلى الرَّدِّ، أوِ الخَلاصِ و(فَنَعْمَلُ) عَطْفٌ عَلى فَنُرَدُّ، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ (أوْ نُرَدُّ) مِن بابِ لَألْزَمَنَّكَ، أوْ تَقْضِيَنِي حَقِّي عَلى تَقْدِيرِ مَن قَدَّرَ ذَلِكَ حَتّى تَقْضِيَنِي حَقِّي، أوْ كَيْ تَقْضِيَنِي حَقِّي فَجَعَلَ اللُّزُومَ مُغَيًّا بِقَضاءِ حَقِّهِ، أوْ مَعْلُولًا لَهُ لِقَضاءِ حَقِّهِ، وتَكُونُ الشَّفاعَةُ إذْ ذاكَ في الرَّدِّ فَقَطْ، وأمّا عَلى تَقْدِيرِ سِيبَوَيْهِ ألا إنِّي لَألْزَمَنَّكَ إلّا أنْ تَقْضِيَنِي فَلَيْسَ يَظْهَرُ أنَّ مَعْنى ”أوْ“ مَعْنى إلّا هُنا إذْ يَصِيرُ المَعْنى هَلْ تَشْفَعُ لَنا شُفَعاءُ إلّا أنْ نُرَدَّ، وهَذا اسْتِثْناءٌ غَيْرُ ظاهِرٍ، وقَوْلُهم هَذا هَلْ هو مَعَ الرَّجاءِ، أوْ مَعَ اليَأْسِ فِيهِ الخِلافُ الَّذِي في نِدائِهِمْ ﴿أنْ أفِيضُوا﴾، قالَ القاضِي وهي تَدُلُّ عَلى حُكْمَيْنِ عَلى أنَّهم كانُوا قادِرِينَ عَلى الإيمانِ والتَّوْبَةِ ولِذَلِكَ سَألُوا الرَّدَّ الثّانِي إنَّ أهْلَ الآخِرَةِ غَيْرُ مُكَلَّفِينَ خِلافًا لِلْمُجْبِرَةِ والنَّجّارِ؛ لِأنَّها لَوْ كانَتْ كَذَلِكَ ما سَألُوا الرَّدَّ، بَلْ كانُوا يَتُوبُونَ ويُؤْمِنُونَ. ﴿قَدْ خَسِرُوا أنْفُسَهم وضَلَّ عَنْهم ما كانُوا يَفْتَرُونَ﴾، أيْ: خَسِرُوا في تِجارَةِ أنْفُسِهِمْ حَيْثُ ابْتاعُوا الخَسِيسَ الفانِي مِنَ الدُّنْيا بِالنَّفِيسِ الباقِي مِنَ الآخِرَةِ، وبَطَلَ عَنْهُمُ افْتِراؤُهم عَلى اللَّهِ ما لَمْ يَقُلْهُ ولا أمَرَهم بِهِ وكَذَّبَهم في اتِّخاذِ آلِهَةٍ (p-٣٠٧)مِن دُونِ اللَّهِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب