الباحث القرآني
سُورَةُ فاطِرٍ مَكِّيَّةٌ وهي خَمْسٌ وأرْبَعُونَ آيَةً
﷽
﴿الحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ والأرْضِ جاعِلِ المَلائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أجْنِحَةٍ مَثْنى وثُلاثَ ورُباعَ يَزِيدُ في الخَلْقِ ما يَشاءُ إنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ ﴿ما يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنّاسِ مِن رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها وما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ وهو العَزِيزُ الحَكِيمُ﴾ ﴿يا أيُّها النّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكم هَلْ مِن خالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكم مِنَ السَّماءِ والأرْضِ لا إلَهَ إلّا هو فَأنّى تُؤْفَكُونَ﴾ ﴿وإنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِن قَبْلِكَ وإلى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ﴾ ﴿يا أيُّها النّاسُ إنَّ وعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الحَياةُ الدُّنْيا ولا يَغُرَّنَّكم بِاللَّهِ الغَرُورُ﴾ ﴿إنَّ الشَّيْطانَ لَكم عَدُوٌّ فاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إنَّما يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِن أصْحابِ السَّعِيرِ﴾ ﴿الَّذِينَ كَفَرُوا لَهم عَذابٌ شَدِيدٌ والَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ لَهم مَغْفِرَةٌ وأجْرٌ كَبِيرٌ﴾ ﴿أفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشاءُ ويَهْدِي مَن يَشاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ إنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ﴾ ﴿واللَّهُ الَّذِي أرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحابًا فَسُقْناهُ إلى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأحْيَيْنا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِها كَذَلِكَ النُّشُورُ﴾ [فاطر: ٩] ﴿مَن كانَ يُرِيدُ العِزَّةَ فَلِلَّهِ العِزَّةُ جَمِيعًا إلَيْهِ يَصْعَدُ الكَلِمُ الطَّيِّبُ والعَمَلُ الصّالِحُ يَرْفَعُهُ والَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئاتِ لَهم عَذابٌ شَدِيدٌ ومَكْرُ أُولَئِكَ هو يَبُورُ﴾ [فاطر: ١٠] ﴿واللَّهُ خَلَقَكم مِن تُرابٍ ثُمَّ مِن نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكم أزْواجًا وما تَحْمِلُ مِن أُنْثى ولا تَضَعُ إلّا بِعِلْمِهِ وما يُعَمَّرُ مِن مُعَمَّرٍ ولا يُنْقَصُ مِن عُمُرِهِ إلّا في كِتابٍ إنَّ ذَلِكَ عَلى اللَّهِ يَسِيرٌ﴾ [فاطر: ١١] (p-٢٩٦)﴿وما يَسْتَوِي البَحْرانِ هَذا عَذْبٌ فُراتٌ سائِغٌ شَرابُهُ وهَذا مِلْحٌ أُجاجٌ ومِن كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وتَرى الفُلْكَ فِيهِ مَواخِرَ لِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ ولَعَلَّكم تَشْكُرُونَ﴾ [فاطر: ١٢] ﴿يُولِجُ اللَّيْلَ في النَّهارِ ويُولِجُ النَّهارَ في اللَّيْلِ وسَخَّرَ الشَّمْسَ والقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأجَلٍ مُسَمًّى ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكم لَهُ المُلْكُ والَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ ما يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ﴾ [فاطر: ١٣] ﴿إنْ تَدْعُوهم لا يَسْمَعُوا دُعاءَكم ولَوْ سَمِعُوا ما اسْتَجابُوا لَكم ويَوْمَ القِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكم ولا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ﴾ [فاطر: ١٤] ﴿يا أيُّها النّاسُ أنْتُمُ الفُقَراءُ إلى اللَّهِ واللَّهُ هو الغَنِيُّ الحَمِيدُ﴾ [فاطر: ١٥] ﴿إنْ يَشَأْ يُذْهِبْكم ويَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ﴾ [فاطر: ١٦] ﴿وما ذَلِكَ عَلى اللَّهِ بِعَزِيزٍ﴾ [فاطر: ١٧] ﴿ولا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وإنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إلى حِمْلِها لا يُحْمَلْ مِنهُ شَيْءٌ ولَوْ كانَ ذا قُرْبى إنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهم بِالغَيْبِ وأقامُوا الصَّلاةَ ومَن تَزَكّى فَإنَّما يَتَزَكّى لِنَفْسِهِ وإلى اللَّهِ المَصِيرُ﴾ [فاطر: ١٨] ﴿وما يَسْتَوِي الأعْمى والبَصِيرُ﴾ [فاطر: ١٩] ﴿ولا الظُّلُماتُ ولا النُّورُ﴾ [فاطر: ٢٠] ﴿ولا الظِّلُّ ولا الحَرُورُ﴾ [فاطر: ٢١] ﴿وما يَسْتَوِي الأحْياءُ ولا الأمْواتُ إنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَن يَشاءُ وما أنْتَ بِمُسْمِعٍ مَن في القُبُورِ﴾ [فاطر: ٢٢] ﴿إنْ أنْتَ إلّا نَذِيرٌ﴾ [فاطر: ٢٣] ﴿إنّا أرْسَلْناكَ بِالحَقِّ بَشِيرًا ونَذِيرًا وإنْ مِن أُمَّةٍ إلّا خَلا فِيها نَذِيرٌ﴾ [فاطر: ٢٤] ﴿وإنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ جاءَتْهم رُسُلُهم بِالبَيِّناتِ وبِالزُّبُرِ وبِالكِتابِ المُنِيرِ﴾ [فاطر: ٢٥] ﴿ثُمَّ أخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ﴾ [فاطر: ٢٦] ﴿ألَمْ تَرَ أنَّ اللَّهَ أنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأخْرَجْنا بِهِ ثَمَراتٍ مُخْتَلِفًا ألْوانُها ومِنَ الجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ وحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ ألْوانُها وغَرابِيبُ سُودٌ﴾ [فاطر: ٢٧] ﴿ومِنَ النّاسِ والدَّوابِّ والأنْعامِ مُخْتَلِفٌ ألْوانُهُ كَذَلِكَ إنَّما يَخْشى اللَّهَ مِن عِبادِهِ العُلَماءُ إنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ﴾ [فاطر: ٢٨] ﴿إنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللَّهِ وأقامُوا الصَّلاةَ وأنْفَقُوا مِمّا رَزَقْناهم سِرًّا وعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجارَةً لَنْ تَبُورَ﴾ [فاطر: ٢٩] ﴿لِيُوَفِّيَهم أُجُورَهم ويَزِيدَهم مِن فَضْلِهِ إنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ﴾ [فاطر: ٣٠] ﴿والَّذِي أوْحَيْنا إلَيْكَ مِنَ الكِتابِ هو الحَقُّ مُصَدِّقًا لِما بَيْنَ يَدَيْهِ إنَّ اللَّهَ بِعِبادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ﴾ [فاطر: ٣١] ﴿ثُمَّ أوْرَثْنا الكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِن عِبادِنا فَمِنهم ظالِمٌ لِنَفْسِهِ ومِنهم مُقْتَصِدٌ ومِنهم سابِقٌ بِالخَيْراتِ بِإذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هو الفَضْلُ الكَبِيرُ﴾ [فاطر: ٣٢] ﴿جَنّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها يُحَلَّوْنَ فِيها مِن أساوِرَ مِن ذَهَبٍ ولُؤْلُؤًا ولِباسُهم فِيها حَرِيرٌ﴾ [فاطر: ٣٣] ﴿وقالُوا الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أذْهَبَ عَنّا الحَزَنَ إنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ﴾ [فاطر: ٣٤] ﴿الَّذِي أحَلَّنا دارَ المُقامَةِ مِن فَضْلِهِ لا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ ولا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ﴾ [فاطر: ٣٥] . القِطْمِيرُ: المَشْهُورُ أنَّهُ القِشْرَةُ الرَّقِيقَةُ الَّتِي عَلى نَوى التَّمْرَةِ، ويَأْتِي ما قالَ المُفَسِّرُونَ. الجُدَدُ: جَمْعُ جُدَّةٍ، وهي الطَّرِيقَةُ تَكُونُ مِنَ الأرْضِ والجَبَلِ، كالقِطْعَةِ العَظِيمَةِ المُتَّصِلَةِ طُولًا. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: والجُدَدُ: الخُطَطُ والطَّرائِقُ. وقالَ لَبِيدٌ: أوْ مَذْهَبُ (جُدَدٌ) عَلى الواحِدِ، ويُقالُ: جُدَّةُ الحِمارِ لِلْخَطَّةِ السَّوْداءِ الَّتِي عَلى ظَهْرِهِ، وقَدْ يَكُونُ لِلظَّبْيِ جُدَّتانِ مِسْكِيَّتانِ تَفْصِلانِ بَيْنَ لَوْنَيْ ظَهْرِهِ وبَطْنِهِ. انْتَهى. وقالَ الشّاعِرُ:
؎كَأنَّ مَبَرّاتٍ وجُدَّةَ ظَهْرِهِ كَنائِنُ يَجْرِي بَيْنَهُنَّ دَلِيصُ
الجُدَّةُ: الخَطُّ الَّذِي في وسَطِ ظَهْرِهِ، يَصِفُ حِمارَ وحْشٍ. الغِرْبِيبُ: الشَّدِيدُ السَّوادِ. لَغِبَ يَلْغَبُ لُغُوبًا: أعْيا.
* * *
(p-٢٩٧)﴿الحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ والأرْضِ جاعِلِ المَلائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أجْنِحَةٍ مَثْنى وثُلاثَ ورُباعَ يَزِيدُ في الخَلْقِ ما يَشاءُ إنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ ﴿ما يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنّاسِ مِن رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها وما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ وهو العَزِيزُ الحَكِيمُ﴾ ﴿يا أيُّها النّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكم هَلْ مِن خالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكم مِنَ السَّماءِ والأرْضِ لا إلَهَ إلّا هو فَأنّى تُؤْفَكُونَ﴾ ﴿وإنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِن قَبْلِكَ وإلى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ﴾ ﴿يا أيُّها النّاسُ إنَّ وعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الحَياةُ الدُّنْيا ولا يَغُرَّنَّكم بِاللَّهِ الغَرُورُ﴾ ﴿إنَّ الشَّيْطانَ لَكم عَدُوٌّ فاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إنَّما يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِن أصْحابِ السَّعِيرِ﴾ ﴿الَّذِينَ كَفَرُوا لَهم عَذابٌ شَدِيدٌ والَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ لَهم مَغْفِرَةٌ وأجْرٌ كَبِيرٌ﴾ ﴿أفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشاءُ ويَهْدِي مَن يَشاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ إنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ﴾ .
هَذِهِ السُّورَةُ مَكِّيَّةٌ. ولَمّا ذَكَرَ تَعالى في آخِرِ السُّورَةِ الَّتِي قَبْلَها هَلاكَ المُشْرِكِينَ أعْداءِ المُؤْمِنِينَ، وأنْزَلَهم مَنازِلَ العَذابِ، تَعَيَّنَ عَلى المُؤْمِنِينَ حَمْدُهُ تَعالى وشُكْرُهُ لِنَعْمائِهِ ووَصْفُهُ بِعَظِيمِ آلائِهِ، كَما في قَوْلِهِ ﴿فَقُطِعَ دابِرُ القَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا والحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العالَمِينَ﴾ [الأنعام: ٤٥] .
وقَرَأ الضَّحّاكُ والزَّهْرِيُّ: فَطَرَ، جَعَلَهُ فِعْلًا ماضِيًا ونَصَبَ ما بَعْدَهُ. قالَ أبُو الفَضْلِ الرّازِيُّ: فَإمّا عَلى إضْمارِ الَّذِي فَيَكُونُ نَعْتًا لِلَّهِ عَزَّ وجَلَّ، وإمّا بِتَقْدِيرِ قَدْ فِيما قَبْلَهُ فَيَكُونُ بِمَعْنى الحالِ. انْتَهى. وحَذْفُ المَوْصُولِ الِاسْمِيِّ لا يَجُوزُ عِنْدَ البَصْرِيِّينَ، وأمّا الحالُ فَيَكُونُ حالًا مَحْكِيَّةً، والأحْسَنُ عِنْدِي أنْ يَكُونَ خَبَرَ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أيْ هو فَطَرَ، وتَقَدَّمَ شَرْحُ ﴿فاطِرِ السَّماواتِ والأرْضِ﴾، وأنَّ المَعْنى خالِقُها بَعْدَ أنْ لَمْ تَكُنْ، والسَّماواتُ والأرْضُ عِبارَةٌ عَنِ العالَمِ.
وقالَ أبُو عَبْدِ اللَّهِ الرّازِيُّ: الحَمْدُ يَكُونُ في غالِبِ الأمْرِ عَلى النِّعْمَةِ، ونِعَمُ اللَّهِ عاجِلَةٌ، و﴿الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ والأرْضَ وجَعَلَ الظُّلُماتِ والنُّورَ﴾ [الأنعام: ١]، إشارَةٌ إلى النِّعْمَةِ العاجِلَةِ ودَلِيلُهُ ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَكم مِن طِينٍ ثُمَّ قَضى أجَلًا﴾ [الأنعام: ٢]، و﴿الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الكِتابَ﴾ [الكهف: ١]، إشارَةٌ إلَيْها أيْضًا، وهي الِاتِّقاءُ، فَإنَّ الِاتِّقاءَ والصَّلاحَ بِالشَّرْعِ والكِتابِ. والحَمْدُ في سُورَةِ سَبَأٍ إشارَةٌ إلى نِعْمَةِ الإيجادِ والحَشْرِ، ودَلِيلُهُ ﴿يَعْلَمُ ما يَلِجُ في الأرْضِ وما يَخْرُجُ مِنها﴾ [سبإ: ٢]، وقَوْلُهُ ﴿وقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينا السّاعَةُ﴾ [سبإ: ٣]، وهُنا إشارَةٌ إلى نِعْمَةِ البَقاءِ في الآخِرَةِ، ودَلِيلُهُ ﴿وتَتَلَقّاهُمُ المَلائِكَةُ﴾ [الأنبياء: ١٠٣] . ( فَفاطِرُ السَّماواتِ والأرْضِ شاقُّهُما لِنُزُولِ الأرْواحِ مِنَ السَّماءِ، وخُرُوجِ الأجْسادِ مِنَ الأرْضِ دَلِيلُهُ ﴿جاعِلِ المَلائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أجْنِحَةٍ﴾ أيْ في ذَلِكَ اليَوْمِ. فَأوَّلُ هَذِهِ السُّورَةِ مُتَّصِلٌ بِآخِرِ ما مَضى؛ لِأنَّ كَما فُعِلَ بِأشْياعِهِمْ مِن قَبْلُ بَيانٌ لِانْقِطاعِ رَجاءِ مَن كانَ في شَكٍّ مُرِيبٍ. ولَمّا ذَكَرَ حالَهم ذَكَرَ حالَ المُؤْمِنِ وبَشَّرَهُ بِإرْسالِ المَلائِكَةِ إلَيْهِمْ مُبَشِّرِينَ، وأنَّهُ يَفْتَحُ لَهم أبْوابَ الرَّحْمَةِ.
وقَرَأ الحَسَنُ: جاعِلٌ بِالرَّفْعِ، أيْ هو جاعِلٌ؛ وعَبْدُ الوارِثِ عَنْ أبِي عَمْرٍو: وجاعِلُ رَفْعًا بِغَيْرِ تَنْوِينٍ، (المَلائِكَةَ) نَصْبًا، حُذِفَ التَّنْوِينُ لِالتِقاءِ السّاكِنَيْنِ. وقَرَأ ابْنُ يَعْمَرَ، وخُلَيْدُ بْنُ نَشِيطٍ: جَعَلَ فِعْلًا ماضِيًا، (المَلائِكَةَ) نَصْبًا، وذَلِكَ بَعْدَ قِراءَتِهِ (فاطِرِ) بِألِفٍ، والجَرِّ كَقِراءَةِ مَن قَرَأ ﴿فالِقُ الإصْباحِ وجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا﴾ [الأنعام: ٩٦] . وقَرَأ الحَسَنُ، وحُمَيْدُ بْنُ قَيْسٍ: رُسْلًا بِإسْكانِ السِّينِ، وهي لُغَةُ تَمِيمٍ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وقُرِئَ الَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ والأرْضَ وجَعَلَ المَلائِكَةَ. فَمَن قَرَأ: فَطَرَ وجَعَلَ، فَيَنْبَغِي أنْ تَكُونَ هَذِهِ الجُمَلُ إخْبارًا مِنَ العَبْدِ إلى ما أسْداهُ إلَيْنا مِنَ النِّعَمِ، كَما تَقُولُ: الفَضْلُ لِزَيْدٍ أحْسَنَ إلَيْنا بِكَذا خَوَّلَنا كَذا، يَكُونُ ذَلِكَ جِهَةَ بَيانٍ لِفِعْلِهِ الجَمِيلِ، كَذَلِكَ يَكُونُ في قَوْلِهِ: فَطَرَ، جَعَلَ؛ لِأنَّ في ذَلِكَ نِعَمًا لا تُحْصى. ومَن قَرَأ: وجاعِلِ، فالأظْهَرُ أنَّهُما اسْما (p-٢٩٨)فاعِلٍ بِمَعْنى المُضِيِّ، فَيُكُونانِ صِفَةً لِلَّهِ، ويَجِيءُ الخِلافُ في نَصْبِ رُسُلًا. فَمَذْهَبُ السِّيرافِيِّ أنَّهُ مَنصُوبٌ بِاسْمِ الفاعِلِ، وإنْ كانَ ماضِيًا لَمّا لَمْ يُمْكِنْ إضافَتُهُ إلى اسْمَيْنِ نَصَبَ الثّانِيَ. ومَذْهَبُ أبِي عَلِيٍّ أنَّهُ مَنصُوبٌ بِإضْمارِ فِعْلٍ، والتَّرْجِيحُ بَيْنَ المَذْهَبَيْنِ مَذْكُورٌ في النَّحْوِ. وأمّا مَن نَصَبَ المَلائِكَةَ فَيَتَخَرَّجُ عَلى مَذْهَبِ الكِسائِيِّ وهِشامٍ في جَوازِ إعْمالِ الماضِي النَّصْبَ، ويَكُونُ إذْ ذاكَ إعْرابُهُ بَدَلًا. وقِيلَ: هو مُسْتَقْبَلٌ تَقْدِيرُهُ: يَجْعَلُ المَلائِكَةَ رُسُلًا، ويَكُونُ أيْضًا إعْرابُهُ بَدَلًا. ومَعْنى رُسُلًا بِالوَحْيِ وغَيْرِهِ مِن أوامِرِهِ، ولا يُرِيدُ جَمِيعَ المَلائِكَةِ لِأنَّهم لَيْسُوا كُلُّهم رُسُلًا. فَمِنَ الرُّسُلِ: جِبْرِيلُ، ومِيكائِيلُ، وإسْرافِيلُ، وعِزْرائِيلُ، والمَلائِكَةُ المُتَعاقِبُونَ، والمَلائِكَةُ المُسَدِّدُونَ حُكّامُ العَدْلِ وغَيْرُهم، كالمَلَكِ الَّذِي أرْسَلَهُ اللَّهُ إلى الأعْمى والأبْرَصِ والأقْرَعِ.
و﴿أجْنِحَةٍ﴾ جَمْعُ جَناحٍ، صِيغَةُ جَمْعِ القِلَّةِ، وقِياسُ جَمْعِ الكَثْرَةِ فِيهِ جَنَحَ عَلى وزْنِ فَعَلَ، فَإنْ كانَ لَمْ يُسْمَعْ كانَ (أجْنِحَةٍ) مُسْتَعْمَلًا في القَلِيلِ والكَثِيرِ. وتَقَدَّمَ الكَلامُ عَلى (مَثْنى) و(ثُلاثَ) و(رُباعَ) في أوَّلِ النِّساءِ مُشْبَعًا، ولَكِنِ المُفَسِّرُونَ تَعَرَّضُوا لِكَلامٍ فِيهِ هُنا، فَقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: مَثْنى وثُلاثَ ورُباعَ صِفاتُ الأجْنِحَةِ، وإنَّما لَمْ تَنْصَرِفْ لِتَكْرارِ العَدْلِ فِيها، وذَلِكَ أنَّها عُدِلَتْ عَنْ ألْفاظِ الأعْدادِ مِن صِيَغٍ إلى صِيَغٍ أُخَرَ، كَما عُدِلَ عُمَرُ عَنْ عامِرٍ، وحَذامِ عَنْ حاذِمَةٍ، وعَنْ تَكْرِيرٍ إلى غَيْرِ تَكْرِيرٍ. وأمّا بِالوَصْفِيَّةِ، فَلا تَقْتَرِنُ الحالُ فِيها بَيْنَ المَعْدُولَةِ والمَعْدُولِ عَنْها. ألا تَراكَ تَقُولُ بِنِسْوَةٍ أرْبَعٍ وبِرِجالٍ ثَلاثَةٍ فَلا يُعَرَّجُ عَلَيْها ؟ انْتَهى. فَجَعَلَ المانِعَ لِلصَّرْفِ هو تَكْرارُ العَدْلِ فِيها، والمَشْهُورُ أنَّها امْتَنَعَتْ مِنَ الصَّرْفِ لِلصِّفَةِ والعَدْلِ. وأمّا قَوْلُهُ: ألا تَراكَ، فَإنَّهُ قاسَ الصِّفَةَ في هَذا المَعْدُولِ عَلى الصِّفَةِ في (أفْعَلَ) وفي ثَلاثَةٍ، ولَيْسَ بِصَحِيحٍ؛ لِأنَّ مُطْلَقَ الصِّفَةِ لَمْ يَعُدُّوهُ عِلَّةً، بَلِ اشْتَرَطُوا فِيهِ. فَلَيْسَ الشَّرْطُ مَوْجُودًا في أرْبَعٍ؛ لِأنَّ شَرْطَهُ أنْ لا يَقْبَلَ تاءَ التَّأْنِيثِ. ولَيْسَ شَرْطُهُ في ثَلاثَةٍ مَوْجُودًا؛ لِأنَّهُ لَمْ يُجْعَلْ عِلَّةً مَعَ التَّأْنِيثِ. فَقِياسُ الزَّمَخْشَرِيِّ قِياسٌ فاسِدٌ، إذْ غَفَلَ عَنْ شَرْطِ كَوْنِ الصِّفَةِ عِلَّةً. وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: عُدِلَتْ عَنْ حالِ التَّنْكِيرِ، فَتَعَرَّفَتْ بِالعَدْلِ، فَهي لا تَنْصَرِفُ لِلْعَدْلِ والتَّعْرِيفِ، وقِيلَ: لِلْعَدْلِ والصِّفَةِ. انْتَهى. وهَذا الثّانِي هو المَشْهُورُ، والأوَّلُ قَوْلٌ لِبَعْضِ الكُوفِيِّينَ. والظّاهِرُ أنَّ المَلَكَ الواحِدَ مِن صِنْفٍ لَهُ جَناحانِ، وآخَرَ ثَلاثَةٌ، وآخَرَ أرْبَعَةٌ، وآخَرَ أكْثَرُ مِن ذَلِكَ، لِما رُوِيَ أنَّ لِ جِبْرِيلَ سِتَّمِائَةِ جَناحٍ، مِنها اثْنانِ يَبْلُغُ بِهِما المَشْرِقَ إلى المَغْرِبِ. قالَ قَتادَةُ: وأخَذَ الزَّمَخْشَرِيُّ يَتَكَلَّمُ عَلى كَيْفِيَّةِ هَذِهِ الأجْنِحَةِ، وعَلى صُورَةِ الثَّلاثَةِ بِما لا يُجْدِي قائِلًا: يُطالِعُ ذَلِكَ في كِتابِهِ. وقالَتْ فِرْقَةٌ: المَعْنى أنَّ في كُلِّ جانِبٍ مِنَ المَلَكِ جَناحانِ، ولِبَعْضِهِمْ ثَلاثَةٌ، ولِبَعْضِهِمْ أرْبَعَةٌ، وإلّا فَلَوْ كانَتْ ثَلاثَةً لِواحِدٍ، لَما اعْتَدَلَتْ في مُعْتادٍ ما رَأيْنا نَحْنُ مِنَ الأجْنِحَةِ. وقِيلَ: بَلْ هي ثَلاثَةٌ لِواحِدٍ، كَما يُوجَدُ لِبَعْضِ الحَيَواناتِ. والظّاهِرُ أنَّ المُرادَ مِنَ الأجْنِحَةِ ما وُضِعَتْ لَهُ في اللُّغَةِ.
وقالَ أبُو عَبْدِ اللَّهِ الرّازِيُّ: يُزِيلُ بَحْثَهُ في قَوْلِهِ ﴿الحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ والأرْضِ﴾، وهو الَّذِي حَكَيْنا عَنْهُ أنَّ قَوْلَهُ ﴿جاعِلِ المَلائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أجْنِحَةٍ مَثْنى وثُلاثَ ورُباعَ﴾، أقَلُّ ما يَكُونُ لِذِي الجَناحِ، إشارَةً إلى الجِهَةِ، وبَيانُهُ أنَّ اللَّهَ لَيْسَ شَيْءٌ فَوْقَهُ، وكُلُّ شَيْءٍ تَحْتَ قُدْرَتِهِ ونِعْمَتِهِ، والمَلائِكَةُ لَهم وجْهٌ إلى اللَّهِ يَأْخُذُونَ مِنهُ نِعَمَهُ ويُعْطُونَ مَن دُونَهم مِمّا أخَذُوهُ بِإذْنِ اللَّهِ، كَما قالَ تَعالى ﴿نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأمِينُ﴾ [الشعراء: ١٩٣] ﴿عَلى قَلْبِكَ﴾ [الشعراء: ١٩٤]، وقَوْلُهُ ﴿عَلَّمَهُ شَدِيدُ القُوى﴾ [النجم: ٥]، وقالَ تَعالى في حَقِّهِمْ ﴿فالمُدَبِّراتِ أمْرًا﴾ [النازعات: ٥]، النّازِعاتِ فَهُما جَناحانِ، وفِيهِمْ مَن يَفْعَلُ ما يَفْعَلُ مِنَ الخَيْرِ بِواسِطَةٍ، وفِيهِمْ مَن يَفْعَلُهُ لا بِواسِطَةٍ. فالفاعِلُ بِواسِطَةٍ فِيهِمْ مَن لَهُ ثَلاثُ جِهاتٍ، ومِنهم مَن لَهُ أرْبَعُ جِهاتٍ وأكْثَرُ. انْتَهى. وبَحْثُهُ في هَذِهِ، وفي ﴿فاطِرِ السَّماواتِ والأرْضِ﴾ بَحْثٌ عَجِيبٌ، ولَيْسَ عَلى طَرِيقَةِ فَهْمِ العَرَبِ مِن مَدْلُولاتِ الألْفاظِ الَّتِي حَمَّلَها ما حَمَّلَ. والظّاهِرُ أنَّ مَثْنى وما بَعْدَهُ مِن صِفاتِ الأجْنِحَةِ، وقِيلَ ﴿أُولِي أجْنِحَةٍ﴾ مُعْتَرِضٌ، (ومَثْنى) حالٌ، والعامِلُ فِعْلٌ مَحْذُوفٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ ﴿رُسُلًا﴾، أيْ يُرْسَلُونَ مَثْنى (p-٢٩٩)وثُلاثَ ورُباعَ. قِيلَ: وإنَّما جَعَلَهم أُولِي أجْنِحَةٍ؛ لِأنَّهُ لَمّا جَعَلَهم رُسُلًا، جَعَلَ لَهم أجْنِحَةً لِيَكُونَ أسْرَعَ لِنَفادِ الأمْرِ وسُرْعَةِ إنْفاذِ القَضاءِ. فَإنَّ المَسافَةَ الَّتِي بَيْنَ السَّماءِ والأرْضِ لا تُقْطَعُ بِالأقْدامِ إلّا في سِنِينَ، فَجُعِلَتْ لَهُمُ الأجْنِحَةُ حَتّى يَنالُوا المَكانَ البَعِيدَ في الوَقْتِ القَرِيبِ كالطَّيْرِ.
﴿يَزِيدُ في الخَلْقِ ما يَشاءُ﴾ تَقْرِيرٌ لِما يَقَعُ في النُّفُوسِ مِنَ التَّعَجُّبِ والِاسْتِغْرابِ مِن خَبَرِ المَلائِكَةِ أُولِي أجْنِحَةٍ، أيْ لَيْسَ هَذا بِبِدْعٍ في قُدْرَةِ اللَّهِ، فَإنَّهُ يَزِيدُ في خَلْقِهِ ما يَشاءُ، والظّاهِرُ عُمُومُ الخَلْقِ. وقالَ الفَرّاءُ: هَذا في الأجْنِحَةِ الَّتِي لِلْمَلائِكَةِ، أيْ يَزِيدُ في خَلْقِ المَلائِكَةِ الأجْنِحَةَ. وقالُوا: في هَذِهِ الزِّيادَةِ الخَلْقُ الحَسَنُ، أوْ حُسْنُ الصَّوْتِ، أوْ حُسْنُ الخَطِّ، أوْ لِمَلاحَةٍ في العَيْنَيْنِ أوِ الأنْفِ، أوْ خِفَّةُ الرُّوحِ، أوِ الحُسْنُ، أوْ جُعُودَةُ الشَّعْرِ، أوِ العَقْلُ، أوِ العِلْمُ، أوِ الصَّنْعَةُ، أوِ العِفَّةُ في الفُقَراءِ، والحَلاوَةُ في الفَمِ، وهَذِهِ الأقْوالُ عَلى سَبِيلِ التَّمْثِيلِ لا الحَصْرِ. والآيَةُ مُطْلَقَةٌ تَتَناوَلُ كُلَّ زِيادَةٍ في الخَلْقِ، وقَدْ شَرَحُوا هَذِهِ الزِّيادَةَ بِالأشْياءِ المُسْتَحْسَنَةِ، وما يَشاءُ عامٌّ لا يَخُصُّ مُسْتَحْسَنًا دُونَ غَيْرِهِ. وخَتَمَ الآيَةَ بِالقُدْرَةِ عَلى كُلِّ شَيْءٍ يَدُلُّ عَلى ذَلِكَ، والفَتْحُ والإرْسالُ اسْتِعارَةٌ لِلْإطْلاقِ، ﴿فَلا مُرْسِلَ لَهُ﴾ مَكانَ لا فاتِحَ لَهُ، والمَعْنى: أيُّ شَيْءٍ يَطْلُبُ اللَّهُ.
﴿مِن رَحْمَةٍ﴾ أيْ نِعْمَةٍ ورِزْقٍ، أوْ مَطَرٍ، أوْ صِحَّةٍ، أوْ أمْنٍ، أوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِن صُنُوفِ نَعْمائِهِ الَّتِي لا يُحاطُ بِعَدَدِها. وما رُوِيَ عَنِ المُفَسِّرِينَ المُتَقَدِّمِينَ مِن تَفْسِيرِ رَحْمَةٍ بِشَيْءٍ مُعَيَّنٍ فَلَيْسَ عَلى الحَصْرِ مِنهُ، إنَّما هو مِثالٌ. قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وتَنْكِيرُ الرَّحْمَةِ لِلْإشاعَةِ والإبْهامِ، كَأنَّهُ قالَ: مِن أيَّةِ رَحْمَةٍ كانَتْ سَماوِيَّةً أوْ أرْضِيَّةً، فَلا يَقْدِرُ أحَدٌ عَلى إمْساكِها وحَبْسِها، وأيُّ شَيْءٍ يُمْسِكُ اللَّهُ فَلا أحَدَ يَقْدِرُ عَلى إطْلاقِهِ. انْتَهى. والعُمُومُ مَفْهُومٌ مِنِ اسْمِ الشَّرْطِ ومِن رَحْمَةٍ لِبَيانِ ذَلِكَ العامِّ مِن أيِّ صِنْفٍ هو، وهو مِمّا اجْتُزِئَ فِيهِ بِالنَّكِرَةِ المُفْرَدَةِ عَنِ الجَمْعِ المُعَرَّفِ المُطابِقِ في العُمُومِ لِاسْمِ الشَّرْطِ، وتَقْدِيرُهُ: مِنَ الرَّحَماتِ، ومِن في مَوْضِعِ الحالِ، أيْ كائِنًا مِنَ الرَّحَماتِ، ولا يَكُونُ في مَوْضِعِ الصِّفَةِ؛ لِأنَّ اسْمَ الشَّرْطِ لا يُوصَفُ. والظّاهِرُ أنَّ قَوْلَهُ ﴿وما يُمْسِكْ﴾ عامٌّ في الرَّحْمَةِ وفي غَيْرِها؛ لِأنَّهُ لَمْ يُذْكَرْ لَهُ تَبْيِينٌ، فَهو باقٍ عَلى العُمُومِ في كُلِّ ما يُمْسِكُ. فَإنْ كانَ تَفْسِيرُهُ ﴿مِن رَحْمَةٍ﴾، وحُذِفَتْ لِدَلالَةِ الأوَّلِ عَلَيْهِ، فَيَكُونُ تَذْكِيرُ الضَّمِيرِ في ﴿فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ﴾ حَمْلًا عَلى لَفْظِ ما، وأُنِّثَ في ﴿مُمْسِكَ لَها﴾ عَلى مَعْنى ما؛ لِأنَّ مَعْناها الرَّحْمَةُ. وقُرِئَ: فَلا مُرْسِلَ لَها، بِتَأْنِيثِ الضَّمِيرِ، وهو دَلِيلٌ عَلى أنَّ التَّفْسِيرَ هو ﴿مِن رَحْمَةٍ﴾، وحُذِفَ لِدَلالَةِ ما قَبْلَهُ عَلَيْهِ. وعَنِ ابْنِ عَبّاسٍ ﴿مِن رَحْمَةٍ﴾ مِن بابِ تَوْبَةٍ، ﴿فَلا مُمْسِكَ لَها﴾ أيْ يَتُوبُونَ إنْ شاءُوا وإنْ أبَوْا، ﴿وما يُمْسِكْ﴾ مِن بابٍ، ﴿فَلا مُرْسِلَ لَهُ﴾ مِن بَعْدِهِ، فَهم لا يَتُوبُونَ. وعَنْهُ أيْضًا ﴿مِن رَحْمَةٍ﴾ مِن هِدايَةٍ. قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإنْ قُلْتَ: فَما تَقُولُ فِيمَن فَسَّرَ الرَّحْمَةَ بِالتَّوْبَةِ وعَزاهُ إلى ابْنِ عَبّاسٍ ؟ قُلْتُ: أرادَ بِالتَّوْبَةِ: الهِدايَةَ لَها والتَّوْفِيقَ فِيها، وهو الَّذِي أرادَهُ ابْنُ عَبّاسٍ، إنْ قالَهُ فَمَقْبُولٌ، وإنْ أرادَ أنَّهُ إنْ شاءَ أنْ يَتُوبَ العاصِي تابَ، وإنْ لَمْ يَشَأْ لَمْ يَتُبْ فَمَرْدُودٌ؛ لِأنَّ اللَّهَ تَعالى يَشاءُ التَّوْبَةَ أبَدًا، ولا يَجُوزُ عَلَيْهِ أنْ لا يَشاءَ بِها. انْتَهى، وهو عَلى طَرِيقَةِ الِاعْتِزالِ.
﴿مِن بَعْدِهِ﴾ هو عَلى حَذْفِ مُضافٍ، أيْ مِن بَعْدِ إمْساكِهِ، كَقَوْلِهِ ﴿فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ﴾ [الجاثية: ٢٣]، أيْ مِن بَعْدِ إضْلالِ اللَّهِ إيّاهُ؛ لِأنَّ قَبْلَهُ وأضَلَّهُ اللَّهُ عَلى عِلْمٍ، كَقَوْلِهِ ﴿مَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هادِيَ لَهُ﴾ [الأعراف: ١٨٦]، وقَدَّرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ مِن بَعْدِ هِدايَةِ اللَّهِ، وهو تَقْدِيرٌ فاسِدٌ لا يُناسِبُ الآيَةَ، جَرى فِيهِ عَلى طَرِيقَةِ الِاعْتِزالِ.
﴿وهُوَ العَزِيزُ﴾ الغالِبُ القادِرُ عَلى الإرْسالِ والإمْساكِ، ﴿الحَكِيمُ﴾ الَّذِي يُرْسِلُ ويُمْسِكُ ما اقْتَضَتْهُ حِكْمَتُهُ.
﴿ياأيُّها النّاسُ﴾ خِطابٌ لِقُرَيْشٍ، وهو مُتَّجِهٌ لِكُلِّ مُؤْمِنٍ وكافِرٍ، ولا سِيَّما مَن عَبَدَ غَيْرَ اللَّهِ، وذَكَّرَهم بِنِعَمِهِ في إيجادِهِمْ. و﴿اذْكُرُوا﴾ لَيْسَ أمْرًا بِذِكْرِ اللِّسانِ، ولَكِنْ بِهِ وبِالقَلْبِ وبِحِفْظِ النِّعْمَةِ مِن كُفْرانِها وشُكْرِها، كَقَوْلِكَ لِمَن أنْعَمْتَ عَلَيْهِ: اذْكُرْ أيادِيَّ عِنْدَكَ، تُرِيدُ حِفْظَها وشُكْرَها، والجَمِيعُ مَغْمُورُونَ في نِعْمَةِ اللَّهِ. فالخِطابُ عامُّ اللَّفْظِ، وإنْ كانَ نَزَلَ ذَلِكَ بِسَبَبِ قُرَيْشٍ، ثُمَّ اسْتَفْهَمَ عَلى (p-٣٠٠)جِهَةِ التَّقْرِيرِ.
﴿هَلْ مِن خالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ﴾ أيْ فَلا إلَهَ إلّا الخالِقُ، ما تَعْبُدُونَ أنْتُمْ مِنَ الأصْنامِ. وقَرَأ ابْنُ وثّابٍ، وشَقِيقٌ، وأبُو جَعْفَرٍ، وزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ، وحَمْزَةُ، والكِسائِيُّ: (غَيْرِ) بِالخَفْضِ، نَعْتًا عَلى اللَّفْظِ، و﴿مِن خالِقٍ﴾ مُبْتَدَأٌ. و﴿يَرْزُقُكُمْ﴾ جَوَّزُوا أنْ يَكُونَ خَبَرًا لِلْمُبْتَدَأِ، وأنْ يَكُونَ صِفَتَهُ، وأنْ يَكُونَ مُسْتَأْنَفًا، والخَبَرُ عَلى هَذَيْنِ الوَجْهَيْنِ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ لَكم. وقَرَأ شَيْبَةُ، وعِيسى، والحَسَنُ، وباقِي السَّبْعَةِ ﴿غَيْرُ﴾ بِالرَّفْعِ، وجَوَّزُوا أنْ يَكُونَ نَعْتًا عَلى المَوْضِعِ، كَما كانَ الخَبَرُ نَعْتًا عَلى اللَّفْظِ، وهَذا أظْهَرُ لِتَوافُقِ القِراءَتَيْنِ؛ وأنْ يَكُونَ خَبَرًا لِلْمُبْتَدَأِ، وأنْ يَكُونَ فاعِلًا باسِمِ الفاعِلِ الَّذِي هو خالِقٌ؛ لِأنَّهُ قَدِ اعْتَمَدَ عَلى أداةِ الِاسْتِفْهامِ، فَحَسُنَ إعْمالُهُ، كَقَوْلِكَ: أقائِمٌ زَيْدٌ في أحَدِ وجْهَيْهِ ؟ وفي هَذا نَظَرٌ، وهو أنَّ اسْمَ الفاعِلِ، أوْ ما جَرى مَجْراهُ، إذا اعْتَمَدَ عَلى أداةِ الِاسْتِفْهامِ وأجْرِيَ مُجْرى الفِعْلِ، فَرَفَعَ ما بَعْدَهُ، هَلْ يَجُوزُ أنْ تَدْخُلَ عَلَيْهِ مِنَ الَّتِي لِلِاسْتِغْراقِ فَتَقُولُ: هَلْ مِن قائِمٍ الزَّيْدُونَ ؟ كَما تَقُولُ: هَلْ قائِمٌ الزَّيْدُونَ ؟ والظّاهِرُ أنَّهُ لا يَجُوزُ. ألا تَرى أنَّهُ إذا جَرى مَجْرى الفِعْلِ، لا يَكُونُ فِيهِ عُمُومٌ خِلافُهُ إذا أدْخَلْتَ عَلَيْهِ مِن، ولا أحْفَظُ مِثْلَهُ في لِسانِ العَرَبِ، ويَنْبَغِي أنْ لا يُقَدَّمَ عَلى إجازَةِ مِثْلِ هَذا إلّا بِسَماعٍ مِن كَلامِ العَرَبِ ؟ وقَرَأ الفَضْلُ بْنُ إبْراهِيمَ النَّحْوِيُّ: (غَيْرَ) بِالنَّصْبِ عَلى الِاسْتِثْناءِ، والخَبَرُ إمّا يَرْزُقُكم وإمّا مَحْذُوفٌ، ويَرْزُقُكم مُسْتَأْنَفٌ؛ وإذا كانَ يَرْزُقُكم مُسْتَأْنِفًا، كانَ أوْلى لِانْتِفاءِ صِدْقِ خالِقٍ عَلى غَيْرِ اللَّهِ، بِخِلافِ كَوْنِهِ صِفَةً، فَإنَّ الصِّفَةَ تُقَيِّدُ، فَيَكُونُ ثَمَّ خالِقٌ غَيْرُ اللَّهِ، لَكِنَّهُ لَيْسَ بِرازِقٍ. ومَعْنى ﴿مِنَ السَّماءِ﴾ بِالمَطَرِ، ﴿والأرْضِ﴾ بِالنَّباتِ، ﴿لا إلَهَ إلّا هُوَ﴾ جُمْلَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ لا مَوْضِعَ لَها مِنَ الإعْرابِ.
﴿فَأنّى تُؤْفَكُونَ﴾ أيْ كَيْفَ يُصْرَفُونَ عَلى التَّوْحِيدِ إلى الشِّرْكِ، وأنْ يُكَذِّبُوكَ إلى الأُمُورِ، تَقَدَّمَ الكَلامُ عَلى ذَلِكَ.
﴿إنَّ وعْدَ اللَّهِ حَقٌّ﴾ شامِلٌ لِجَمِيعِ ما وعَدَ مِن ثَوابٍ وعِقابٍ وغَيْرِ ذَلِكَ. وقَرَأ الجُمْهُورُ ﴿الغَرُورُ﴾ بِفَتْحِ الغَيْنِ، وفَسَّرَهُ ابْنُ عَبّاسٍ بِالشَّيْطانِ. وقَرَأ أبُو حَيْوَةَ، وأبُو السَّمّالِ: بِضَمِّها جَمْعَ غارٍ، أوْ مَصْدَرًا، كَقَوْلِهِ ﴿فَدَلّاهُما بِغُرُورٍ﴾ [الأعراف: ٢٢]، وتَقَدَّمَ الكَلامُ عَلى ذَلِكَ في آخِرِ لُقْمانَ.
﴿إنَّ الشَّيْطانَ لَكم عَدُوٌّ﴾ عَداوَتُهُ سَبَقَتْ لِأبِينا آدَمَ، وأيُّ عَداوَةٍ أعْظَمُ مِن أنْ يَقُولَ في بَنِيهِ ﴿لَأُغْوِيَنَّهم أجْمَعِينَ﴾ [ص: ٨٢] ﴿ولَأُضِلَّنَّهُمْ﴾ [النساء: ١١٩] ؟ ﴿فاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا﴾ أيْ بِالمُقاطَعَةِ والمُخالَفَةِ بِاتِّباعِ الشَّرْعِ. ثُمَّ بَيَّنَ أنَّ مَقْصُودَهُ في دُعاءِ حِزْبِهِ إنَّما هو تَعْذِيبُهم في النّارِ، يَشْتَرِكُ هو وهم في العَذابِ، فَهو حَرِيصٌ عَلى ذَلِكَ أشَدَّ الحِرْصِ حَتّى يُبَيِّنَ صِدْقَ قَوْلِهِ في ﴿ولَأُغْوِيَنَّهُمْ﴾ [الحجر: ٣٩]، ﴿ولَأُضِلَّنَّهُمْ﴾ [النساء: ١١٩]؛ لِأنَّ الِاشْتِراكَ فِيما يَسُوءُ مِمّا قَدْ يَتَسَلّى بِهِ بِخِلافِ المُنْفَرِدِ بِالعَذابِ. ثُمَّ ذَكَرَ الفَرِيقَيْنِ، وما أعَدَّ لَهُما مِنَ العِقابِ والثَّوابِ. وبَدَأ بِالكُفّارِ لِمُجاوِرَةِ قَوْلِهِ ﴿إنَّما يَدْعُو حِزْبَهُ﴾، فَأتْبَعَ خَبَرَ الكافِرِ بِحالِهِ في الآخِرَةِ. قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: واللّامُ في لِيَكُونَ لامُ الصَّيْرُورَةِ؛ لِأنَّهُ لَمْ يَدْعُهم إلى السَّعِيرِ، إنَّما اتَّفَقَ أنْ صارَ أمْرُهم عَنْ دُعائِهِ إلى ذَلِكَ. انْتَهى. ونَقُولُ: هو مِمّا عُبِّرَ فِيهِ عَنِ السَّبَبِ بِما تَسَبَّبَ عَنْهُ دُعاؤُهم إلى الكُفْرِ، وتَسَبَّبَ عَنْهُ العَذابُ. و﴿الَّذِينَ كَفَرُوا﴾، ﴿والَّذِينَ آمَنُوا﴾ . مُبْتَدَآنِ، وجَوَّزَ بَعْضُهم في ﴿الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ أنْ يَكُونَ في مَوْضِعِ خَفْضٍ بَدَلًا ﴿مِن أصْحابِ السَّعِيرِ﴾، أوْ صِفَةً، وفي مَوْضِعِ نَصْبٍ بَدَلًا مِن حِزْبِهِ، وفي مَوْضِعِ رَفْعٍ بَدَلًا مِن ضَمِيرِ ﴿لِيَكُونُوا﴾، وهَذا كُلُّهُ بِمَعْزِلٍ مِن فَصاحَةِ التَّقْسِيمِ وجَزالَةِ التَّرْكِيبِ.
﴿أفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا﴾ أيْ فَرَأى سُوءَ عَمَلِهِ حَسَنًا، ومَن مُبْتَدَأٌ مَوْصُولٌ، وخَبَرُهُ مَحْذُوفٌ. فالَّذِي يَقْتَضِيهِ النَّظَرُ أنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: كَمَن لَمْ يُزَيَّنْ لَهُ، كَقَوْلِهِ ﴿أفَمَن كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِن رَبِّهِ كَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ﴾ [محمد: ١٤]، ﴿أفَمَن يَعْلَمُ أنَّما أُنْزِلَ إلَيْكَ مِن رَبِّكَ الحَقُّ كَمَن هو أعْمى﴾ [الرعد: ١٩]، ﴿أوَمَن كانَ مَيْتًا فَأحْيَيْناهُ﴾ [الأنعام: ١٢٢]، ثُمَّ قالَ ﴿كَمَن مَثَلُهُ في الظُّلُماتِ﴾ [الأنعام: ١٢٢]، وقالَهُ الكِسائِيُّ، أيْ تَقْدِيرُهُ: تَذْهَبُ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ لِدَلالَةِ ﴿فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ﴾ . وقِيلَ: التَّقْدِيرُ: فَرَآهُ حَسَنًا، فَأضَلَّهُ اللَّهُ كَمَن هَداهُ اللَّهُ، فَحُذِفَ ذَلِكَ لِدَلالَةِ ﴿فَإنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشاءُ﴾، وذَكَرَ هَذَيْنِ الوَجْهَيْنِ الزَّجّاجُ. وشَرَحَ الزَّمَخْشَرِيُّ هُنا ﴿يُضِلُّ مَن يَشاءُ﴾ عَلى (p-٣٠١)طَرِيقَتِهِ في غَيْرِ مَوْضِعٍ مِن كِتابِهِ، مِن أنَّ الإضْلالَ هو خِذْلانُهُ وتَخْلِيَتُهُ شَأْنَهُ، وأتى بِألْفاظٍ كَثِيرَةٍ في هَذا المَعْنى. وقَرَأ الجُمْهُورُ (أفَمَن زُيِّنَ) مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ (سُوءُ) رُفِعَ. وقَرَأ عُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ: زَيَّنَّ لَهُ سُوءَ، مَبْنِيًّا لِلْفاعِلِ، ونَصَبَ سُوءَ؛ وعَنْهُ أيْضًا أسْوَأ عَلى وزْنِ أفْعَلَ مَنصُوبًا؛ وأسْوَأُ عَمَلِهِ: هو الشِّرْكُ. وقِراءَةُ طَلْحَةَ: أمَن بِغَيْرِ فاءٍ، قالَ صاحِبُ اللَّوامِحِ: لِلِاسْتِخْبارِ بِمَعْنى العامَّةِ لِلتَّقْرِيرِ، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ بِمَعْنى حَرْفِ النِّداءِ، فَحُذِفَ التَّمامُ كَما حُذِفَ مِنَ المَشْهُورِ الجَوابُ. انْتَهى. ويَعْنِي بِالجَوابِ: خَبَرَ المُبْتَدَأِ، وبِالتَّمامِ: ما يُؤَدّى لِأجْلِهِ، أيْ تَفَكَّرْ وارْجِعْ إلى اللَّهِ، ﴿فَإنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشاءُ ويَهْدِي مَن يَشاءُ﴾ تَسْلِيَةٌ لِلرَّسُولِ عَنْ كُفْرِ قَوْمِهِ، ووُجُوبُ التَّسْلِيمِ لِلَّهِ في إضْلالِهِ مَن يَشاءُ وهِدايَةِ مَن يَشاءُ. وقَرَأ الجُمْهُورُ ﴿فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ﴾، مَبْنِيًّا لِلْفاعِلِ مِن ذَهَبَ، ونَفْسُكَ فاعِلٌ. وقَرَأ أبُو جَعْفَرٍ، وقَتادَةُ، وعِيسى، والأشْهَبُ، وشَيْبَةُ، وأبُو حَيْوَةَ، وحُمَيْدٌ والأعْمَشُ، وابْنُ مُحَيْصِنٍ: تُذْهِبْ مِن أذْهَبَ، مُسْنَدًا لِضَمِيرِ المُخاطَبِ ﴿نَفْسُكَ﴾ نُصِبَ، ورُوِيَتْ عَنْ نافِعٍ: والحَسْرَةُ هَمُّ النَّفْسِ عَلى فَواتِ أمْرٍ. وانْتُصِبَ ﴿حَسَراتٍ﴾ عَلى أنَّهُ مَفْعُولٌ مِن أجْلِهِ، أيْ فَلا تَهْلِكْ نَفْسُكَ لِلْحَسَراتِ، وعَلَيْهِمْ مُتَعَلِّقٌ بِ ﴿تَذْهَبْ﴾، كَما تَقُولُ: هَلَكَ عَلَيْهِ حُبًّا، وماتَ عَلَيْهِ حُزْنًا، أوْ هو بَيانٌ لِلْمُتَحَسَّرِ عَلَيْهِ، ولا يَتَعَلَّقُ بِحَسَراتٍ لِأنَّهُ مَصْدَرٌ، فَلا يَتَقَدَّمُ مَعْمُولُهُ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ حالًا، كَأنَّ كُلَّها صارَتْ حَسَراتٍ لِفَرْطِ التَّحَسُّرِ، كَما قالَ جَرِيرٌ:
؎مَشَقَ الهَواجِرُ لَحْمَهُنَّ مَعَ السُّرى حَتّى ذَهَبْنَ كَلاكِلًا وصُدُورا
يُرِيدُ: رَجَعْنَ كَلاكِلًا وصُدُورًا، أيْ لَمْ يَبْقَ إلّا كَلاكِلُها وصُدُورُها، ومِنهُ قَوْلُهُ:
؎فَعَلى إثْرِهِمْ تَساقَطُ نَفْسِي ∗∗∗ حَسَراتٍ وذِكْرُهم لِي سَقامُ
انْتَهى. وما ذُكِرَ مِن أنَّ كَلاكِلًا وصُدُورًا حالانِ هو مَذْهَبُ سِيبَوَيْهِ. وقالَ المُبَرِّدُ: هو تَمْيِيزٌ مَنقُولٌ مِنَ الفاعِلِ، أيْ حَتّى ذَهَبَتْ كَلاكِلُها وصُدُورُها. ثُمَّ تَوَعَّدَهم بِالعِقابِ عَلى سُوءِ صُنْعِهِمْ فَقالَ ﴿إنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ﴾ أيْ فَيُجازِيهِمْ عَلَيْهِ.
{"ayahs_start":1,"ayahs":["ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ فَاطِرِ ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ جَاعِلِ ٱلۡمَلَـٰۤىِٕكَةِ رُسُلًا أُو۟لِیۤ أَجۡنِحَةࣲ مَّثۡنَىٰ وَثُلَـٰثَ وَرُبَـٰعَۚ یَزِیدُ فِی ٱلۡخَلۡقِ مَا یَشَاۤءُۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَیۡءࣲ قَدِیرࣱ","مَّا یَفۡتَحِ ٱللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحۡمَةࣲ فَلَا مُمۡسِكَ لَهَاۖ وَمَا یُمۡسِكۡ فَلَا مُرۡسِلَ لَهُۥ مِنۢ بَعۡدِهِۦۚ وَهُوَ ٱلۡعَزِیزُ ٱلۡحَكِیمُ","یَـٰۤأَیُّهَا ٱلنَّاسُ ٱذۡكُرُوا۟ نِعۡمَتَ ٱللَّهِ عَلَیۡكُمۡۚ هَلۡ مِنۡ خَـٰلِقٍ غَیۡرُ ٱللَّهِ یَرۡزُقُكُم مِّنَ ٱلسَّمَاۤءِ وَٱلۡأَرۡضِۚ لَاۤ إِلَـٰهَ إِلَّا هُوَۖ فَأَنَّىٰ تُؤۡفَكُونَ","وَإِن یُكَذِّبُوكَ فَقَدۡ كُذِّبَتۡ رُسُلࣱ مِّن قَبۡلِكَۚ وَإِلَى ٱللَّهِ تُرۡجَعُ ٱلۡأُمُورُ","یَـٰۤأَیُّهَا ٱلنَّاسُ إِنَّ وَعۡدَ ٱللَّهِ حَقࣱّۖ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ ٱلۡحَیَوٰةُ ٱلدُّنۡیَا وَلَا یَغُرَّنَّكُم بِٱللَّهِ ٱلۡغَرُورُ","إِنَّ ٱلشَّیۡطَـٰنَ لَكُمۡ عَدُوࣱّ فَٱتَّخِذُوهُ عَدُوًّاۚ إِنَّمَا یَدۡعُوا۟ حِزۡبَهُۥ لِیَكُونُوا۟ مِنۡ أَصۡحَـٰبِ ٱلسَّعِیرِ","ٱلَّذِینَ كَفَرُوا۟ لَهُمۡ عَذَابࣱ شَدِیدࣱۖ وَٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ وَعَمِلُوا۟ ٱلصَّـٰلِحَـٰتِ لَهُم مَّغۡفِرَةࣱ وَأَجۡرࣱ كَبِیرٌ","أَفَمَن زُیِّنَ لَهُۥ سُوۤءُ عَمَلِهِۦ فَرَءَاهُ حَسَنࣰاۖ فَإِنَّ ٱللَّهَ یُضِلُّ مَن یَشَاۤءُ وَیَهۡدِی مَن یَشَاۤءُۖ فَلَا تَذۡهَبۡ نَفۡسُكَ عَلَیۡهِمۡ حَسَرَ ٰتٍۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِیمُۢ بِمَا یَصۡنَعُونَ"],"ayah":"یَـٰۤأَیُّهَا ٱلنَّاسُ إِنَّ وَعۡدَ ٱللَّهِ حَقࣱّۖ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ ٱلۡحَیَوٰةُ ٱلدُّنۡیَا وَلَا یَغُرَّنَّكُم بِٱللَّهِ ٱلۡغَرُورُ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق