الباحث القرآني

(p-٢٢٦)﴿يا أيُّها النَّبِيُّ قُلْ لِأزْواجِكَ إنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الحَياةَ الدُّنْيا وزِينَتَها فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وأُسَرِّحْكُنَّ سَراحًا جَمِيلًا﴾ ﴿وإنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ ورَسُولَهُ والدّارَ الآخِرَةَ فَإنَّ اللَّهَ أعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ مِنكُنَّ أجْرًا عَظِيمًا﴾ ﴿يانِساءَ النَّبِيِّ مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَها العَذابُ ضِعْفَيْنِ وكانَ ذَلِكَ عَلى اللَّهِ يَسِيرًا﴾ ﴿ومَن يَقْنُتْ مِنكُنَّ لِلَّهِ ورَسُولِهِ وتَعْمَلْ صالِحًا نُؤْتِها أجْرَها مَرَّتَيْنِ وأعْتَدْنا لَها رِزْقًا كَرِيمًا﴾ ﴿يانِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأحَدٍ مِنَ النِّساءِ إنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي في قَلْبِهِ مَرَضٌ وقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا﴾ ﴿وقَرْنَ في بُيُوتِكُنَّ ولا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الجاهِلِيَّةِ الأُولى وأقِمْنَ الصَّلاةَ وآتِينَ الزَّكاةَ وأطِعْنَ اللَّهَ ورَسُولَهُ إنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أهْلَ البَيْتِ ويُطَهِّرَكم تَطْهِيرًا﴾ [الأحزاب: ٣٣] ﴿واذْكُرْنَ ما يُتْلى في بُيُوتِكُنَّ مِن آياتِ اللَّهِ والحِكْمَةِ إنَّ اللَّهَ كانَ لَطِيفًا خَبِيرًا﴾ [الأحزاب: ٣٤] ﴿إنَّ المُسْلِمِينَ والمُسْلِماتِ والمُؤْمِنِينَ والمُؤْمِناتِ والقانِتِينَ والقانِتاتِ والصّادِقِينَ والصّادِقاتِ والصّابِرِينَ والصّابِراتِ والخاشِعِينَ والخاشِعاتِ والمُتَصَدِّقِينَ والمُتَصَدِّقاتِ والصّائِمِينَ والصّائِماتِ والحافِظِينَ فُرُوجَهم والحافِظاتِ والذّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا والذّاكِراتِ أعَدَّ اللَّهُ لَهم مَغْفِرَةً وأجْرًا عَظِيمًا﴾ [الأحزاب: ٣٥] . (p-٢٢٧)سَبَبُ نُزُولِها أنَّ أزْواجَهُ ﷺ، تَغايَرْنَ وأرَدْنَ زِيادَةً في كِسْوَةٍ ونَفَقَةٍ، فَنَزَلَتْ. ولَمّا نَصَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ وفَرَّقَ عَنْهُ الأحْزابَ وفَتَحَ عَلَيْهِ قُرَيْظَةَ والنَّضِيرَ، ظَنَّ أزْواجُهُ أنَّهُ اخْتُصَّ بِنَفائِسِ اليَهُودِ وذَخائِرِهِمْ، فَقَعَدْنَ حَوْلَهُ وقُلْنَ: يا رَسُولَ اللَّهِ، بَناتُ كِسْرى وقَيْصَرَ في الحُلِيِّ والحُلَلِ والإماءِ والخَوَلِ، ونَحْنُ عَلى ما تَراهُ مِنَ الفاقَةِ والضِّيقِ. وآلَمْنَ قَلْبَهُ بِمُطالَبَتِهِنَّ لَهُ بِتَوْسِعَةِ الحالِ، وأنْ يُعامِلَهُنَّ بِما يُعامِلُ بِهِ المُلُوكُ والأكابِرُ أزْواجَهم، فَأمَرَهُ اللَّهُ أنْ يَتْلُوَ عَلَيْهِنَّ ما نَزَلَ في أمْرِهِنَّ؛ وأزْواجُهُ إذْ ذاكَ تِسْعٌ: عائِشَةُ بِنْتُ أبِي بَكْرٍ، وحَفْصَةُ بِنْتُ عُمَرَ، وأُمُّ حَبِيبَةَ بِنْتُ أبِي سُفْيانَ، وسَوْدَةُ بِنْتُ زَمْعَةَ، وأُمُّ سَلَمَةَ بِنْتُ أبِي أُمَيَّةَ، وهَؤُلاءِ مِن قُرَيْشٍ. ومِن غَيْرِ قُرَيْشٍ: مَيْمُونَةُ بِنْتُ الحارِثِ الهِلالِيَّةُ، وزَيْنَبُ بِنْتُ جَحْشٍ الأسَدِيَّةُ، وجُوَيْرِيَّةُ بِنْتُ الحارِثِ المُصْطَلِقِيَّةُ، وصَفِيَّةُ بِنْتُ حُيَيِّ بْنِ أخْطَبَ الخَيْبَرِيَّةُ. وقالَ أبُو القاسِمِ الصَّيْرَفِيُّ: لَمّا خُيِّرَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، بَيْنَ مُلْكِ الدُّنْيا ونَعِيمِ الآخِرَةِ، فاخْتارَ الآخِرَةَ، وأمَرَ بِتَخْيِيرِ نِسائِهِ لِيَظْهَرَ صِدْقُ مُوافَقَتِهِنَّ، وكانَ تَحْتَهُ عَشْرُ نِساءٍ، زادَ الحِمْيَرِيَّةَ، فاخْتَرْنَ اللَّهَ ورَسُولَهُ إلّا الحِمْيَرِيَّةَ. ورُوِيَ أنَّهُ قالَ لِعائِشَةَ، وبَدَأ بِها، وكانَتْ أحَبَّهُنَّ إلَيْهِ: «إنِّي ذاكِرٌ لَكِ أمْرًا، ولا عَلَيْكِ أنْ لا تَعْجَلِي فِيهِ حَتّى تَسْتَأْمِرِي أبَوَيْكِ» . ثُمَّ قَرَأ عَلَيْها القُرْآنَ، فَقالَتْ: أفِي هَذا أسْتَأْمِرُ أبَوَيَّ ؟ فَإنِّي أُرِيدُ اللَّهَ ورَسُولَهُ والدّارَ الآخِرَةَ، لا تُخْبِرْ أزْواجَكَ أنِّي اخْتَرْتُكَ، فَقالَ: «إنَّما بَعَثَنِي اللَّهُ مُبَلِّغًا ولَمْ يَبْعَثْنِي مُتَعَنِّتًا» . والظّاهِرُ أنَّهُنَّ إذا اخْتَرْنَ الحَياةَ الدُّنْيا وزِينَتَها، مَتَّعَهُنَّ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وطَلَّقَهُنَّ، وأنَّهُ لَيْسَ بِاخْتِيارِهِنَّ ذَلِكَ يَقَعُ الفِراقُ دُونَ أنْ يُوقِعَهُ هو. وقالَ الأكْثَرُونَ: هي آيَةُ تَخْيِيرٍ، فَإذا قالَ لَها: اخْتارِي، فاخْتارَتْ زَوْجَها، لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ طَلاقًا. وعَنْ عَلِيٍّ: تَكُونُ واحِدَةً رَجْعِيَّةً، وإنِ اخْتارَتْ نَفْسَها، وقَعَتْ طَلْقَةٌ بائِنَةٌ عِنْدَ أبِي حَنِيفَةَ وأصْحابِهِ، وهو قَوْلُ عَلِيٍّ؛ وواحِدَةٌ رَجْعِيَّةٌ، عِنْدَ الشّافِعِيِّ، وهو قَوْلُ عُمَرَ وابْنِ مَسْعُودٍ؛ وثَلاثٌ عِنْدَ مالِكٍ. وأكْثَرُ النّاسِ ذَهَبُوا إلى أنَّ الآيَةَ في التَّخْيِيرِ والطَّلاقِ، وهو قَوْلُ عَلِيٍّ والحَسَنِ وقَتادَةَ، قالَ هَذا القائِلُ: وأمّا أمْرُ الطَّلاقِ فَمُرْجَأٌ، فَإنِ اخْتَرْنَ أنْفُسَهُنَّ، نَظَرَ هو كَيْفَ يُسَرِّحُهُنَّ، ولَيْسَ فِيها تَخْيِيرٌ في الطَّلاقِ؛ لِأنَّ التَّخْيِيرَ يَتَضَمَّنُ ثَلاثَ تَطْلِيقاتٍ، وهو قَدْ قالَ: ﴿وأُسَرِّحْكُنَّ سَراحًا جَمِيلًا﴾ ولَيْسَ مَعَ بَتِّ الطَّلاقِ سَراحٌ جَمِيلٌ. انْتَهى. والَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ ظاهِرُ الآيَةِ هو ما ذَكَرْناهُ أوَّلًا، مِن أنَّهُ عَلَّقَ عَلى إرادَتِهِنَّ زِينَةَ الحَياةِ الدُّنْيا وُقُوعَ التَّمْتِيعِ والتَّسْرِيحِ مِنهُ، والمَعْنى في الآيَةِ: أنَّهُ كانَ عَظِيمُ هَمِّكُنَّ ومَطْلَبِكُنَّ التَّعَمُّقَ في الدُّنْيا ونَيْلَ نَعِيمِها وزِينَتِها. وتَقَدَّمَ الكَلامُ في: ﴿فَتَعالَيْنَ﴾ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿قُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أبْناءَنا وأبْناءَكُمْ﴾ [آل عمران: ٦١] في آلِ عِمْرانَ. ﴿أُمَتِّعْكُنَّ﴾ قِيلَ: المُتْعَةُ واجِبَةٌ في الطَّلاقِ؛ وقِيلَ: مَندُوبٌ إلَيْها. والأمْرُ في قَوْلِهِ: ﴿ومَتِّعُوهُنَّ﴾ [البقرة: ٢٣٦] يَقْتَضِي الوُجُوبَ في مَذْهَبِ الفُقَهاءِ، وتَقَدَّمَ الكَلامُ في ذَلِكَ، وفي تَفْصِيلِ المَذاهِبِ في البَقَرَةِ. والتَّسْرِيحُ الجَمِيلُ إمّا في دُونِ البَيْتِ، أوْ جَمِيلِ الثَّناءِ، والمُعْتَقَدِ وحُسْنِ العِشْرَةِ إنْ كانَ تامًّا. وقَرَأ الجُمْهُورُ: ﴿أُمَتِّعْكُنَّ﴾ بِالتَّشْدِيدِ مِن مَتَّعَ؛ وزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: بِالتَّخْفِيفِ مِن أمْتَعَ، ومَعْنى (أعَدَّ) هَيَّأ ويَسَّرَ، وأوْقَعَ الظّاهِرَ مَوْقِعَ المُضْمَرِ؛ تَنْبِيهًا عَلى الوَصْفِ الَّذِي تَرَتَّبَ لَهُنَّ بِهِ الأجْرَ العَظِيمَ، وهو الإحْسانُ، كَأنَّهُ قالَ: أعَدَّ لَكُنَّ؛ لِأنَّ مَن أرادَ اللَّهَ ورَسُولَهُ والدّارَ الآخِرَةَ كانَ مُحْسِنًا. وقِراءَةُ حُمَيْدٍ الخَرّازِ: ﴿أُمَتِّعْكُنَّ وأُسَرِّحْكُنَّ﴾ بِالرَّفْعِ عَلى الِاسْتِئْنافِ؛ والجُمْهُورُ: بِالجَزْمِ عَلى جَوابِ الأمْرِ، أوْ عَلى جَوابِ الشَّرْطِ، ويَكُونُ ﴿فَتَعالَيْنَ﴾ جُمْلَةُ اعْتِراضٍ بَيْنَ الشَّرْطِ وجَزائِهِ، ولا يَضُرُّ دُخُولُ الفاءِ عَلى جُمْلَةِ الِاعْتِراضِ، ومِثْلُ ذَلِكَ قَوْلُ الشّاعِرِ: ؎واعْلَمْ فَعِلْمُ المَرْءِ يَنْفَعُهُ أنْ سَوْفَ يَأْتِي كُلُّ ما قُدِرا ثُمَّ نادى نِساءَ النَّبِيِّ ﷺ، لِيَجْعَلْنَ بالَهُنَّ مِمّا يُخاطَبْنَ بِهِ، إذا كانَ أمْرًا يُجْعَلُ لَهُ البالُ. وقَرَأ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ، (p-٢٢٨)والجَحْدَرِيُّ، وعَمْرُو بْنُ فائِدٍ الأسْوارِيُّ، ويَعْقُوبُ: ”تَأْتِ“، بِتاءِ التَّأْنِيثِ، حَمْلًا عَلى مَعْنى مَن؛ والجُمْهُورُ: بِالياءِ، حَمْلًا عَلى لَفْظِ مَن. ﴿بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ﴾ كَبِيرَةٍ مِنَ المَعاصِي، ولا يُتَوَهَّمُ أنَّها الزِّنى، لِعِصْمَةِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، مِن ذَلِكَ، ولِأنَّهُ وصَفَها بِالتَّبْيِينِ والزِّنى مِمّا يُتَسَتَّرُ بِهِ، ويَنْبَغِي أنْ تُحْمَلَ الفاحِشَةُ عَلى عُقُوقِ الزَّوْجِ وفَسادِ عِشْرَتِهِ. ولَمّا كانَ مَكانُهُنَّ مَهْبِطَ الوَحْيِ مِنَ الأوامِرِ والنَّواهِي، لَزِمَهُنَّ بِسَبَبِ ذَلِكَ، وكَوْنِهِنَّ تَحْتَ الرَّسُولِ ﷺ أكْثَرُ مِمّا يَلْزَمُ غَيْرَهُنَّ، فَضُوعِفَ لَهُنَّ الأجْرُ والعَذابُ. وقَرَأ نافِعٌ، وحَمْزَةُ، وعاصِمٌ، والكِسائِيُّ: ﴿يُضاعَفْ﴾ بِألِفٍ وفَتْحِ العَيْنِ؛ والحَسَنُ، وعِيسى، وأبُو عَمْرٍو: بِالتَّشْدِيدِ وفَتْحِ العَيْنِ؛ والجَحْدَرِيُّ، وابْنُ كَثِيرٍ، وأبُو عامِرٍ: بِالنُّونِ وشَدِّ العَيْنِ مَكْسُورَةً؛ وزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ، وابْنُ مُحَيْصِنٍ، وخارِجَةُ، عَنْ أبِي عَمْرٍو: بِالألِفِ والنُّونِ والكَسْرِ؛ وفِرْقَةٌ: بِياءِ الغَيْبَةِ والألِفِ والكَسْرِ. ومَن فَتَحَ العَيْنَ رَفَعَ (العَذابُ) ومَن كَسَرَها نَصَبَهُ. ﴿ضِعْفَيْنِ﴾ أيْ: عَذابَيْنِ، فَيُضافُ إلى عَذابِ سائِرِ النّاسِ عَذابٌ آخَرُ. وقالَ أبُو عُبَيْدَةَ، وأبُو عَمْرٍو فِيما حَكى الطَّبَرِيُّ عَنْهُما: إنَّهُ يُضافُ إلى العَذابِ عَذابانِ، فَتَكُونُ ثَلاثَةً. وكَوْنُ الأجْرِ مَرَّتَيْنِ بَعْدَ هَذا القَوْلِ؛ لِأنَّ العَذابَ في الفاحِشَةِ بِإزاءِ الأجْرِ في الطّاعَةِ. ﴿وكانَ ذَلِكَ﴾ أيْ: تَضْعِيفُ العَذابِ عَلَيْهِنَّ ﴿عَلى اللَّهِ يَسِيرًا﴾ أيْ: سَهْلًا، وفِيهِ إعْلامٌ بِأنَّ كَوْنَهُنَّ نِساءً، مَعَ مُقارَفَةِ الذَّنْبِ، لا يُغْنِي عَنْهُنَّ شَيْئًا، وهو يُغْنِي عَنْهُنَّ، وهو سَبَبُ مُضاعَفَةِ العَذابِ. ﴿ومَن يَقْنُتْ﴾ أيْ: يُطِعْ ويَخْضَعْ بِالعُبُودِيَّةِ لِلَّهِ، وبِالمُوافَقَةِ لِرَسُولِهِ. وقَرَأ الجُمْهُورُ: ﴿ومَن يَقْنُتْ﴾ بِالمُذَكَّرِ، حَمْلًا عَلى لَفْظِ ”مَن“، وتَعْمَلُ بِالتّاءِ حَمْلًا عَلى المَعْنى. ﴿نُؤْتِها﴾ بِنُونِ العَظَمَةِ. وقَرَأ الجَحْدَرِيُّ، والأسْوارِيُّ، ويَعْقُوبُ، في رِوايَةٍ: ”ومَن تَقْنُتْ“ بِتاءِ التَّأْنِيثِ، حَمْلًا عَلى المَعْنى، وبِها قَرَأ ابْنُ عامِرٍ في رِوايَةٍ، ورَواها أبُو حاتِمٍ عَنْ أبِي جَعْفَرٍ وشَيْبَةَ ونافِعٍ. وقالَ ابْنُ خالَوَيْهِ: ما سَمِعْتُ أنَّ أحَدًا قَرَأ: ﴿ومَن يَقْنُتْ﴾، إلّا بِالتّاءِ. وقَرَأ السُّلَمِيُّ، وابْنُ وثّابٍ، وحَمْزَةُ، والكِسائِيُّ: بِياءٍ مِن تَحْتُ في ثَلاثَتِها. وذَكَرَ أبُو البَقاءِ أنَّ بَعْضَهم قَرَأ: ﴿ومَن يَقْنُتْ﴾ بِالياءِ، حَمْلًا عَلى المَعْنى، ويَعْمَلُ بِالياءِ حَمْلًا عَلى لَفْظِ مَن قالَ؛ فَقالَ بَعْضُ النَّحْوِيِّينَ: هَذا ضَعِيفٌ؛ لِأنَّ التَّذْكِيرَ أصْلٌ لا يُجْعَلُ تَبَعًا لِلتَّأْنِيثِ، وما عَلَّلُوهُ بِهِ قَدْ جاءَ مِثْلُهُ في القُرْآنِ، وهو قَوْلُهُ تَعالى: ﴿خالِصَةٌ لِذُكُورِنا ومُحَرَّمٌ عَلى أزْواجِنا﴾ [الأنعام: ١٣٩] . انْتَهى. وتَقَدَّمَ الكَلامُ عَلى (خالِصَةٌ) في الأنْعامِ. والرِّزْقُ الكَرِيمُ: الجَنَّةُ. قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ في ذَلِكَ وعْدٌ دُنْياوِيٌّ، أيْ: أنَّ أرْزاقَها في الدُّنْيا عَلى اللَّهِ، وهو كَرِيمٌ مِن حَيْثُ هو حَلالٌ وقَصْدٌ، وبِرِضًا مِنَ اللَّهِ في نَيْلِهِ. وقالَ بَعْضُ المُفَسِّرِينَ: العَذابُ الَّذِي تُوُعِّدَ بِهِ ضِعْفَيْنِ هو عَذابُ الدُّنْيا، ثُمَّ عَذابُ الآخِرَةِ؛ وكَذَلِكَ الأجْرُ، وهو ضَعِيفٌ. انْتَهى. وإنَّما ضُوعِفَ أجْرُهُنَّ لِطَلَبِهِنَّ رِضا رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، بِحُسْنِ الخُلُقِ وطِيبِ المُعاشَرَةِ والقَناعَةِ والتَّوَفُّرِ عَلى عِبادَةِ اللَّهِ. ﴿يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأحَدٍ مِنَ النِّساءِ﴾ أيْ: لَيْسَ كُلُّ واحِدَةٍ مِنكُنَّ كَشَخْصٍ واحِدٍ مِنَ النِّساءِ، أيْ: مِن نِساءِ عَصْرِكَ. ولَيْسَ النَّفْيُ مُنْصَبًّا عَلى التَّشْبِيهِ في كَوْنِهِنَّ نِسْوَةً. تَقُولُ: لَيْسَ زَيْدٌ كَآحادِ النّاسِ، لا تُرِيدُ نَفْيَ التَّشْبِيهِ عَنْ كَوْنِهِ إنْسانًا، بَلْ في وصْفٍ أخَصَّ مَوْجُودٍ فِيهِ، وهو كَوْنُهُ عالِمًا، أوْ عامِلًا، أوْ مُصَلِّيًا. فالمَعْنى: أنَّهُ يُوجَدُ فِيكُنَّ مِنَ التَّمْيِيزِ ما لا يُوجَدُ في غَيْرِكُنَّ، وهو كَوْنُكُنَّ أُمَّهاتِ المُؤْمِنِينَ وزَوْجاتِ خَيْرِ المُرْسَلِينَ. ونَزَلَ القُرْآنُ فِيكُنَّ، فَكَما أنَّهُ عَلَيْهِ السَّلامُ لَيْسَ كَأحَدٍ مِنَ الرِّجالِ، كَما قالَ عَلَيْهِ السَّلامُ: «لَسْتُ كَأحَدِكم»، كَذَلِكَ زَوْجاتُهُ اللّاتِي تَشَرَّفْنَ بِهِ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أحَدٌ في الأصْلِ بِمَعْنى وحَدٍ، وهو الواحِدُ؛ ثُمَّ وُضِعَ في النَّفْيِ العامِّ مُسْتَوِيًا فِيهِ (p-٢٢٩)المُذَكَّرُ والمُؤَنَّثُ والواحِدُ وما وراءَهُ، والمَعْنى: لَسْتُنَّ كَجَماعَةٍ واحِدَةٍ مِن جَماعاتِ النِّساءِ، أيْ: إذا تَقَصَّيْتَ أُمَّةَ النِّساءِ جَماعَةً جَماعَةً، لَمْ يُوجَدْ مِنهُنَّ جَماعَةٌ واحِدَةٌ تُساوِيكُنَّ في الفَضْلِ والسّابِقَةِ، ومِنهُ قَوْلُهُ عَزَّ وجَلَّ: ﴿والَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ ورُسُلِهِ ولَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أحَدٍ مِنهُمْ﴾ [النساء: ١٥٢] يُرِيدُ بَيْنَ جَماعَةٍ واحِدَةٍ مِنهم، تَسْوِيَةً بَيْنَ جَمِيعِهِمْ في أنَّهم عَلى الحَقِّ المُبِينِ. انْتَهى. أمّا قَوْلُهُ: أحَدٌ في الأصْلِ بِمَعْنى: وحَدٍ، وهو الواحِدُ فَصَحِيحٌ. وأمّا قَوْلُهُ: ثُمَّ وضَعَ، إلى قَوْلِهِ: وما وراءَهُ، فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ؛ لِأنَّ الَّذِي يُسْتَعْمَلُ في النَّفْيِ العامِّ مَدْلُولُهُ غَيْرُ مَدْلُولِ واحِدٍ؛ لِأنَّ واحِدًا يَنْطَلِقُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ اتَّصَفَ بِالوَحْدَةِ، و”أحَدٌ“ المُسْتَعْمَلُ في النَّفْيِ العامِّ مَخْصُوصٌ بِمَن يَعْقِلُ. وذَكَرَ النَّحْوِيُّونَ أنَّ مادَّتَهُ هَمْزَةٌ وحاءٌ ودالٌ، ومادَّةُ أحَدٍ بِمَعْنى وحَدٍ أصْلُهُ واوٌ وحاءٌ ودالٌ، فَقَدِ اخْتَلَفا مادَّةً ومَدْلُولًا. وأمّا قَوْلُهُ: ﴿لَسْتُنَّ﴾ كَجَماعَةٍ واحِدَةٍ، فَقَدْ قُلْنا: إنَّ قَوْلَهُ ﴿لَسْتُنَّ﴾ مَعْناهُ: لَيْسَتْ كُلُّ واحِدَةٍ مِنكُنَّ، فَهو حُكْمٌ عَلى كُلِّ واحِدَةٍ واحِدَةٍ، لَيْسَ حُكْمًا عَلى المَجْمُوعِ مِن حَيْثُ هو مَجْمُوعٌ. وقُلْنا: إنَّ مَعْنى ﴿كَأحَدٍ﴾: كَشَخْصٍ واحِدٍ، فَأبْقَيْنا أحَدًا عَلى مَوْضُوعِهِ مِنَ التَّذْكِيرِ، ولَمْ نَتَأوَّلْهُ بِجَماعَةٍ واحِدَةٍ. وأمّا ﴿ولَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أحَدٍ مِنهُمْ﴾ [النساء: ١٥٢] فاحْتَمَلَ أنْ يَكُونَ الَّذِي لِلنَّفْيِ العامِّ، ولِذَلِكَ جاءَ في سِياقِ النَّفْيِ، فَعَمَّ وصَلُحَتِ البَيْنِيَّةُ لِلْعُمُومِ. واحْتَمَلَ أنْ يَكُونَ ”أحَدٌ“ بِمَعْنى واحِدٍ، ويَكُونُ قَدْ حُذِفَ مَعْطُوفٌ، أيْ: بَيْنَ واحِدٍ وواحِدٍ مِن رُسُلِهِ، كَما قالَ الشّاعِرُ: ؎فَما كانَ بَيْنَ الخَيْرِ لَوْ جاءَ سالِمًا ∗∗∗ أبُو حَجَرٍ إلّا لَيالٍ قَلائِلُ أيْ: لَسْتُنَّ مِثْلَهُنَّ إنِ اتَّقَيْتُنَّ اللَّهَ، وذَلِكَ لَمّا انْضافَ مَعَ تَقْوى اللَّهِ مِن صُحْبَةِ الرَّسُولِ ﷺ وعَظِيمِ المَحَلِّ مِنهُ، ونُزُولِ القُرْآنِ في بَيْتِهِنَّ وفي حَقِّهِنَّ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: ﴿إنِ اتَّقَيْتُنَّ﴾ إنْ أرَدْتُنَّ التَّقْوى، وإنْ كُنَّ مُتَّقِياتٍ. ﴿فَلا تَخْضَعْنَ بِالقَوْلِ﴾ فَلا تُجِبْنَ بِقَوْلِكُنَّ خاضِعًا، أيْ: لَيِّنًا خَنِثًا، مِثْلَ كَلامِ المُرِيباتِ والمُومِساتِ. ﴿فَيَطْمَعَ الَّذِي في قَلْبِهِ مَرَضٌ﴾ أيْ: رِيبَةً وفُجُورًا. انْتَهى. فَعَلى القَوْلِ الأوَّلِ يَكُونُ ﴿إنِ اتَّقَيْتُنَّ﴾ قَيْدًا في كَوْنِهِنَّ لَسْنَ كَأحَدٍ مِنَ النِّساءِ، ويَكُونُ جَوابُ الشَّرْطِ مَحْذُوفًا. وعَلى ما قالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ، يَكُونُ ﴿إنِ اتَّقَيْتُنَّ﴾ ابْتِداءَ شَرْطٍ، وجَوابُهُ ﴿فَلا تَخْضَعْنَ﴾ وكِلا القَوْلَيْنِ فِيهِما حُمِلَ. ﴿إنِ اتَّقَيْتُنَّ﴾ عَلى تَقْوى اللَّهِ تَعالى، وهو ظاهِرُ الِاسْتِعْمالِ، وعِنْدِي أنَّهُ مَحْمُولٌ عَلى أنَّ مَعْناهُ: إنِ اسْتَقْبَلْتُنَّ أحَدًا ﴿فَلا تَخْضَعْنَ﴾ . واتَّقى بِمَعْنى: اسْتَقْبَلَ مَعْرُوفٌ في اللُّغَةِ، قالَ النّابِغَةُ: ؎سَقَطَ النَّصِيفُ ولَمْ تُرِدْ إسْقاطَهُ ∗∗∗ فَتَناوَلَتْهُ واتَّقَتْنا بِاليَدِ أيِ: اسْتَقْبَلَتْنا بِاليَدِ، ويَكُونُ هَذا المَعْنى أبْلَغَ في مَدْحِهِنَّ، إذْ لَمْ يُعَلِّقْ فَضِيلَتَهُنَّ عَلى التَّقْوى، ولا عَلَّقَ نَهْيَهُنَّ عَنِ الخُضُوعِ بِها، إذْ هُنَّ مُتَّقِياتٌ لِلَّهِ في أنْفُسِهِنَّ، والتَّعْلِيقُ يَقْتَضِي ظاهِرُهُ أنَّهُنَّ لَسْنَ مُتَحَلِّياتٍ بِالتَّقْوى. قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: لا تُرَخِّصْنَ بِالقَوْلِ. وقالَ الحَسَنُ: لا تَكَلَّمْنَ بِالرَّفَثِ. وقالَ الكَلْبِيُّ: لا تَكَلَّمْنَ بِما يَهْوى المُرِيبُ. وقالَ ابْنُ زَيْدٍ: الخُضُوعُ بِالقَوْلِ ما يُدْخِلُ في القَلْبِ الغَزَلَ. وقِيلَ: لا تُلِنَّ لِلرِّجالِ القَوْلَ. أمَرَ تَعالى أنْ يَكُونَ الكَلامُ خَيْرًا، لا عَلى وجْهٍ يُظْهِرُ في القَلْبِ عَلاقَةَ ما يَظْهَرُ عَلَيْهِ مِنَ اللِّينِ، كَما كانَ الحالُ عَلَيْهِ في نِساءِ العَرَبِ مِن مُكالَمَةِ الرِّجالِ بِرَخِيمِ الصَّوْتِ ولَيِّنِهِ، مِثْلَ كَلامِ المُومِساتِ، فَنَهاهُنَّ عَنْ ذَلِكَ، وقالَ الشّاعِرُ: ؎بِتَكَلُّمٍ لَوْ تَسْتَطِيعُ كَلامَهُ ∗∗∗ لَدَنَتْ لَهُ أرْوى الهِضابِ الصُّخَّدِ وقالَ آخَرُ: ؎لَوْ أنَّها عَرَضَتْ لِأشْمَطَ راهِبٍ ∗∗∗ عَبَدَ الإلَهَ صَرُورَةٍ مُتَعَبِّدِ ؎لَرَنا لِرُؤْيَتِها وحُسْنِ حَدِيثِها ∗∗∗ ولَخالَهُ رُشْدًا وإنْ لَمْ يَرْشُدِ (p-٢٣٠)وقَرَأ الجُمْهُورُ: ﴿فَيَطْمَعَ﴾ بِفَتْحِ المِيمِ ونَصْبِ العَيْنِ، جَوابًا لِلنَّهْيِ؛ وأبانُ بْنُ عُثْمانَ، وابْنُ هُرْمُزَ: بِالجَزْمِ، فَكُسِرَتِ العَيْنُ لِالتِقاءِ السّاكِنَيْنِ، نُهِينَ عَنِ الخُضُوعِ بِالقَوْلِ، ونُهِيَ مَرِيضُ القَلْبِ عَنِ الطَّمَعِ، كَأنَّهُ قِيلَ: لا تَخْضَعْ فَلا تَطْمَعْ. وقِراءَةُ النَّصْبِ أبْلَغُ؛ لِأنَّها تَقْتَضِي الخُضُوعَ بِسَبَبِ الطَّمَعِ. وقالَ أبُو عُمَرٍو الدّانِيُّ: قَرَأ الأعْرَجُ وعِيسى: ”فَيَطْمِعَ“، بِفَتْحِ الياءِ وكَسْرِ المِيمِ. ونَقَلَها ابْنُ خالَوَيْهِ عَنْ أبِي السِّماكِ، قالَ: وقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ مُحَيْصِنٍ، وذَكَرَ أنَّ الأعْرَجَ، وهو ابْنُ هُرْمُزَ، قَرَأ: ”فَيُطْمِعَ“، بِضَمِّ الياءِ وفَتْحِ العَيْنِ وكَسْرِ المِيمِ، أيْ: فَيَطْمَعُ هو، أيِ: الخُضُوعُ بِالقَوْلِ؛ و(الَّذِي) مَفْعُولٌ، أوِ (الَّذِي) فاعِلٌ والمَفْعُولُ مَحْذُوفٌ، أيْ: فَيَطْمَعُ نَفْسُهُ. والمَرَضُ، قالَ قَتادَةُ: النِّفاقُ؛ وقالَ عِكْرِمَةُ: الفِسْقُ والغَزَلُ. ﴿وقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا﴾ والمُحَرَّمُ، وهو الَّذِي لا تُنْكِرُهُ الشَّرِيعَةُ ولا العُقُولُ. قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: المَرْأةُ تَنْدُبُ إذا خالَطَتِ الأجانِبَ، عَلَيْها بِالمُصاهَرَةِ إلى الغِلْظَةِ في القَوْلِ مِن غَيْرِ رَفْعِ الصَّوْتِ، فَإنَّها مَأْمُورَةٌ بِخَفْضِ الكَلامِ. وقالَ الكَلْبِيُّ: مَعْرُوفًا صَحِيحًا، بِلا هَجَرٍ ولا تَمْرِيضٍ. وقالَ الضَّحّاكُ: عَنِيفًا؛ وقِيلَ: خَشِنًا حَسَنًا؛ وقِيلَ: مَعْرُوفًا، أيْ: قَوْلًا أُذِنَ لَكم فِيهِ؛ وقِيلَ: ذِكْرُ اللَّهِ وما يُحْتاجُ إلَيْهِ مِنَ الكَلامِ. وقَرَأ الجُمْهُورُ: ”وقِرْنَ“، بِكَسْرِ القافِ، مِن وقَرَ يَقِرُ إذا سَكَنَ وأصْلُهُ: أوْقِرْنَ، مِثْلُ عِدْنَ مِن وعَدَ. وذَكَرَ أبُو الفَتْحِ الهَمْدانِيُّ، في كِتابِ التِّبْيانِ، وجْهًا آخَرَ قالَ: قارَّ يَقارُّ، إذا اجْتَمَعَ، ومِنهُ القارَّةُ لِاجْتِماعِها. ألا تَرى إلى قَوْلِ عُضَلَ والدِّيشِ: اجْتَمِعُوا فَكُونُوا قارَّةً ؟ فالمَعْنى: اجْمَعْنَ أنْفُسَكُنَّ في بُيُوتِكُنَّ. ﴿وقَرْنَ﴾ [الأحزاب: ٣٣] أمْرٌ مِن قارَ، كَما تَقُولُ: خِفْنَ مِن خافَ؛ أوْ مِنَ القَرارِ، تَقُولُ: قَرَرْتُ بِالمَكانِ، وأصْلُهُ: واقْرِرْنَ، حُذِفَتِ الرّاءُ الثّانِيَةُ تَخْفِيفًا، كَما حَذَفُوا لامَ ظَلِلْتُ، ثُمَّ نُقِلَتْ حَرَكَتُها إلى القافِ فَذَهَبَتْ ألِفُ الوَصْلِ. وقالَ أبُو عَلِيٍّ: أُبْدِلَتِ الرّاءُ ونُقِلَتْ حَرَكَتُها إلى القافِ، ثُمَّ حُذِفَتِ الياءُ لِسُكُونِها وسُكُونِ الرّاءِ بَعْدَها. انْتَهى، وهَذا غايَةٌ في التَّحْمِيلِ كَعادَتِهِ. وقَرَأ عاصِمٌ ونافِعٌ: بِفَتْحِ القافِ، وهي لُغَةُ العَرَبِ؛ يَقُولُونَ: قَرِرْتُ بِالمَكانِ، بِكَسْرِ الرّاءِ وبِفَتْحِ القافِ، حَكاهُ أبُو عُبَيْدٍ والزَّجّاجُ وغَيْرُهُما، وأنْكَرَها قَوْمٌ، مِنهُمُ المازِنِيُّ، وقالُوا: بِكَسْرِ الرّاءِ، مِن قَرَّتِ العَيْنُ، وبِفَتْحِها مِنَ القَرارِ. وقَرَأ ابْنُ أبِي عَبْلَةَ: ”واقْرِرْنَ“، بِألِفِ الوَصْلِ وكَسْرِ الرّاءِ الأُولى. وتَقَدَّمَ لَنا الكَلامُ عَلى قَرِرْتُ، وأنَّهُ بِالفَتْحِ والكَسْرِ مِنَ القَرارِ ومِنَ القِرَّةِ. أمَرَهُنَّ تَعالى بِمُلازَمَةِ بُيُوتِهِنَّ، ونَهاهُنَّ عَنِ التَّبَرُّجِ، وأعْلَمَ تَعالى أنَّهُ فِعْلُ الجاهِلِيَّةِ الأُولى، وكانَتْ عائِشَةُ إذا قَرَأتْ هَذِهِ الآيَةَ بَكَتْ حَتّى تَبُلَّ خِمارَها، تَتَذَكَّرُ خُرُوجَها أيّامَ الجَمَلِ تَطْلُبُ بِدَمِ عُثْمانَ. وقِيلَ لِسَوْدَةَ: لِمَ لا تَحُجِّينَ وتَعْتَمِرِينَ كَما يَفْعَلُ إخْوانُكِ ؟ فَقالَتْ: قَدْ حَجَجْتُ واعْتَمَرْتُ وأمَرَنِي اللَّهُ أنْ أقِرَّ في بَيْتِي، فَما خَرَجَتْ مِن بابِ حُجْرَتِها حَتّى أُخْرِجَتْ جِنازَتُها. ﴿ولا تَبَرَّجْنَ﴾ [الأحزاب: ٣٣] قالَ مُجاهِدٌ وقَتادَةُ: التَّبَرُّجُ: التَّبَخْتُرُ والتَّغَنُّجُ والتَّكَسُّرُ. وقالَ مُقاتِلٌ: تُلْقِي الخِمارَ عَلى وجْهِها ولا تَشُدُّهُ. وقالَ المُبَرِّدُ: تُبْدِي مِن مَحاسِنِها ما يَجِبُ عَلَيْها سَتْرُهُ. و﴿الجاهِلِيَّةِ الأُولى﴾ [الأحزاب: ٣٣] يَدُلُّ عَلى أنَّ ثَمَّ جاهِلِيَّةٌ مُتَقَدِّمَةٌ وأُخْرى مُتَأخِّرَةٌ. فَقِيلَ: هُما ابْنانِ لِآدَمَ، سَكَنَ أحَدُهُما الجَبَلَ، فَذُكُورُ أوْلادِهِ صِباحٌ وإناثُهم قِباحٌ؛ والآخَرُ السَّهْلَ، وأوْلادُهُ عَلى عَكْسِ ذَلِكَ. فَسَوّى لَهم إبْلِيسُ عِيدًا يَجْتَمِعُ جَمِيعُهم فِيهِ، فَمالَ ذُكُورُ الجَبَلِ إلى إناثِ السَّهْلِ وبِالعَكْسِ، فَكَثُرَتِ الفاحِشَةُ، فَهو تَبَرُّجُ الجاهِلِيَّةِ الأُولى. وقالَ عِكْرِمَةُ والحَكَمُ بْنُ عُيَيْنَةَ: ما بَيْنَ آدَمَ ونُوحٍ، وهي ثَمانُمِائَةِ سَنَةٍ، كانَ الرِّجالُ صِباحًا والنِّساءُ قِباحًا، فَكانَتِ المَرْأةُ تَدْعُو الرَّجُلَ إلى نَفْسِها. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ أيْضًا: الجاهِلِيَّةُ الأُولى ما بَيْنَ إدْرِيسَ ونُوحٍ، كانَتْ ألْفَ سَنَةٍ، تَجْمَعُ المَرْأةُ بَيْنَ زَوْجٍ وعَشِيقٍ. وقالَ الكَلْبِيُّ وغَيْرُهُ: ما بَيْنَ نُوحٍ وإبْراهِيمَ. قالَ مُقاتِلٌ: زَمَنَ نُمْرُوذَ، بَغايا يَلْبَسْنَ أرَقَّ الدُّرُوعِ ويَمْشِينَ في الطُّرُقِ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: والجاهِلِيَّةُ الأُولى هي القَدِيمَةُ الَّتِي يُقالُ لَها الجاهِلِيَّةُ الجَهْلاءُ، (p-٢٣١)وهِيَ الزَّمانُ الَّذِي وُلِدَ فِيهِ إبْراهِيمُ. كانَتِ المَرْأةُ تَلْبَسُ الدِّرْعَ مِنَ اللُّؤْلُؤِ، فَتَمْشِي وسَطَ الطَّرِيقِ تَعْرِضُ نَفْسَها عَلى الرِّجالِ. وقالَ أبُو العالِيَةِ: مِن داوُدَ وسُلَيْمانَ، كانَ لِلْمَرْأةِ قَمِيصٌ مِنَ الدُّرِّ غَيْرُ مَخِيطِ الجانِبَيْنِ، يَظْهَرُ مِنهُ الأكْعابُ والسَّوْأتانِ. وقالَ المُبَرِّدُ: كانَتِ المَرْأةُ تَجْمَعُ بَيْنَ زَوْجِها وخِلْمِها، لِلزَّوْجِ نِصْفُها الأسْفَلُ، ولِلْخِلْمِ نِصْفُها، يَتَمَتَّعُ بِهِ في التَّقْبِيلِ والتَّرَشُّفِ. وقِيلَ: ما بَيْنَ مُوسى وعِيسى. وقالَ الشَّعْبِيُّ: ما بَيْنَ عِيسى ومُحَمَّدٍ، عَلَيْهِما الصَّلاةُ والسَّلامُ. وقالَ مُقاتِلٌ: الأُولى زَمَنُ إبْراهِيمَ، والثّانِيَةُ زَمَنَ مُحَمَّدٍ، عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ قَبْلَ أنْ يُبْعَثَ، وقالَ الزَّجّاجُ: الأشْبَهُ قَوْلُ الشَّعْبِيِّ لِأنَّهم هُمُ الجاهِلِيَّةُ المَعْرُوفُونَ كانُوا يَتَّخِذُونَ البَغايا، وإنَّما قِيلَ: الأُولى؛ لِأنَّهُ يُقالُ لِكُلِّ مُتَقَدِّمٍ ومُتَقَدِّمَةٍ: أوَّلُ وأُولى، وتَأْوِيلُهُ أنَّهم تَقَدَّمُوا عَلى أُمَّةِ مُحَمَّدٍ ﷺ فَهم أُولى وهم أوَّلُ مِن أُمَّةِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ، وقالَ عُمَرُ لِابْنِ عَبّاسٍ: وهَلْ كانَتِ الجاهِلِيَّةُ إلّا واحِدَةً ؟ فَقالَ ابْنُ عَبّاسٍ: وهَلْ كانَتِ الأُولى إلّا ولَها آخِرَةٌ ؟ فَقالَ عُمَرُ: لِلَّهِ دَرُّكَ يا ابْنَ عَبّاسٍ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: والجاهِلِيَّةُ الأُخْرى ما بَيْنَ عِيسى ومُحَمَّدٍ، عَلَيْهِما الصَّلاةُ والسَّلامُ، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ الجاهِلِيَّةُ الأُولى جاهِلِيَّةَ الكُفْرِ قَبْلَ الإسْلامِ، والجاهِلِيَّةُ الأُخْرى جاهِلِيَّةَ الفُسُوقِ والفُجُورِ في الإسْلامِ، فَكانَ المَعْنى: ولا يَجِدُكُنَّ بِالتَّبَرُّجِ جاهِلِيَّةً في الإسْلامِ يَتَشَبَّهْنَ بِها بِأهْلِ جاهِلِيَّةِ الكُفْرِ. ويُعَضِّدُهُ ما رُوِيَ أنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قالَ لِأبِي الدَّرْداءِ: «إنَّ فِيكَ جاهِلِيَّةً ”، قالَ: جاهِلِيَّةُ كُفْرٍ أمْ إسْلامٍ ؟ فَقالَ:“ بَلْ جاهِلِيَّةُ كُفْرٍ ”» . انْتَهى. والمَعْرُوفُ في الحَدِيثِ أنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ إنَّما قالَ:“ «إنَّكَ امْرُؤٌ فِيكَ جاهِلِيَّةٌ»، لِأبِي ذَرٍّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: والَّذِي يَظْهَرُ عِنْدِي أنَّهُ أشارَ إلى الجاهِلِيَّةِ الَّتِي يَخُصُّها، فَأُمِرْنَ بِالنُّقْلَةِ مِن سِيرَتِهِنَّ فِيها، وهي ما كانَ قَبْلَ الشَّرْعِ مِن سِيرَةِ الكُفْرِ، ولِأنَّهم كانُوا لا غَيْرَةَ عِنْدَهم، وكانَ أمْرُ النِّساءِ دُونَ حَجَبَةٍ، وجَعَلَها أوْلى بِالإضافَةِ إلى حالَةِ الإسْلامِ، ولَيْسَ المَعْنى أنَّ ثَمَّ جاهِلِيَّةٌ أُخْرى. وقَدْ مَرَّ إطْلاقُ اسْمِ الجاهِلِيَّةِ عَلى تِلْكَ المُدَّةِ الَّتِي قَبْلَ الإسْلامِ، فَقالُوا: جاهِلِيٌّ في الشُّعَراءِ. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ في البُخارِيِّ: سَمِعْتُ، أيْ: في الجاهِلِيَّةِ إلى غَيْرِ هَذا. انْتَهى.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب