الباحث القرآني

[حُكْمُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ في تَخْيِيرِ أزْواجِهِ بَيْنَ المُقامِ مَعَهُ وبَيْنَ مُفارَقَتِهِنَّ لَهُ] ثَبَتَ في " الصَّحِيحَيْنِ " عَنْ (عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها قالَتْ: «لَمّا أُمِرَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِتَخْيِيرِ أزْواجِهِ، بَدَأ بِي، فَقالَ: إنِّي ذاكِرٌ لَكِ أمْرًا، فَلا عَلَيْكِ ألّا تَعْجَلِي حَتى تَسْتَأْمِرِي أبَوَيْكِ. قالَتْ: وقَدْ عَلِمَ أنَّ أبَوَيَّ لَمْ يَكُونا لِيَأْمُرانِي بِفِراقِهِ، ثُمَّ قَرَأ ﴿ياأيُّها النَّبِيُّ قُلْ لِأزْواجِكَ إنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الحَياةَ الدُّنْيا وزِينَتَها فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وأُسَرِّحْكُنَّ سَراحًا جَمِيلًا (٢٨) وإنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ ورَسُولَهُ والدّارَ الآخِرَةَ فَإنَّ اللَّهَ أعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ مِنكُنَّ أجْرًا عَظِيمًا (٢٩)﴾ فَقُلْتُ في هَذا أسْتَأْمِرُ أبَوَيَّ؟ فَإنِّي أُرِيدُ اللَّهَ ورَسُولَهُ والدّارَ الآخِرَةَ. قالَتْ عائشة: ثُمَّ فَعَلَ أزْواجُ النَّبِيِّ ﷺ مِثْلَ ما فَعَلْتُ، فَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ طَلاقًا» قالَ ربيعة وابْنُ شِهابٍ: فاخْتارَتْ واحِدَةٌ مِنهُنَّ نَفْسَها فَذَهَبَتْ وكانَتِ ألْبَتَّةَ. قالَ ابْنُ شِهابٍ: وكانَتْ بَدَوِيَّةً. قالَ عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ: وهي ابنة الضحاك العامرية، رَجَعَتْ إلى أهْلِها، وقالَ ابن حبيب: قَدْ كانَ دَخَلَ بِها. انْتَهى. وَقِيلَ لَمْ يَدْخُلْ بِها، وكانَتْ تَلْتَقِطُ بَعْدَ ذَلِكَ البَعْرَ، وتَقُولُ أنا الشَّقِيَّةُ. واخْتَلَفَ النّاسُ في هَذا التَّخْيِيرِ، في مَوْضِعَيْنِ. أحَدُهُما: في أيِّ شَيْءٍ كانَ؟ والثّانِي: في حُكْمِهِ، فَأمّا الأوَّلُ، فالَّذِي عَلَيْهِ الجُمْهُورُ أنَّهُ كانَ بَيْنَ المُقامِ مَعَهُ والفِراقِ، وذَكَرَ عبد الرزاق في " مُصَنَّفِهِ " عَنِ الحسن، أنَّ اللَّهَ تَعالى إنَّما خَيَّرَهُنَّ بَيْنَ الدُّنْيا والآخِرَةِ، ولَمْ يُخَيِّرْهُنَّ في الطَّلاقِ، وسِياقُ القُرْآنِ، وقَوْلُ عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَرُدُّ قَوْلَهُ، ولا رَيْبَ أنَّهُ سُبْحانَهُ خَيَّرَهُنَّ بَيْنَ اللَّهِ ورَسُولِهِ، والدّارِ الآخِرَةِ وبَيْنَ الحَياةِ الدُّنْيا وزِينَتَها، وجَعَلَ مُوجَبَ اخْتِيارِهِنَّ اللَّهَ ورَسُولَهُ والدّارَ الآخِرَةَ المُقامَ مَعَ رَسُولِهِ، ومُوجَبَ اخْتِيارِهِنَّ الدُّنْيا وزِينَتَها أنْ يُمَتِّعَهُنَّ ويُسَرِّحَهُنَّ سَراحًا جَمِيلًا، وهو الطَّلاقُ بِلا شَكٍّ ولا نِزاعٍ. [كانَ التَّخْيِيرُ بَيْنَ المُقامِ مَعَهُ والفِراقِ] وَأمّا اخْتِلافُهم في حُكْمِهِ، فَفي مَوْضِعَيْنِ. أحَدُهُما: في حُكْمِ اخْتِيارِ الزَّوْجِ. والثّانِي: في حُكْمِ اخْتِيارِ النَّفْسِ، فَأمّا الأوَّلُ، فالَّذِي عَلَيْهِ مُعْظَمُ أصْحابِ النَّبِيِّ ونِساؤُهُ كُلُّهُنَّ، ومُعْظَمُ الأُمَّةِ، أنَّ مَنِ اخْتارَتْ زَوْجَها لَمْ تَطْلُقْ، ولا يَكُونُ التَّخْيِيرُ بِمُجَرَّدِهِ طَلاقًا، صَحَّ ذَلِكَ عَنْ عمر وابْنِ مَسْعُودٍ وابْنِ عَبّاسٍ وعائشة. (قالَتْ عائشة: «خَيَّرَنا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فاخْتَرْناهُ»، فَلَمْ نَعُدَّهُ طَلاقًا، وعَنْ أم سلمة وقَرِيبَةِ أُخْتِها، وعبد الرحمن بن أبي بكر) وَصَحَّ عَنْ علي وزَيْدِ بْنِ ثابِتٍ، وجَماعَةٍ مِنَ الصَّحابَةِ، أنَّها إنِ اخْتارَتْ زَوْجَها فَهي طَلْقَةٌ رَجْعِيَّةٌ، وهو قَوْلُ الحسن، ورِوايَةٌ عَنْ أحمد رَواها عَنْهُ إسْحاقُ بْنُ مَنصُورٍ، قالَ: إنِ اخْتارَتْ زَوْجَها، فَواحِدَةٌ يَمْلِكُ الرَّجْعَةَ، وإنِ اخْتارَتْ نَفْسَها، فَثَلاثٌ، قالَ أبو بكر: انْفَرَدَ بِهَذا إسْحاقُ بْنُ مَنصُورٍ، والعَمَلُ عَلى ما رَواهُ الجَماعَةُ. قالَ صاحِبُ " المُغْنِي ": ووَجْهُ هَذِهِ الرِّوايَةِ أنَّ التَّخْيِيرَ كِنايَةٌ نَوى بِها الطَّلاقَ، فَوَقَعَ بِمُجَرَّدِها كَسائِرِ كِناياتِهِ، وهَذا هو الَّذِي صَرَّحَتْ بِهِ عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها، والحَقُّ مَعَها بِإنْكارِهِ ورَدِّهِ، فَإنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ لَمّا اخْتارَهُ أزْواجُهُ، لَمْ يَقُلْ وقَعَ بِكُنَّ طَلْقَةٌ، ولَمْ يُراجِعْهُنَّ، وهي أعْلَمُ الأُمَّةِ بِشَأْنِ التَّخْيِيرِ، وقَدْ صَحَّ عَنْ (عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها أنَّها قالَتْ: لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ طَلاقًا) وفي لَفْظٍ: (لَمْ نَعُدَّهُ طَلاقًا)، وفي لَفْظٍ: «خَيَّرَنا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، أفَكانَ طَلاقًا»؟ والَّذِي لَحَظَهُ مَن قالَ: إنَّها طَلْقَةٌ رَجْعِيَّةٌ، أنَّ التَّخْيِيرَ تَمْلِيكٌ، ولا تَمْلِكُ المَرْأةُ نَفْسَها إلّا وقَدْ طَلُقَتْ، فالتَّمْلِيكُ مُسْتَلْزِمٌ لِوُقُوعِ الطَّلاقِ، وهَذا مَبْنِيٌّ عَلى مُقَدِّمَتَيْنِ. إحْداهُما: أنَّ التَّخْيِيرَ تَمْلِيكٌ. والثّانِيَةُ أنَّ التَّمْلِيكَ يَسْتَلْزِمُ وُقُوعَ الطَّلاقِ، وكِلا المُقَدِّمَتَيْنِ مَمْنُوعَةٌ، فَلَيْسَ التَّخْيِيرُ بِتَمْلِيكٍ، ولَوْ كانَ تَمْلِيكًا، لَمْ يَسْتَلْزِمْ وُقُوعَ الطَّلاقِ قَبْلَ إيقاعِ مَن مَلَكَهُ، فَإنَّ غايَةَ أمْرِهِ أنْ تَمْلِكَهُ الزَّوْجَةُ، كَما كانَ الزَّوْجُ يَمْلِكُهُ، فَلا يَقَعُ بِدُونِ إيقاعِ مَن مَلَكَهُ، ولَوْ صَحَّ ما ذَكَرُوهُ لَكانَ بائِنًا؛ لِأنَّ الرَّجْعِيَّةَ لا تَمْلِكُ نَفْسَها.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب