الباحث القرآني
ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿وأوْرَثَكم أرْضَهم ودِيارَهم وأمْوالَهم وأرْضًا لَمْ تَطَئُوها وكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا﴾
فِيهِ تَرْتِيبٌ عَلى ما كانَ، فَإنَّ المُؤْمِنِينَ أوَّلًا تَمَلَّكُوا أرْضَهم بِالنُّزُولِ فِيها والِاسْتِيلاءِ عَلَيْها ثُمَّ تَمَلَّكُوا دِيارَهم بِالدُّخُولِ عَلَيْهِمْ وأخْذِ قِلاعِهِمْ ثُمَّ أمْوالِهِمُ الَّتِي كانَتْ في بُيُوتِهِمْ. وقَوْلُهُ: ﴿وأرْضًا لَمْ تَطَئُوها﴾ قِيلَ (p-١٧٨)المُرادُ القِلاعُ، وقِيلَ المُرادُ: الرُّومُ وأرْضُ فارِسَ وقِيلَ كُلُّ ما يُؤْخَذُ إلى يَوْمِ القِيامَةِ: ﴿وكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا﴾ هَذا يُؤَكِّدُ قَوْلَ مَن قالَ: إنَّ المُرادَ مِن قَوْلِهِمْ: ﴿وأرْضًا لَمْ تَطَئُوها﴾ هو ما سَيُؤْخَذُ بَعْدَ بَنِي قُرَيْظَةَ، ووَجْهُهُ هو أنَّ اللَّهَ تَعالى لَمّا مَلَّكَهم تِلْكَ البِلادَ ووَعَدَهم بِغَيْرِها دَفَعَ اسْتِبْعادَ مَن لا يَكُونُ قَوِيَّ الِاتِّكالِ عَلى اللَّهِ تَعالى، وقالَ: ألَيْسَ اللَّهُ مَلَّكَكم هَذِهِ فَهو عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ يُمَلِّكُكم غَيْرَها.
* * *
ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿وأوْرَثَكم أرْضَهم ودِيارَهم وأمْوالَهم وأرْضًا لَمْ تَطَئُوها وكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا﴾ ﴿ياأيُّها النَّبِيُّ قُلْ لِأزْواجِكَ إنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الحَياةَ الدُّنْيا وزِينَتَها فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وأُسَرِّحْكُنَّ سَراحًا جَمِيلًا﴾ ﴿وإنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ ورَسُولَهُ والدّارَ الآخِرَةَ فَإنَّ اللَّهَ أعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ مِنكُنَّ أجْرًا عَظِيمًا﴾
وجْهُ التَّعَلُّقِ هو أنَّ مَكارِمَ الأخْلاقِ مُنْحَصِرَةٌ في شَيْئَيْنِ: التَّعْظِيمُ لِأمْرِ اللَّهِ، والشَّفَقَةُ عَلى خَلْقِ اللَّهِ. وإلى هَذا أشارَ عَلَيْهِ السَّلامُ بِقَوْلِهِ: “ «الصَّلاةَ وما مَلَكَتْ أيْمانُكم» “ ثُمَّ إنَّ اللَّهَ تَعالى لَمّا أرْشَدَ نَبِيَّهُ إلى ما يَتَعَلَّقُ بِجانِبِ التَّعْظِيمِ لِلَّهِ بِقَوْلِهِ: ﴿ياأيُّها النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ﴾ ذَكَرَ ما يَتَعَلَّقُ بِجانِبِ الشَّفَقَةِ وبَدَأ بِالزَّوْجاتِ فَإنَّهُنَّ أوْلى النّاسِ بِالشَّفَقَةِ، ولِهَذا قَدَّمَهُنَّ في النَّفَقَةِ. وفي الآيَةِ مَسائِلُ فِقْهِيَّةٌ مِنها: أنَّ التَّخْيِيرَ هَلْ كانَ واجِبًا عَلى النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلامُ أمْ لا ؟ فَنَقُولُ: التَّخْيِيرُ قَوْلًا كانَ واجِبًا مِن غَيْرِ شَكٍّ لِأنَّهُ إبْلاغُ الرِّسالَةِ؛ لِأنَّ اللَّهَ تَعالى لَمّا قالَ لَهُ قُلْ لَهم صارَ مِنَ الرِّسالَةِ، وأمّا التَّخْيِيرُ مَعْنًى فَمَبْنِيٌّ عَلى أنَّ الأمْرَ لِلْوُجُوبِ أمْ لا ؟ والظّاهِرُ أنَّهُ لِلْوُجُوبِ، ومِنها أنَّ واحِدَةً مِنهُنَّ لَوِ اخْتارَتِ الفِراقَ هَلْ كانَ يَصِيرُ اخْتِيارُها فِراقًا، والظّاهِرُ أنَّهُ لا يَصِيرُ فِراقًا وإنَّما تُبِينُ المُخْتارَةُ نَفْسَها بِإبانَةٍ مِن جِهَةِ النَّبِيِّ ﷺ لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وأُسَرِّحْكُنَّ سَراحًا جَمِيلًا﴾ ومِنها أنَّ واحِدَةً مِنهُنَّ إنِ اخْتارَتْ نَفْسَها وقُلْنا بِأنَّها لا تَبِينُ إلّا بِإنابَةٍ مِن جِهَةِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلامُ، فَهَلْ كانَ يَجِبُ عَلى النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلامُ الطَّلاقُ أمْ لا ؟ الظّاهِرُ نَظَرًا إلى مَنصِبِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلامُ أنَّهُ كانَ يَجِبُ، لِأنَّ الخُلْفَ في الوَعْدِ مِنَ النَّبِيِّ غَيْرُ جائِزٍ بِخِلافٍ واحِدٍ مِنّا، فَإنَّهُ لا يَلْزَمُهُ شَرْعًا الوَفاءُ بِما يَعِدُ.
ومِنها أنَّ المُخْتارَةَ بَعْدَ البَيْنُونَةِ هَلْ كانَتْ تَحْرُمُ عَلى غَيْرِهِ أمْ لا ؟ والظّاهِرُ أنَّها لا تَحْرُمُ، وإلّا لا يَكُونُ التَّخْيِيرُ مُمْكِنًا لَها مِنَ التَّمَتُّعِ بِزِينَةِ الدُّنْيا، ومِنها أنَّ مَنِ اخْتارَتِ اللَّهَ ورَسُولَهُ كانَ يَحْرُمُ عَلى النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ طَلاقُها أمْ لا ؟ الظّاهِرُ الحُرْمَةُ نَظَرًا إلى مَنصِبِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ عَلى مَعْنى أنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلامُ لا يُباشِرُهُ أصْلًا، بِمَعْنى أنَّهُ لَوْ أتى بِهِ لَعُوقِبَ أوْ عُوتِبَ، وفِيها لَطائِفُ لَفْظِيَّةٌ مِنها: تَقْدِيمُ اخْتِيارِ الدُّنْيا، إشارَةً إلى أنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ غَيْرُ مُلْتَفِتٍ إلى جانِبِهِنَّ غايَةَ الِالتِفاتِ وكَيْفَ وهو مَشْغُولٌ بِعِبادَةِ رَبِّهِ. ومِنها قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلامُ: ﴿وأُسَرِّحْكُنَّ سَراحًا جَمِيلًا﴾ إشارَةٌ إلى ما ذَكَرْنا، فَإنَّ السَّراحَ الجَمِيلَ مَعَ التَّأذِّي القَوِيِّ لا يَجْتَمِعُ في العادَةِ، فَعُلِمَ أنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ ما كانَ يَتَأثَّرُ مِنَ اخْتِيارِهِنَّ فِراقَهُ بِدَلِيلِ أنَّ التَّسْرِيحَ الجَمِيلَ مِنهُ.
ومِنها قَوْلُهُ: ﴿وإنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ﴾ إعْلامًا لَهُنَّ بِأنَّ في اخْتِيارِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلامُ اخْتِيارَ اللَّهِ ورَسُولَهُ والدّارَ الآخِرَةَ وهَذِهِ الثَّلاثَةُ هي الدِّينُ، وقَوْلُهُ: ﴿أعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ مِنكُنَّ﴾ أيْ لِمَن عَمِلَ صالِحًا مِنكُنَّ، وقَوْلُهُ: ﴿تُرِدْنَ اللَّهَ ورَسُولَهُ والدّارَ الآخِرَةَ﴾ فِيهِ مَعْنى الإيمانِ، وقَوْلُهُ: ﴿لِلْمُحْسِناتِ﴾ لِبَيانِ الإحْسانِ حَتّى تَكُونَ الآيَةُ في المَعْنى، كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿ومَن يُسْلِمْ وجْهَهُ إلى اللَّهِ وهو مُحْسِنٌ﴾ [لقمان: ٢٢] وقَوْلِهِ تَعالى: ﴿مَن آمَنَ وعَمِلَ صالِحًا﴾ [الكهف: ٨٨] وقَوْلِهِ: ﴿والَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ﴾ [البقرة: ٨٢] والأجْرُ العَظِيمُ الكَبِيرُ في الذّاتِ الحَسَنِ في الصِّفاتِ الباقِي في الأوْقاتِ، وذَلِكَ لِأنَّ العَظِيمَ في الأجْسامِ لا يُطْلَقُ إلّا عَلى الزّائِدِ في الطُّولِ وفي العَرْضِ وفي العُمْقِ حَتّى لَوْ كانَ زائِدًا في الطُّولِ يُقالُ لَهُ: طَوِيلٌ، ولَوْ كانَ زائِدًا في العَرْضِ يُقالُ لَهُ: عَرِيضٌ، وكَذَلِكَ العَمِيقُ، فَإذا وُجِدَتِ (p-١٧٩)الأُمُورُ الثَّلاثَةُ قِيلَ: عَظِيمٌ، فَيُقالُ: جَبَلٌ عَظِيمٌ إذا كانَ عالِيًا مُمْتَدًّا في الجِهاتِ، وإنْ كانَ مُرْتَفِعًا فَحَسْبُ يُقالُ: جَبَلٌ عالٍ. إذا عَرَفْتَ هَذا فَأجْرُ الدُّنْيا في ذاتِهِ قَلِيلٌ وفي صِفاتِهِ غَيْرُ خالٍ عَنْ جِهَةِ قُبْحٍ، لِما في مَأْكُولِهِ مِنَ الضَّرَرِ والثِّقَلِ، وكَذَلِكَ في مَشْرُوبِهِ وغَيْرِهِ مِنَ اللَّذّاتِ، وغَيْرُ دائِمٍ، وأجْرُ الآخِرَةِ كَثِيرٌ خالٍ عَنْ جِهاتِ القُبْحِ دائِمٌ فَهو عَظِيمٌ.
{"ayahs_start":27,"ayahs":["وَأَوۡرَثَكُمۡ أَرۡضَهُمۡ وَدِیَـٰرَهُمۡ وَأَمۡوَ ٰلَهُمۡ وَأَرۡضࣰا لَّمۡ تَطَـُٔوهَاۚ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَیۡءࣲ قَدِیرࣰا","یَـٰۤأَیُّهَا ٱلنَّبِیُّ قُل لِّأَزۡوَ ٰجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدۡنَ ٱلۡحَیَوٰةَ ٱلدُّنۡیَا وَزِینَتَهَا فَتَعَالَیۡنَ أُمَتِّعۡكُنَّ وَأُسَرِّحۡكُنَّ سَرَاحࣰا جَمِیلࣰا","وَإِن كُنتُنَّ تُرِدۡنَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ وَٱلدَّارَ ٱلۡـَٔاخِرَةَ فَإِنَّ ٱللَّهَ أَعَدَّ لِلۡمُحۡسِنَـٰتِ مِنكُنَّ أَجۡرًا عَظِیمࣰا"],"ayah":"یَـٰۤأَیُّهَا ٱلنَّبِیُّ قُل لِّأَزۡوَ ٰجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدۡنَ ٱلۡحَیَوٰةَ ٱلدُّنۡیَا وَزِینَتَهَا فَتَعَالَیۡنَ أُمَتِّعۡكُنَّ وَأُسَرِّحۡكُنَّ سَرَاحࣰا جَمِیلࣰا"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق