﴿قُلۡ إِن تُخۡفُوا۟ مَا فِی صُدُورِكُمۡ أَوۡ تُبۡدُوهُ یَعۡلَمۡهُ ٱللَّهُۗ وَیَعۡلَمُ مَا فِی ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ وَمَا فِی ٱلۡأَرۡضِۗ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَیۡءࣲ قَدِیرࣱ ٢٩ یَوۡمَ تَجِدُ كُلُّ نَفۡسࣲ مَّا عَمِلَتۡ مِنۡ خَیۡرࣲ مُّحۡضَرࣰا وَمَا عَمِلَتۡ مِن سُوۤءࣲ تَوَدُّ لَوۡ أَنَّ بَیۡنَهَا وَبَیۡنَهُۥۤ أَمَدَۢا بَعِیدࣰاۗ وَیُحَذِّرُكُمُ ٱللَّهُ نَفۡسَهُۥۗ وَٱللَّهُ رَءُوفُۢ بِٱلۡعِبَادِ ٣٠ قُلۡ إِن كُنتُمۡ تُحِبُّونَ ٱللَّهَ فَٱتَّبِعُونِی یُحۡبِبۡكُمُ ٱللَّهُ وَیَغۡفِرۡ لَكُمۡ ذُنُوبَكُمۡۚ وَٱللَّهُ غَفُورࣱ رَّحِیمࣱ ٣١ قُلۡ أَطِیعُوا۟ ٱللَّهَ وَٱلرَّسُولَۖ فَإِن تَوَلَّوۡا۟ فَإِنَّ ٱللَّهَ لَا یُحِبُّ ٱلۡكَـٰفِرِینَ ٣٢﴾ [آل عمران ٢٩-٣٢]
﴿قُلْ إنْ تُخْفُوا ما في صُدُورِكم أوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ﴾ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ نَظِيرِ هَذِهِ الآيَةِ في أواخِرِ آيِ البَقَرَةِ، وهُناكَ قُدِّمَ الإبْداءُ عَلى الإخْفاءِ، وهُنا قُدِّمَ الإخْفاءُ عَلى الإبْداءِ، وجَعَلَ مَحَلَّهُما ما في الصُّدُورِ، وأتى جَوابُ الشَّرْطِ قَوْلُهُ:
﴿يَعْلَمْهُ اللَّهُ﴾ وذَلِكَ مِنَ التَّفَنُّنِ في الفَصاحَةِ. والمَفْهُومُ أنَّ البارِيَ تَعالى مُطَّلِعٌ عَلى ما في الضَّمائِرِ، لا يَتَفاوَتُ عِلْمُهُ تَعالى بِخَفاياها، وهو مُرَتَّبٌ عَلى ما فِيها الثَّوابُ والعِقابُ إنْ خَيْرًا فَخَيْرٌ، وإنَّ شرًا فَشَرٌّ. وفي ذَلِكَ تَأْكِيدٌ لِعَدَمِ المُوالاةِ، وتَحْذِيرٌ مِن ذَلِكَ.
﴿ويَعْلَمُ ما في السَّماواتِ وما في الأرْضِ﴾ هَذا دَلِيلٌ عَلى سَعَةِ عِلْمِهِ، وذِكْرِ عُمُومٍ بَعْدَ خُصُوصٍ، فَصارَ عِلْمُهُ بِما في صُدُورِهِمْ مَذْكُورًا مَرَّتَيْنِ عَلى سَبِيلِ التَّوْكِيدِ، أحَدُهُما: بِالخُصُوصِ، والآخَرُ: بِالعُمُومِ، إذْ هم مِمَّنْ في الأرْضِ.
﴿واللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ فِيهِ تَحْذِيرٌ مِمّا يَتَرَتَّبُ عَلى عِلْمِهِ تَعالى بِأحْوالِهِمْ مِنَ المُجازاةِ عَلى ما أكَنَّتْهُ صُدُورُهم. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وهَذا بَيانٌ لِقَوْلِهِ
﴿ويُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ﴾ لِأنَّ نَفْسَهُ، وهي ذاتُهُ المُتَمَيِّزَةُ مِن سائِرِ الذَّواتِ، مُتَّصِفَةٌ بِعِلْمٍ ذاتِيٍّ لا يَخْتَصُّ بِمَعْلُومٍ دُونَ مَعْلُومٍ، فَهي مُتَعَلِّقَةٌ بِالمَعْلُوماتِ كُلِّها وبِقُدْرَةٍ ذاتِيَّةٍ لا تَخْتَصُّ بِمَقْدُورٍ دُونَ مَقْدُورٍ، فَهي قادِرَةٌ عَلى المَقْدُوراتِ كُلِّها، فَكانَ حَقُّها أنْ تُحْذَرَ وتُتَّقى، فَلا يَجْسُرُ أحَدٌ عَلى قَبِيحٍ، ولا يُقَصِّرُ عَنْ واجِبٍ، فَإنَّ ذَلِكَ مُطَّلَعٌ عَلَيْهِ لا مَحالَةَ، فَلاحِقٌ بِهِ العَذابُ انْتَهى. وهو كَلامٌ حَسَنٌ، وفِيهِ التَّصْرِيحُ بِإثْباتِ صِفَةِ العِلْمِ، والقُدْرَةِ لِلَّهِ تَعالى، وهو خِلافُ ما عَلَيْهِ أشْياخُهُ مِنَ المُعْتَزِلَةِ، ومُوافَقَةٌ لِأهْلِ السُّنَّةِ في إثْباتِ الصِّفاتِ.
﴿يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِن خَيْرٍ مُحْضَرًا وما عَمِلَتْ مِن سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أنَّ بَيْنَها وبَيْنَهُ أمَدًا بَعِيدًا﴾ اخْتُلِفَ في العامِلِ في: ”يَوْمَ“، فَقالَ الزَّجّاجُ: العامِلُ فِيهِ: ويُحَذِّرُكم، ورَجَّحَهُ. وقالَ أيْضًا: العامِلُ فِيهِ: المَصِيرُ. وقالَ مَكِّيُّ بْنُ أبِي طالِبٍ: العامِلُ فِيهِ: قَدِيرٌ، وقالَ أيْضًا: فِيهِ مُضْمَرٌ تَقْدِيرُهُ، اذْكُرْ. وقالَ ابْنُ جَرِيرٍ: تَقْدِيرُهُ: اتَّقُوا، ويَضْعُفُ نَصْبُهُ بِقَوْلِهِ: ويُحَذِّرُكم؛ لِطُولِ الفَصْلِ. هَذا مِن جِهَةِ اللَّفْظِ، وأمّا مِن جِهَةِ المَعْنى فَلِأنَّ التَّحْذِيرَ مَوْجُودٌ، واليَوْمَ مَوْعُودٌ، فَلا يَصِحُّ لَهُ العَمَلُ فِيهِ، ويَضْعُفُ انْتِصابُهُ بِالمَصِيرِ؛ لِلْفَصْلِ بَيْنَ المَصْدَرِ ومَعْمُولِهِ، ويَضْعُفُ نَصْبُهُ بِقَدِيرٍ؛ لِأنَّ قُدْرَتَهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ لا تَخْتَصُّ بِيَوْمٍ دُونَ يَوْمٍ، بَلْ هو تَعالى مُتَّصِفٌ بِالقُدْرَةِ دائِمًا. وأمّا نَصْبُهُ بِإضْمارِ فِعْلٍ، فالإضْمارُ عَلى خِلافِ الأصْلِ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ:
﴿يَوْمَ تَجِدُ﴾ مَنصُوبُ: بِـ ”تَوَدُّ“، والضَّمِيرُ في: بَيْنَهُ، لِيَوْمِ القِيامَةِ، حِينَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ خَيْرَها وشَرَّها حاضِرَيْنِ، تَتَمَنّى لَوْ أنَّ بَيْنَها وبَيْنَ ذَلِكَ اليَوْمِ وهو لَهُ أمَدًا بَعِيدًا انْتَهى هَذا التَّخْرِيجُ.
والظّاهِرُ: في بادِئِ النَّظَرِ حُسْنُهُ وتَرْجِيحُهُ، إذْ يَظْهَرُ أنَّهُ لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ مِن مُضْعِفاتِ الأقْوالِ السّابِقَةِ، لَكِنْ في جَوازِ هَذِهِ المَسْألَةِ ونَظائِرِها خِلافٌ بَيْنِ النَّحْوِيِّينَ، وهي: إذا كانَ الفاعِلُ ضَمِيرًا عائِدًا عَلى شَيْءٍ اتَّصَلَ بِالمَعْمُولِ لِلْفِعْلِ، نَحْوَ: غُلامَ هِنْدٍ ضَرَبْتُ، وثَوْبَيْ أخَوَيْكَ يَلْبَسانِ، ومالُ زَيْدٍ أُخِذَ، فَذَهَبَ الكِسائِيُّ، وهِشامٌ، وجُمْهُورُ البَصْرِيِّينَ إلى جَوازِ هَذِهِ المَسائِلِ. ومِنها الآيَةُ عَلى تَخْرِيجِ الزَّمَخْشَرِيِّ، لِأنَّ الفاعِلَ: بِـ ”تَوَدُّ“، هو ضَمِيرٌ عائِدٌ عَلى شَيْءٍ اتَّصَلَ بِمَعْمُولِ: تَوَدُّ، وهو: ”يَوْمَ“، لِأنَّ: ”يَوْمَ“، مُضافٌ إلى: تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ، والتَّقْدِيرُ: يَوْمَ وُجْدانِ كُلِّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِن خَيْرٍ مُحْضَرًا، وما عَمِلَتْ مِن سُوءٍ تَوَدُّ. وذَهَبَ الفَرّاءُ، وأبُو الحَسَنِ الأخْفَشُ، وغَيْرُهُ مِنَ البَصْرِيِّينَ إلى أنَّ هَذِهِ المَسائِلَ وأمْثالَها لا تَجُوزُ؛ لِأنَّ هَذا المَعْمُولَ فَضْلَةٌ، فَيَجُوزُ الِاسْتِغْناءُ عَنْهُ، وعَوْدُ الضَّمِيرِ عَلى ما اتَّصَلَ بِهِ في هَذِهِ المَسائِلِ يُخْرِجُهُ عَنْ ذَلِكَ، لِأنَّهُ يَلْزَمُ ذِكْرُ المَعْمُولِ؛ لِيَعُودَ الضَّمِيرُ الفاعِلُ عَلى ما اتَّصَلَ بِهِ، ولِهَذِهِ العِلَّةِ امْتَنَعَ: زَيْدًا ضَرَبَ، وزَيْدًا ظَنَّ قائِمًا. والصَّحِيحُ جَوازُ ذَلِكَ قالَ الشّاعِرُ:
أجَلُ المَرْءِ يُسْتَحَثُّ ولا يَدْ رِي إذا يَبْتَغِي حُصُولَ الأمانِي
أيِ: المَرْءُ في وقْتِ ابْتِغائِهِ حُصُولَ الأمانِي يَسْتَحِثُّ أجْلَهُ ولا يَشْعُرُ. وتَجِدُ: الظّاهِرُ أنَّها مُتَعَدِّيَةٌ إلى واحِدٍ وهو: ما عَمِلَتْ، فَيَكُونُ بِمَعْنى نَصِيبٍ، ويَكُونُ: مُحْضَرًا، مَنصُوبًا عَلى الحالِ. وقِيلَ: تَجِدُ، هُنا بِمَعْنى: تَعْلَمُ، فَتَتَعَدّى إلى اثْنَيْنِ، ويَنْتَصِبُ: مُحْضَرًا عَلى أنَّهُ مَفْعُولٌ ثانٍ لَها، وما، في: ما عَمِلَتْ، مَوْصُولَةٌ، والعائِدُ عَلَيْها مِنَ الصِّلَةِ مَحْذُوفٌ، ويَجُوزُ أنْ تَكُونَ مَصْدَرِيَّةً أيْ: عَمَلُها، ويُرادُ بِهِ إذْ ذاكَ اسْمُ المَفْعُولِ، أيْ: مَعْمُولُها، فَقَوْلُهُ: ما عَمِلَتْ، هو عَلى حَذْفِ مُضافٍ أيْ: جَزاءَ ما عَمِلَتْ وثَوابَهُ.
قِيلَ: ومَعْنى: مُحْضَرًا عَلى هَذا مُوَفَّرًا غَيْرَ مَبْخُوسٍ. وقِيلَ: تَرى ما عَمِلَتْ مَكْتُوبًا في الصُّحُفِ مُحْضَرًا إلَيْها تَبْشِيرًا لَها؛ لِيَكُونَ الثَّوابُ بَعْدَ مُشاهَدَةِ العَمَلِ. وقَرَأ الجُمْهُورُ: مُحْضَرًا، بِفَتْحِ الضّادِ، اسْمُ مَفْعُولٍ. وقَرَأ عُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ: ”مُحْضِرًا“ بِكَسْرِ الضّادِ، أيْ مُحْضِرًا الجَنَّةَ أوْ مُحْضِرًا مُسْرِعًا بِهِ إلى الجَنَّةِ مِن قَوْلِهِمْ: أحْضَرَ الفَرَسَ، إذا جَرى وأسْرَعَ. وما عَمِلَتْ مِن سُوءٍ، يَجُوزُ أنْ تَكُونَ في مَوْضِعِ نَصْبٍ، مَعْطُوفًا عَلى: ما عَمِلَتْ مِن خَيْرٍ، فَيَكُونُ المَفْعُولُ الثّانِي إنْ كانَ: تَجِدُ، مُتَعَدِّيَةً إلَيْهِما، أوِ الحالُ إنْ كانَ يَتَعَدّى إلى واحِدٍ مَحْذُوفًا، أيْ: وما عَمِلَتْ مِن سُوءٍ مُحْضَرًا. وذَلِكَ نَحْوَ: ظَنَنْتُ زَيْدًا قائِمًا وعَمْرًا، إذا أرَدْتَ: وعَمْرًا قائِمًا، وعَلى هَذا الوَجْهِ يَجُوزُ أنْ يَكُونَ: تَوَدُّ، مُسْتَأْنَفًا. ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ: تَوَدُّ، في مَوْضِعِ الحالِ أيْ: وادَّةٌ تُباعِدُ ما بَيْنَها، وبَيْنَ ما عَمِلَتْ مِن سُوءٍ، فَيَكُونُ الضَّمِيرُ في بَيْنَهُ عائِدًا عَلى ما عَمِلَتْ مِن سُوءٍ، وأبْعَدَ الزَّمَخْشَرِيُّ في عَوْدِهِ عَلى اليَوْمِ، لِأنَّ أحَدَ القِسْمَيْنِ اللَّذَيْنِ أُحْضِرا لَهُ في ذَلِكَ اليَوْمِ هو: الخَيْرُ الَّذِي عَمِلَهُ، ولا يُطْلَبُ تَباعُدُ وقْتِ إحْضارِ الخَيْرِ إلّا بِتَجَوُّزٍ؛ إذا كانَ يَشْتَمِلُ عَلى إحْضارِ الخَيْرِ والشَّرِّ، فَتَوَدُّ تَباعُدُهُ لِتَسْلَمَ مِنَ الشَّرِّ، ودَعْهُ لا يَحْصُلُ لَهُ الخَيْرُ.
والأوْلى عَوْدُهُ عَلى ما عَمِلَتْ مِنَ السُّوءِ، لِأنَّهُ أقْرَبُ مَذْكُورٍ، لِأنَّ المَعْنى أنَّ السُّوءَ يَتَمَنّى في ذَلِكَ اليَوْمِ التَّباعُدَ مِنهُ، وإلى عَطْفِ ما عَمِلَتْ مِن سُوءٍ، عَلى ما عَمِلَتْ مِن خَيْرٍ، وكَوْنِ تَوَدُّ، في مَوْضِعِ الحالِ ذَهَبَ إلَيْهِ الطَّبَرِيُّ، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ: وما عَمِلَتْ مِن سُوءٍ، مَوْصُولَةً في مَوْضِعِ رَفْعٍ بِالِابْتِداءِ. وتَوَدُّ: جُمْلَةٌ في مَوْضِعِ الخَبَرِ: لِما، التَّقْدِيرُ: والَّذِي عَمِلَتْهُ مِن سُوءٍ تَوَدُّ هي لَوْ تَباعَدَ ما بَيْنَها وبَيْنَهُ، وبِهَذا الوَجْهِ بَدَأ الزَّمَخْشَرِيُّ وثَنى بِهِ ابْنُ عَطِيَّةَ، واتَّفَقا عَلى أنَّهُ لا يَجُوزُ أنْ يَكُونَ وما عَمِلَتْ مِن سُوءٍ، شَرْطًا. قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: لِارْتِفاعِ ”تَوَدُّ“ . وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: لِأنَّ الفِعْلَ مُسْتَقْبَلٌ مَرْفُوعٌ يَقْتَضِي جَزْمُهُ، اللَّهُمَّ إلّا أنْ يُقَدَّرَ في الكَلامِ مَحْذُوفٌ، أيْ: فَهي تَوَدُّ، وفي ذَلِكَ ضَعْفٌ انْتَهى كَلامُهُ.
وظَهَرَ مِن كَلامَيْهِما امْتِناعُ الشَّرْطِ لِأجْلِ رَفْعِ: تَوَدُّ، وهَذِهِ المَسْألَةُ كانَ سَألَنِي عَنْها قاضِي القُضاةِ أبُو العَبّاسِ أحْمَدُ بْنُ إبْراهِيمَ بْنِ عَبْدِ الغَنِيِّ السُّرُوجِيُّ الحَنَفِيُّ، رَحِمَهُ اللَّهُ، واسْتَشْكَلَ قَوْلَ الزَّمَخْشَرِيِّ. وقالَ: يَنْبَغِي أنَّ يَجُوزَ؛ غايَةُ ما في هَذا أنْ يَكُونَ مِثْلَ قَوْلِ زُهَيْرِ:
وإنْ أتاهُ خَلِيلٌ يَوْمَ مَسْألَةٍ ∗∗∗ يَقُولُ لا غائِبٌ مالِي ولا حَرِمُ
وكَتَبْتُ جَوابَ ما سَألَنِي عَنْهُ في كِتابِي الكَبِيرِ المُسَمّى (بِالتَّذْكِرَةِ)، ونَذْكُرُ هُنا ما تَمَسُّ إلَيْهِ الحاجَةُ مِن ذَلِكَ بَعْدَ أنْ نُقَدِّمَ ما يَنْبَغِي تَقْدِيمُهُ في هَذِهِ المَسْألَةِ، فَنَقُولُ: إذا كانَ فِعْلُ الشَّرْطِ ماضِيًا، وما بَعْدَهُ مُضارِعٌ تُتِمُّ بِهِ جُمْلَةُ الشَّرْطِ والجَزاءِ، جازَ في ذَلِكَ المُضارِعِ الجَزْمُ، وجازَ فِيهِ الرَّفْعُ، مِثالُ ذَلِكَ: إنْ قامَ زَيْدٌ يَقُومُ عَمْرٌو، وإنْ قامَ زَيْدٌ يَقُمْ عَمْرٌو. فَأمّا الجَزْمُ فَعَلى أنَّهُ جَوابُ الشَّرْطِ، ولا نَعْلَمُ في جَوازِ ذَلِكَ خِلافًا، وأنَّهُ فَصِيحٌ، إلّا ما ذَكَرَهُ صاحِبُ كِتابِ (الإعْرابِ) عَنْ بَعْضِ النَّحْوِيِّينَ أنَّهُ لا يَجِيءُ في الكَلامِ الفَصِيحِ، وإنَّما يَجِيءُ مَعَ كانَ، لِقَوْلِهِ تَعالى
﴿مَن كانَ يُرِيدُ الحَياةَ الدُّنْيا وزِينَتَها نُوَفِّ إلَيْهِمْ أعْمالَهم فِيها﴾ [هود: ١٥] لِأنَّها أصْلُ الأفْعالِ، ولا يَجُوزُ ذَلِكَ مَعَ غَيْرِها. وظاهِرُ كَلامِ سِيبَوَيْهِ، ونَصِّ الجَماعَةِ، أنَّهُ لا يَخْتَصُّ ذَلِكَ بَكانِ، بَلْ سائِرُ الأفْعالِ في ذَلِكَ مِثْلُ كانَ، وأنْشَدَ سِيبَوَيْهِ لِلْفَرَزْدَقِ:
دَسَّتْ رَسُولًا بِأنَّ القَوْمَ إنْ قَدَرُوا ∗∗∗ عَلَيْكَ يَشْفُوا صُدُورًا ذاتِ تَوْغِيرِ
وقالَ أيْضًا:
تَعالَ فَإنْ عاهَدْتَنِي لا تَخُونُنِي ∗∗∗ نَكُنْ مِثْلَ مَن يا ذِئْبُ يَصْطَحِبانِ
وأمّا الرَّفْعُ فَإنَّهُ مَسْمُوعٌ مِن لِسانِ العَرَبِ كَثِيرٌ. وقالَ بَعْضُ أصْحابِنا: وهو أحْسَنُ مِنَ الجَزْمِ، ومِنهُ بَيْتُ زُهَيْرٍ السّابِقُ إنْشادُهُ، وهو قَوْلُهُ أيْضًا:
وإنْ سُلَّ رَيْعانُ الجَمِيعِ مَخافَةً ∗∗∗ يَقُولُ جِهارًا ويْلَكم لا تَنْفِرُوا
وقالَ أبُو صَخْرٍ:
ولا بِالَّذِي إنْ بانَ عَنْهُ حَبِيبُهُ ∗∗∗ يَقُولُ ويُخْفِي الصَّبْرَ: إنِّي لَجازِعُ
وقالَ الآخَرُ:
وإنْ بَعُدُوا لا يَأْمَنُونَ اقْتِرابَهُ ∗∗∗ تَشَوُّفَ أهِلِ الغائِبِ المُتَنَظَرْ
وقالَ الآخَرُ:
وإنْ كانَ لا يُرْضِيكَ حَتّى تَرُدَّنِي ∗∗∗ إلى قُطْرِي لا إخالَكَ راضِيًا
وقالَ الآخَرُ:
إنْ يُسْألُوا الخَيْرَ يُعْطُوهُ وإنْ خُبِّرُوا ∗∗∗ في الجَهْدِ أُدْرِكَ مِنهم طِيبُ أخْبارِ
فَهَذا الرَّفْعُ، كَما رَأيْتَ كَثِيرٌ، ونُصُوصُ الأئِمَّةِ عَلى جَوازِهِ في الكَلامِ، وإنِ اخْتَلَفَتْ تَأْوِيلاتُهم كَما سَنَذْكُرُهُ. وقالَ صاحِبُنا أبُو جَعْفَرٍ أحْمَدُ بْنُ رَشِيدٍ المالِقِيُّ، وهو مُصَنِّفُ (وصْفِ المَبانِي) - رَحِمَهُ اللَّهُ: لا أعْلَمُ مِنهُ شَيْئًا جاءَ في الكَلامِ، وإذا جاءَ فَقِياسُهُ الجَزْمُ لِأنَّهُ أصْلُ العَمَلِ في المُضارِعِ، تَقَدَّمَ الماضِي أوْ تَأخَّرَ، وتَأوَّلَ هَذا المَسْمُوعُ عَلى إضْمارِ الفاءِ، وجَعْلِهِ مِثْلَ قَوْلِ الشّاعِرِ:
إنَّكَ إنْ يُصْرَعْ أخُوكَ تُصْرَعُ
عَلى مَذْهَبِ مَن جَعَلَ الفاءَ مِنهُ مَحْذُوفَةً. وأمّا المُتَقَدِّمُونَ: فاخْتَلَفُوا في تَخْرِيجِ الرَّفْعِ، فَذَهَبَ سِيبَوَيْهِ إلى أنَّ ذَلِكَ عَلى سَبِيلِ التَّقْدِيمِ. وأمّا جَوابُ الشَّرْطِ فَهو مَحْذُوفٌ عِنْدَهُ. وذَهَبُ الكُوفِيُّونَ، وأبُو العَبّاسِ إلى أنَّهُ هو الجَوابُ حُذِفَتْ مِنهُ الفاءُ، وذَهَبَ غَيْرُهُما إلى أنَّهُ لَمّا لَمْ يَظْهَرْ لِأداةِ الشَّرْطِ تَأْثِيرٌ في فِعْلِ الشَّرْطِ، لِكَوْنِهِ ماضِيًا، ضَعُفَ عَنِ العَمَلِ في فِعْلِ الجَوابِ، وهو عِنْدَهُ جَوابٌ لا عَلى إضْمارِ الفاءِ، ولا عَلى نِيَّةِ التَّقْدِيمِ، وهَذا والمَذْهَبُ الَّذِي قَبْلَهُ ضَعِيفانِ.
وتَلَخَّصَ مِن هَذا الَّذِي قُلْناهُ أنَّ رَفْعَ المُضارِعِ لا يَمْنَعُ أنْ يَكُونَ ما قَبْلَهُ شَرْطًا، لَكِنِ امْتَنَعَ أنْ يَكُونَ: وما عَمِلَتْ، شَرْطًا لِعِلَّةٍ أُخْرى، لا لِكَوْنِ: تَوَدُّ مَرْفُوعًا، وذَلِكَ عَلى ما نُقَرِّرُهُ عَلى مَذْهَبِ سِيبَوَيْهِ مِن أنَّ النِّيَّةَ بِالمَرْفُوعِ التَّقْدِيمُ، ويَكُونُ إذْ ذاكَ دَلِيلًا عَلى الجَوابِ لا نَفْسَ الجَوابِ، فَنَقُولُ: إذا كانَ: تَوَدُّ، مَنوِيًّا بِهِ التَّقْدِيمُ أدّى إلى تَقَدُّمِ المُضْمَرِ عَلى ظاهِرِهِ في غَيْرِ الأبْوابِ المُسْتَثْناةِ في العَرَبِيَّةِ. ألا تَرى أنَّ الضَّمِيرَ في قَوْلِهِ: وبَيْنَهُ، عائِدٌ عَلى اسْمِ الشَّرْطِ الَّذِي هو: ما، فَيَصِيرُ التَّقْدِيرُ: تَوَدُّ كُلُّ نَفْسٍ لَوْ أنَّ بَيْنَها وبَيْنَهُ أمَدًا بَعِيدًا ما عَمِلَتْ مِن سُوءٍ ؟ فَيَلْزَمُ مِن هَذا التَّقْدِيرِ تَقَدُّمُ المُضْمَرِ عَلى الظّاهِرِ، وذَلِكَ لا يَجُوزُ.
فَإنْ قُلْتَ: لِمَ لا يَجُوزُ ذَلِكَ، والضَّمِيرُ قَدْ تَأخَّرَ عَنِ اسْمِ الشَّرْطِ ؟ فَإنْ كانَ نِيَّتُهُ التَّقْدِيمَ فَقَدْ حَصَلَ عَوْدُ الضَّمِيرِ عَلى الِاسْمِ الظّاهِرِ قَبْلَهُ، وذَلِكَ نَظِيرُ: ضَرَبَ زَيْدًا غُلامُهُ، فالفاعِلُ رُتْبَتُهُ التَّقْدِيمُ، ووَجَبَ تَأْخِيرُهُ لِصِحَّةِ عَوْدِ الضَّمِيرِ. فالجَوابُ: إنَّ اشْتِمالَ الدَّلِيلِ عَلى ضَمِيرِ اسْمِ الشَّرْطِ يُوجِبُ تَأْخِيرَهُ عَنْهُ لِعَوْدِ الضَّمِيرِ، فَيَلْزَمُ مِن ذَلِكَ اقْتِضاءُ جُمْلَةِ الشَّرْطِ لِجُمْلَةِ الدَّلِيلِ، وجُمْلَةُ الشَّرْطِ إنَّما تَقْتَضِي جُمْلَةَ الجَزاءِ لا جُمْلَةَ دَلِيلِهِ، ألا تَرى أنَّها لَيْسَتْ بِعامِلَةٍ في جُمْلَةِ الدَّلِيلِ، بَلْ إنَّما تَعْمَلُ في جُمْلَةِ الجَزاءِ وجُمْلَةُ الدَّلِيلِ لا مَوْضِعَ لَها مِنَ الإعْرابِ. وإذا كانَ كَذَلِكَ تَدافَعَ الأمْرُ؛ لِأنَّها مِن حَيْثُ هي جُمْلَةُ دَلِيلٍ لا يَقْتَضِيها فِعْلُ الشَّرْطِ، ومِن حَيْثُ عَوْدُ الضَّمِيرِ عَلى اسْمِ الشَّرْطِ اقْتَضَتْها، فَتَدافَعا. وهَذا بِخِلافِ ضَرَبَ زَيْدًا غُلامُهُ، هي جُمْلَةٌ واحِدَةٌ، والفِعْلُ عامِلٌ في الفاعِلِ والمَفْعُولِ مَعًا، وكُلُّ واحِدٍ مِنهُما يَقْتَضِي صاحِبَهُ، ولِذَلِكَ جازَ عِنْدَ بَعْضِهِمْ: ضَرَبَ غُلامُها هِنْدًا، لِاشْتِراكِ الفاعِلِ المُضافِ لِلضَّمِيرِ والمَفْعُولِ الَّذِي عادَ عَلَيْهِ الضَّمِيرُ في العامِلِ، وامْتَنَعَ: ضَرَبَ غُلامُها جارَ هِنْدٍ؛ لِعَدَمِ الِاشْتِراكِ في العامِلِ، فَهَذا فَرْقُ ما بَيْنَ المَسْألَتَيْنِ.
ولا يُحْفَظُ مِن لِسانِ العَرَبِ: أوَدُّ لَوْ أنِّي أُكْرِمُهُ أيًّا ضَرَبَتْ هِنْدٌ؛ لِأنَّهُ يَلْزَمُ مِنهُ تَقْدِيمُ المُضْمَرِ عَلى مُفَسِّرِهِ في غَيْرِ المَواضِعِ الَّتِي ذَكَرَها النَّحْوِيُّونَ، فَلِذَلِكَ لا يَجُوزُ تَأْخِيرُهُ.
وقَرَأ عَبْدُ اللَّهِ، وابْنُ أبِي عَبْلَةَ: مِن سُوءٍ ودَّتْ لَوْ أنَّ، وعَلى هَذِهِ القِراءَةِ يَجُوزُ أنْ تَكُونَ: ما، شَرْطِيَّةً في مَوْضِعِ نَصْبٍ، فَعَمِلَتْ. أوْ في مَوْضِعِ رَفْعٍ عَلى إضْمارِ الهاءِ في: عَمِلَتْ، عَلى مَذْهَبِ الفَرّاءِ، إذْ يُجِيزُ ذَلِكَ في اسْمِ الشَّرْطِ في فَصِيحِ الكَلامِ، وتَكُونُ: ودَّتْ، جَزاءَ الشَّرْطِ. قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: لَكِنَّ الحَمْلَ عَلى الِابْتِداءِ والخَبَرِ أوْقَعُ في المَعْنى؛ لِأنَّهُ حِكايَةُ الكائِنِ في ذَلِكَ اليَوْمِ، وأثْبَتُ لِمُوافَقَةِ قِراءَةِ العامَّةِ انْتَهى.
و: لَوْ، هُنا حَرْفٌ لِما كانَ سَيَقَعُ لِوُقُوعِ غَيْرِهِ، وجَوابُها مَحْذُوفٌ، ومَفْعُولُ: تَوَدُّ، مَحْذُوفٌ، والتَّقْدِيرُ: تَوَدُّ تَباعُدَ ما بَيْنَهُما لَوْ أنَّ بَيْنَها وبَيْنَهُ أمَدًا بَعِيدًا لَسَرَتْ بِذَلِكَ، وهَذا الإعْرابُ والتَّقْدِيرُ هو عَلى المَشْهُورِ في: لَوْ، وأنَّ: وما بَعْدَها في مَوْضِعِ مُبْتَدَأٍ عَلى مَذْهَبِ سِيبَوَيْهِ، وفي مَوْضِعِ فاعِلٍ عَلى مَذْهَبِ أبِي العَبّاسِ. وأمّا عَلى قَوْلِ مَن يَذْهَبُ إلى أنَّ: لَوْ، بِمَعْنى: أنْ، وأنَّها مَصْدَرِيَّةٌ فَهو بَعِيدٌ هُنا؛ لِوِلايَتِها أنَّ، وأنْ مَصْدَرِيَّةٌ، ولا يُباشِرُ حَرْفٌ مَصْدَرِيٌّ حَرْفًا مصدريًّا إلّا قَلِيلًا، كَقَوْلِهِ تَعالى
﴿مِثْلَ ما أنَّكم تَنْطِقُونَ﴾ [الذاريات: ٢٣] والَّذِي يَقْتَضِيهُ المَعْنى أنَّ: لَوْ أنَّ، وما يَلِيها هو مَعْمُولُ: لِتَوَدُّ، في مَوْضِعِ المَفْعُولِ بِهِ. قالَ الحَسَنُ: يُسَرُّ أحَدُهم أنْ لا يَلْقى عَمَلَهُ ذَلِكَ أبَدًا، ذَلِكَ مَعْناهُ. ومَعْنى أمَدًا بَعِيدًا: غايَةٌ طَوِيلَةٌ، وقِيلَ: مِقْدارُ أجْلِهِ، وقِيلَ: قَدْرُ ما بَيْنَ المَشْرِقِ والمَغْرِبِ.
﴿ويُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ﴾ . كَرَّرَ التَّحْذِيرَ لِلتَّوْكِيدِ والتَّحْرِيضِ عَلى الخَوْفِ مِنَ اللَّهِ، بِحَيْثُ يَكُونُونَ مُمْتَثِلِي أمْرَهُ ونَهْيَهُ.
﴿واللَّهُ رَءُوفٌ بِالعِبادِ﴾ لَمّا ذَكَرَ صِفَةَ التَّخْوِيفِ وكَرَّرَها، كانَ ذَلِكَ مُزْعِجًا لِلْقُلُوبِ، ومُنَبِّهًا عَلى إيقاعِ المَحْذُورِ مَعَ ما قَرَنَ بِذَلِكَ مِنَ اطِّلاعِهِ عَلى خَفايا الأعْمالِ وإحْضارِهِ لَها يَوْمَ الحِسابِ، وهَذا هو الِاتِّصافُ بِالعِلْمِ والقُدْرَةِ، اللَّذَيْنِ يَجِبُ أنْ يُحَذِّرَ لِأجْلِهِما، فَذَكَرَ صِفَةَ الرَّحْمَةِ؛ لِيُطْمَعَ في إحْسانِهِ، ولِيُبْسَطَ الرَّجاءُ في أفْضالِهِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ مِن بابِ ما إذا ذَكَرَ ما يَدُلُّ عَلى شِدَّةِ الأمْرِ، ذَكَرَ ما يَدُلُّ عَلى سَعَةِ الرَّحْمَةِ، كَقَوْلِهِ تَعالى:
﴿إنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ العِقابِ وإنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [الأعراف: ١٦٧] وتَكُونُ هَذِهِ الجُمْلَةُ أبْلَغَ في الوَصْفِ مِن جُمْلَةِ التَّخْوِيفِ؛ لِأنَّ جُمْلَةَ التَّخْوِيفِ جاءَتْ بِالفِعْلِ الَّذِي يَقْتَضِي المُطْلَقَ ولَمْ يَتَكَرَّرْ فِيها اسْمُ اللَّهِ، وجاءَ المُحَذَّرُ مَخْصُوصًا بِالمُخاطَبِ فَقَطْ، وهَذِهِ الجُمْلَةُ جاءَتِ اسْمِيَّةً، فَتَكَرَّرَ فِيها اسْمُ اللَّهِ، إذِ الوَصْفُ مُحْتَمِلٌ ضَمِيرَهُ تَعالى وجاءَ المَحْكُومُ بِهِ عَلى وزْنِ ”فَعُولٍ“ المُقْتَضِي لِلْمُبالَغَةِ والتَّكْثِيرِ، وجاءَ بِأخَصِّ ألْفاظِ الرَّحْمَةِ وهو: رَءُوفٌ، وجاءَ مُتَعَلِّقُهُ عامًّا؛ لِيَشْمَلَ المُخاطَبَ وغَيْرَهُ، وبِلَفْظِ العِبادِ؛ لِيَدُلَّ عَلى الإحْسانِ التّامِّ، لِأنَّ المالِكَ مُحْسِنٌ لِعَبْدِهِ وناظِرٌ لَهُ أحْسَنَ نَظَرٍ، إذْ هو مِلْكُهُ.
قالُوا: ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ إشارَةً إلى التَّحْذِيرِ، أيْ: إنَّ تَحْذِيرَهُ نَفْسَهُ، وتَعْرِيفَهُ حالَها مِنَ العِلْمِ والقُدْرَةِ مِنَ الرَّأْفَةِ العَظِيمَةِ بِالعِبادِ؛ لِأنَّهم إذا عَرَفُوهُ حَقَّ المَعْرِفَةِ وحَذَرُوا؛ دَعاهم ذَلِكَ إلى طَلَبِ رِضاهُ، واجْتِنابِ سُخْطِهِ. وعَنِ الحَسَنِ: مِن رَأْفَتِهِ بِهِمْ أنْ حَذَّرَهم نَفْسَهُ، وقالَ الحُوفِيُّ: جَعَلَ تَحْذِيرَهم نَفْسَهُ إيّاهُ، وتَخْوِيفَهم عِقابَهُ رَأْفَةً بِهِمْ، ولَمْ يَجْعَلْهم في عَمًى مِن أمْرِهِمْ. ورُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ هَذا المَعْنى أيْضًا، والكَلامُ مُحْتَمِلٌ لِذَلِكَ، لَكِنَّ الأظْهَرَ الأوَّلُ، وهو أنْ يَكُونَ ابْتِداءُ إعْلامِهِ بِهَذِهِ الصِّفَةِ عَلى سَبِيلِ التَّأْنِيسِ والإطْماعِ؛ لِئَلّا يُفْرِطَ الوَعِيدَ عَلى قَلْبِ المُؤْمِنِ.
﴿قُلْ إنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ ويَغْفِرْ لَكم ذُنُوبَكم واللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ . نَزَلَتْ في اليَهُودِ، قالُوا:
﴿نَحْنُ أبْناءُ اللَّهِ وأحِبّاؤُهُ﴾ [المائدة: ١٨] أوْ: في قَوْلِ المُشْرِكِينَ:
﴿ما نَعْبُدُهم إلّا لِيُقَرِّبُونا إلى اللَّهِ زُلْفى﴾ [الزمر: ٣] قالُوا ذَلِكَ، وقَدْ نَصَبَتْ قُرَيْشٌ أصْنامَها يَسْجُدُونَ لَها، فَقالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ:
«يا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ لَقَدْ خالَفْتُمْ مِلَّةَ أبِيكم إبْراهِيمَ» وكِلا هَذَيْنِ القَوْلَيْنِ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ.
وقالَ الحَسَنُ، وابْنُ جُرَيْجٍ: في قَوْمٍ، قالُوا: إنّا لَنُحِبُّ رَبَّنا حُبًّا شَدِيدًا. وقالَ مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ: في وفْدِ نَجْرانَ حَيْثُ قالُوا: إنّا نُعَظِّمُ المَسِيحَ حُبًّا لِلَّهِ انْتَهى.
ولَفْظُ الآيَةِ يَعُمُّ كُلَّ مَنِ ادَّعى مَحَبَّةَ اللَّهِ، فَمَحَبَّةُ العَبْدِ لِلَّهِ عِبارَةٌ عَنْ مَيْلِ قَلْبِهِ إلى ما حَدَّهُ لَهُ تَعالى وأمَرَهُ بِهِ، والعَمَلُ بِهِ واخْتِصاصُهُ إيّاهُ بِالعِبادَةِ، ومَحَبَّتُهُ تَعالى لِلْعَبْدِ تَقَدَّمَ الكَلامُ عَلَيْها، وهَلْ هي مِن صِفاتِ الذّاتِ أمْ مِن صِفاتِ الفِعْلِ، فَأغْنى عَنْ إعادَتِهِ. رَتَّبَ تَعالى عَلى مَحَبَّتِهِمْ لَهُ، اتِّباعَ رَسُولِهِ مَحَبَّتُهُ لَهم، وذَلِكَ أنَّ الطَّرِيقَ المُوصِلَ إلى رِضاهُ تَعالى إنَّما هو مُسْتَفادٌ مِن نَبِيِّهِ، فَإنَّهُ هو المُبَيِّنُ عَنِ اللَّهِ، إذْ لا يَهْتَدِي العَقْلُ إلى مَعْرِفَةِ أحْكامِ اللَّهِ في العِباداتِ ولا في غَيْرِها، بَلْ رَسُولُهُ ﷺ هو المُوَضِّحُ لِذَلِكَ، فَكانَ اتِّباعُهُ فِيما أتى بِهِ، احْتِماءً لِمَن يُحِبُّ أنْ يَعْمَلَ بِطاعَةِ اللَّهِ تَعالى.
وقَرَأ الجُمْهُورُ: تُحِبُّونَ، ويُحْبِبْكُمُ، مِن أحَبِّ. وقَرَأ أبُو رَجاءٍ العُطارِدِيُّ: تَحِبُّونَ ويَحْبِبْكُمُ، بِفَتْحِ التّاءِ، والياءِ، مِن ”حَبَّ“، وهُما لُغَتانِ، وقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُما. وذَكَرَ الزَّمَخْشَرِيُّ أنَّهُ قُرِئَ: يَحُبُّكُمُ، بِفَتْحِ الياءِ، والإدْغامِ.
وقَرَأ الزُّهْرِيُّ: فاتَّبَعُونِّي، بِتَشْدِيدِ النُّونِ، ألْحَقَ فِعْلَ الأمْرِ نُونَ التَّوْكِيدِ، وأدْغَمَها في نُونِ الوِقايَةِ، ولَمْ يَحْذِفِ الواوَ شَبَهًا: بِـ ”أتَحاجُّونِّي“، وهَذا تَوْجِيهُ شُذُوذٍ. قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أرادَ أنْ يَجْعَلَ لِقَوْلِهِمْ تَصْدِيقًا مِن عَمَلٍ، فَمَنِ ادَّعى مَحَبَّتَهُ، وخالَفَ سُنَّةَ رَسُولِهِ، فَهو كَذّابٌ، وكِتابُ اللَّهِ يُكَذِّبُهُ.
ثُمَّ ذَكَرَ مَن يَذْكُرُ مَحَبَّةَ اللَّهِ، ويُصَفِّقُ بِيَدَيْهِ مَعَ ذِكْرِها، ويَطْرَبُ، ويَنْعَرُ، ويُصَفِّقُ، وقُبِّحَ مَن فِعْلُهُ هَذا، وزَرى عَلى فاعِلِ ذَلِكَ بِما يُوقَفُ عَلَيْهِ في كِتابِهِ.
ورُوِيَ عَنْ أبِي عُمَرَ إدْغامُ راءِ، ويَغْفِرْ لَكم: في لامِ: لَكم، وذَكَرَ ابْنُ عَطِيَّةَ عَنِ الزَّجّاجِ أنَّ ذَلِكَ خَطَأٌ وغَلَطٌ مِمَّنْ رَواها عَنْ أبِي عَمْرٍو، وقَدْ تَقَدَّمَ لَنا الكَلامُ عَلى ذَلِكَ، وذَكَرْنا أنَّ رُؤَساءَ الكُوفَةِ: أبا جَعْفَرٍ الرَّواسِيَّ، والكِسائِيَّ، والفَرّاءَ رَوَوْا ذَلِكَ عَنِ العَرَبِ، ورَأْسانِ مِنَ البَصْرِيِّينَ وهُما: أبُو عَمْرٍو، ويَعْقُوبُ، قَرَءا بِذَلِكَ ورَوَياهُ، فَلا التِفاتَ لِمَن خالَفَ في ذَلِكَ.
﴿قُلْ أطِيعُوا اللَّهَ والرَّسُولَ﴾ هَذا تَوْكِيدٌ لِقَوْلِهِ: فاتَّبِعُونِي، ورُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ، أنَّهُ لَمّا نَزَلَ
﴿قُلْ إنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ﴾ قالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ لِأصْحابِهِ: إنَّ مُحَمَّدًا يَجْعَلُ طاعَتَهُ، كَطاعَةِ اللَّهِ، ويَأْمُرُ بِأنَّ نَحْبَهُ، كَما أحَبَّتِ النَّصارى عِيسى ابْنَ مَرْيَمَ، فَنَزَلَ
﴿قُلْ أطِيعُوا اللَّهَ﴾ .
﴿فَإنْ تَوَلَّوْا فَإنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الكافِرِينَ﴾ يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ: تَوَلَّوْا، ماضِيًا. ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ مُضارِعًا حُذِفَتْ مِنهُ التّاءُ، أيْ: فَإنْ تَتَوَلَّوْا، والمَعْنى: فَإنْ تَوَلَّوْا عَمّا أُمِرُوا بِهِ، مِنِ اتِّباعِهِ، وطاعَتِهِ فَإنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَن كانَ كافِرًا. وجَعَلَ مَن لَمْ يَتْبَعْهُ ولَمْ يُطِعْهُ كافِرًا، وتَقْيِيدُ انْتِفاءِ مَحَبَّةِ اللَّهِ بِهَذا الوَصْفِ الَّذِي هو الكُفْرُ مُشْعِرٌ بِالعَلِيَّةِ، فالمُؤْمِنُ العاصِي لا يَنْدَرِجُ في ذَلِكَ.
قِيلَ: وفي هَذِهِ الآياتِ مِن ضُرُوبِ الفَصاحَةِ، وفُنُونِ البَلاغَةِ. الخِطابُ العامُّ الَّذِي سَبَبُهُ خاصٌّ، في قَوْلِهِ
﴿لا يَتَّخِذِ المُؤْمِنُونَ الكافِرِينَ﴾ [آل عمران: ٢٨] والتَّكْرارُ، في قَوْلِهِ: المُؤْمِنُونَ، مِن دُونِ المُؤْمِنِينَ، وفي قَوْلِهِ:
﴿مِنَ اللَّهِ﴾ [آل عمران: ٢٨]،
﴿ويُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ﴾،
﴿وإلى اللَّهِ﴾ [آل عمران: ٢٨] وفي:
﴿يَعْلَمْهُ اللَّهُ﴾، (ويَعْلَمُ) وفي قَوْلِهِ:
﴿يَعْلَمْهُ اللَّهُ﴾،
﴿واللَّهُ عَلى﴾ وفي قَوْلِهِ:
﴿ما عَمِلَتْ﴾،
﴿وما عَمِلَتْ﴾ وفي قَوْلِهِ:
﴿اللَّهُ نَفْسَهُ﴾، (واللَّهُ) وفي قَوْلِهِ:
﴿ويُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ﴾ [آل عمران: ٢٨]،
﴿واللَّهُ رَءُوفٌ﴾ وفي قَوْلِهِ:
﴿تُحِبُّونَ اللَّهَ﴾،
﴿يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ﴾، (واللَّهُ غَفُورٌ)،
﴿قُلْ أطِيعُوا اللَّهَ﴾،
﴿فَإنَّ اللَّهَ﴾ .
والتَّجْنِيسُ المُماثِلُ في: تُحِبُّونَ، ويُحْبِبْكُمُ، والتَّجْنِيسُ المُغايِرُ، في:
﴿تَتَّقُوا مِنهم تُقاةً﴾ [آل عمران: ٢٨]، وفي يَغْفِرْ لَكم، وغَفُورٌ.
والطِّباقُ في: تُخْفُوا، وتُبْدُوهُ، وفي: مِن خَيْرٍ، ومِن سُوءٍ، وفي: مُحْضَرًا، وبَعِيدًا.
والتَّعْبِيرُ بِالمَحَلِّ عَنِ الشَّيْءِ، في قَوْلِهِ: ما في صُدُورِكم، عَبَّرَ بِها عَنِ القُلُوبِ، قالَ تَعالى:
﴿فَإنَّها لا تَعْمى الأبْصارُ﴾ [الحج: ٤٦] الآيَةَ.
والإشارَةُ في قَوْلِهِ:
﴿ومَن يَفْعَلْ ذَلِكَ﴾ [آل عمران: ٢٨]، الآيَةَ. أشارَ إلى انْسِلاخِهِمْ مِن وِلايَةِ اللَّهِ.
والِاخْتِصاصُ في قَوْلِهِ:
﴿ما في صُدُورِكُمْ﴾ [آل عمران: ١٥٤]، وفي قَوْلِهِ:
﴿ما في السَّماواتِ وما في الأرْضِ﴾والتَّأْنِيسُ بَعْدَ الإيحاشِ، في قَوْلِهِ: واللَّهُ رَءُوفٌ بِالعِبادِ، والحَذْفُ في عِدَّةِ مَواضِعَ تَقَدَّمَ ذِكْرُها في التَّفْسِيرِ.