الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿قُلْ إنْ تُخْفُوا ما في صُدُورِكم أوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ ويَعْلَمُ ما في السَّماواتِ وما في الأرْضِ واللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ اعْلَمْ أنَّهُ تَعالى لَمّا نَهى المُؤْمِنِينَ عَنِ اتِّخاذِ الكافِرِينَ أوْلِياءَ ظاهِرًا وباطِنًا واسْتَثْنى عَنْهُ التَّقِيَّةَ في الظّاهِرِ أتْبَعَ ذَلِكَ بِالوَعِيدِ عَلى أنْ يَصِيرَ الباطِنُ مُوافِقًا لِلظّاهِرِ في وقْتِ التَّقِيَّةِ، وذَلِكَ لِأنَّ مَن أقْدَمَ عِنْدَ التَّقِيَّةِ عَلى إظْهارِ المُوالاةِ، فَقَدْ يَصِيرُ إقْدامُهُ عَلى ذَلِكَ الفِعْلِ بِحَسَبِ الظّاهِرِ سَبَبًا لِحُصُولِ تِلْكَ المُوالاةِ في الباطِنِ، فَلا جَرَمَ بَيَّنَ تَعالى أنَّهُ عالِمٌ بِالبَواطِنِ كَعِلْمِهِ بِالظَّواهِرِ، فَيَعْلَمُ العَبْدُ أنَّهُ لا بُدَّ أنْ يُجازِيَهُ عَلى كُلِّ ما عَزَمَ عَلَيْهِ في قَلْبِهِ، وفي الآيَةِ سُؤالاتٌ: السُّؤالُ الأوَّلُ: هَذِهِ الآيَةُ جُمْلَةٌ شَرْطِيَّةٌ فَقَوْلُهُ: ﴿إنْ تُخْفُوا ما في صُدُورِكم أوْ تُبْدُوهُ﴾ شَرْطٌ وقَوْلُهُ: ﴿يَعْلَمْهُ اللَّهُ﴾ جَزاءٌ ولا شَكَّ أنَّ الجَزاءَ مُتَرَتِّبٌ عَلى الشَّرْطِ مُتَأخِّرٌ عَنْهُ، فَهَذا يَقْتَضِي حُدُوثَ عِلْمِ اللَّهِ تَعالى. والجَوابُ: أنَّ تَعَلُّقَ عِلْمِ اللَّهِ تَعالى بِأنَّهُ حَصَلَ الآنَ لا يَحْصُلُ إلّا عِنْدَ حُصُولِهِ الآنَ، ثُمَّ إنَّ هَذا التَّبَدُّلَ والتَّجَدُّدَ إنَّما وقَعَ في النِّسَبِ والإضافاتِ والتَّعْلِيقاتِ لا في حَقِيقَةِ العِلْمِ، وهَذِهِ المَسْألَةُ لَها غَوْرٌ عَظِيمٌ وهي مَذْكُورَةٌ في عِلْمِ الكَلامِ. السُّؤالُ الثّانِي: مَحَلُّ البَواعِثِ والضَّمائِرِ هو القَلْبُ، فَلِمَ قالَ: ﴿إنْ تُخْفُوا ما في صُدُورِكُمْ﴾ ولَمْ يَقُلْ: إنْ تُخْفُوا ما في قُلُوبِكم ؟ . الجَوابُ: لِأنَّ القَلْبَ في الصَّدْرِ، فَجازَ إقامَةُ الصَّدْرِ مَقامَ القَلْبِ كَما قالَ: ﴿يُوَسْوِسُ في صُدُورِ النّاسِ﴾ [النّاسِ: ٥ ] وقالَ: ﴿فَإنَّها لا تَعْمى الأبْصارُ ولَكِنْ تَعْمى القُلُوبُ الَّتِي في الصُّدُورِ﴾ [الحَجِّ: ٤٦ ] . (p-١٤)السُّؤالُ الثّالِثُ: إنْ كانَتْ هَذِهِ الآيَةُ وعِيدًا عَلى كُلِّ ما يَخْطُرُ بِالبالِ فَهو تَكْلِيفُ ما لا يُطاقُ. الجَوابُ: ذَكَرْنا تَفْصِيلَ هَذا الكَلامِ في آخِرِ سُورَةِ البَقَرَةِ في قَوْلِهِ: ﴿لِلَّهِ ما في السَّماواتِ وما في الأرْضِ وإنْ تُبْدُوا ما في أنْفُسِكم أوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكم بِهِ اللَّهُ﴾ [البَقَرَةِ: ٢٨٤ ] . * * * ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿ويَعْلَمُ ما في السَّماواتِ وما في الأرْضِ واللَّهُ﴾ . واعْلَمْ أنَّهُ رُفِعَ عَلى الِاسْتِئْنافِ، وهو كَقَوْلِهِ: ﴿قاتِلُوهم يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ﴾ [التَّوْبَةِ: ١٤ ] جُزِمَ الأفاعِيلُ، ثُمَّ قالَ: ﴿ويَتُوبُ اللَّهُ﴾ [التَّوْبَةِ: ١٥ ] فَرُفِعَ، ومِثْلُهُ قَوْلُهُ: ﴿فَإنْ يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ ويَمْحُ اللَّهُ الباطِلَ﴾ [الشُّورى: ٢٤ ] رَفْعًا، وفي قَوْلِهِ: ﴿ويَعْلَمُ ما في السَّماواتِ وما في الأرْضِ﴾ غايَةُ التَّحْذِيرِ لِأنَّهُ إذا كانَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِيهِما فَكَيْفَ يَخْفى عَلَيْهِ الضَّمِيرُ. * * * ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿واللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ إتْمامًا لِلتَّحْذِيرِ، وذَلِكَ لِأنَّهُ لَمّا بَيَّنَ أنَّهُ تَعالى عالِمٌ بِكُلِّ المَعْلُوماتِ كانَ عالِمًا بِما في قَلْبِهِ، وكانَ عالِمًا بِمَقادِيرِ اسْتِحْقاقِهِ مِنَ الثَّوابِ والعِقابِ، ثُمَّ بَيَّنَ أنَّهُ قادِرٌ عَلى جَمِيعِ المَقْدُوراتِ، فَكانَ لا مَحالَةَ قادِرًا عَلى إيصالِ حَقِّ كُلِّ أحَدٍ إلَيْهِ، فَيَكُونُ في هَذا تَمامُ الوَعْدِ والوَعِيدِ، والتَّرْغِيبِ والتَّرْهِيبِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب