الباحث القرآني

قَوْلُهُ ﴿لا يَتَّخِذِ﴾ فِيهِ النَّهْيُ لِلْمُؤْمِنِينَ عَنْ مُوالاةِ الكُفّارِ لِسَبَبٍ مِنَ الأسْبابِ، ومِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعالى ﴿لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِن دُونِكُمْ﴾ [آل عمران: ١١٨] الآيَةَ، وقَوْلُهُ: ﴿ومَن يَتَوَلَّهم مِنكم فَإنَّهُ مِنهم﴾ [المائدة: ٥١]، وقَوْلُهُ: ﴿لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ﴾ [المجادلة: ٢٢] الآيَةَ، وقَوْلُهُ: ﴿لا تَتَّخِذُوا اليَهُودَ والنَّصارى أوْلِياءَ﴾ [المائدة: ٥١]، وقَوْلُهُ: ﴿ياأيُّها الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وعَدُوَّكم أوْلِياءَ﴾ [الممتحنة: ١] . وقَوْلُهُ: ﴿مِن دُونِ المُؤْمِنِينَ﴾ في مَحَلِّ الحالِ؛ أيْ: مُتَجاوِزِينَ المُؤْمِنِينَ إلى الكافِرِينَ اسْتِقْلالًا أوِ اشْتِراكًا، والإشارَةُ بِقَوْلِهِ: ﴿ومَن يَفْعَلْ ذَلِكَ﴾ إلى الِاتِّحادِ المَدْلُولِ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ: لا يَتَّخِذِ ومَعْنى قَوْلِهِ: ﴿فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ في شَيْءٍ﴾ أيْ: مِن وِلايَتِهِ في شَيْءٍ مِنَ الأشْياءِ، بَلْ هو مُنْسَلِخٌ عَنْهُ بِكُلِّ حالٍ. قَوْلُهُ: ﴿إلّا أنْ تَتَّقُوا مِنهم تُقاةً﴾ عَلى صِيغَةِ الخِطابِ بِطَرِيقِ الِالتِفاتِ؛ أيْ: إلّا أنْ تَخافُوا مِنهم أمْرًا يَجِبُ اتِّقاؤُهُ وهو اسْتِثْناءٌ مُفَرَّغٌ مِن أعَمِّ الأحْوالِ. وتُقاةٌ مَصْدَرٌ واقِعٌ مَوْقِعَ المَفْعُولِ، وأصْلُها وِقْيَةٌ عَلى وزْنِ فِعْلَةٍ قُلِبَتِ الواوُ تاءً والياءُ ألِفًا، وقَرَأ رَجاءٌ وقَتادَةُ تَقِيَّةً. وفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلى جَوازِ (p-٢١٣)المُوالاةِ لَهم مَعَ الخَوْفِ مِنهم، ولَكِنَّها تَكُونُ ظاهِرًا لا باطِنًا. وخالَفَ في ذَلِكَ قَوْمٌ مِنَ السَّلَفِ، فَقالُوا: لا تَقِيَّةَ بَعْدَ أنْ أعَزَّ اللَّهُ الإسْلامَ. قَوْلُهُ: ﴿ويُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ﴾ أيْ ذاتَهُ المُقَدَّسَةَ، وإطْلاقُ ذَلِكَ عَلَيْهِ سُبْحانَهُ جائِزٌ في المُشاكَلَةِ كَقَوْلِهِ: ﴿تَعْلَمُ ما في نَفْسِي ولا أعْلَمُ ما في نَفْسِكَ﴾ [المائدة: ١١٦] وفي غَيْرِها. وذَهَبَ بَعْضُ المُتَأخِّرِينَ إلى مَنعِ ذَلِكَ إلّا مُشاكَلَةً. وقالَ الزَّجّاجُ: مَعْناهُ ويُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ إيّاهُ، ثُمَّ اسْتَغْنَوْا عَنْ ذَلِكَ بِهَذا وصارَ المُسْتَعْمَلَ. قالَ: وأمّا قَوْلُهُ: ﴿تَعْلَمُ ما في نَفْسِي ولا أعْلَمُ ما في نَفْسِكَ﴾ فَمَعْناهُ تَعْلَمُ ما عِنْدِي وما في حَقِيقَتِي ولا أعْلَمُ ما عِنْدَكَ ولا ما في حَقِيقَتِكَ. وقالَ بَعْضُ أهْلِ العِلْمِ: مَعْناهُ ويُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ عِقابَهُ مِثْلَ ﴿واسْألِ القَرْيَةَ﴾ [يوسف: ٨٢] فَجُعِلَتِ النَّفْسُ في مَوْضِعِ الإضْمارِ، وفي هَذِهِ الآيَةِ تَهْدِيدٌ شَدِيدٌ وتَخْوِيفٌ عَظِيمٌ لِعِبادِهِ أنْ يَتَعَرَّضُوا لِعِقابِهِ بِمُوالاةِ أعْدائِهِ. قَوْلُهُ: ﴿قُلْ إنْ تُخْفُوا ما في صُدُورِكُمْ﴾ الآيَةَ فِيهِ أنَّ كُلَّ ما يُضْمِرُهُ العَبْدُ ويُخْفِيهِ أوْ يُظْهِرُهُ ويُبْدِيهِ فَهو مَعْلُومٌ لِلَّهِ سُبْحانَهُ، لا يَخْفى عَلَيْهِ مِنهُ شَيْءٌ ولا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ ﴿ويَعْلَمُ ما في السَّماواتِ وما في الأرْضِ﴾ مِمّا هو أعَمُّ مِنَ الأُمُورِ الَّتِي يُخْفُونَها أوْ يُبْدُونَها، فَلا يَخْفى عَلَيْهِ ما هو أخَصُّ مِن ذَلِكَ. قَوْلُهُ: ﴿يَوْمَ تَجِدُ﴾ مَنصُوبٌ بِقَوْلِهِ: ﴿ويُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ﴾ وقِيلَ بِمَحْذُوفٍ؛ أيِ: اذْكُرْ، و" مُحْضَرًا " حالٌ، وقَوْلُهُ: ﴿وما عَمِلَتْ مِن سُوءٍ﴾ مَعْطُوفٌ عَلى ما الأُولى؛ أيْ: وتَجِدُ ما عَمِلَتْ مِن سُوءٍ مُحْضَرًا تَوَدُّ لَوْ أنَّ بَيْنَها وبَيْنَهُ أمَدًا بَعِيدًا. فَحَذَفَ مُحْضَرًا لِدَلالَةِ الأوَّلِ عَلَيْهِ، وهَذا إذا كانَ تَجِدُ مِن وِجْدانِ الضّالَّةِ، وأمّا إذا كانَ مِن وجَدَ بِمَعْنى عَلِمَ كانَ مُحْضَرًا هو المَفْعُولُ الثّانِي، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ قَوْلُهُ ﴿وما عَمِلَتْ مِن سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أنَّ بَيْنَها وبَيْنَهُ أمَدًا بَعِيدًا﴾ جُمْلَةً مُسْتَأْنَفَةً، ويَكُونُ ما في ما عَمِلَتْ مُبْتَدَأٌ ويَوَدُّ خَبَرُهُ. والأمَدُ: الغايَةُ، وجَمْعُهُ آمادٌ؛ أيْ: تَوَدُّ لَوْ أنَّ بَيْنَها وبَيْنَ ما عَمِلَتْ مِنَ السُّوءِ أمَدًا بَعِيدًا، وقِيلَ إنَّ قَوْلَهُ: يَوْمَ تَجِدُ مَنصُوبٌ بِقَوْلِهِ: تَوَدُّ والضَّمِيرُ في قَوْلِهِ وبَيْنَهُ لِلْيَوْمِ، وفِيهِ بُعْدٌ، وكَرَّرَ قَوْلَهُ: ﴿ويُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ﴾ لِلتَّأْكِيدِ ولِلِاسْتِحْضارِ لِيَكُونَ هَذا التَّهْدِيدُ العَظِيمُ عَلى ذِكْرٍ مِنهم، وفي قَوْلِهِ: ﴿واللَّهُ رَءُوفٌ بِالعِبادِ﴾ دَلِيلٌ عَلى أنَّ هَذا التَّحْذِيرَ الشَّدِيدَ مُقْتَرِنٌ بِالرَّأْفَةِ مِنهُ سُبْحانَهُ بِعِبادِهِ لُطْفًا بِهِمْ. وما أحْسَنَ ما يُحْكى عَنْ بَعْضِ العَرَبِ أنَّهُ قِيلَ لَهُ: إنَّكَ تَمُوتُ وتُبْعَثُ وتَرْجِعُ إلى اللَّهِ فَقالَ: أتُهَدِّدُونَنِي بِمَن لَمْ أرَ الخَيْرَ قَطُّ إلّا مِنهُ. وقَدْ أخْرَجَ ابْنُ إسْحاقَ وابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ قالَ: كانَ الحَجّاجُ بْنُ عَمْرٍو حَلِيفَ كَعْبِ بْنِ الأشْرَفِ وابْنِ أبِي الحَقِيقِ وقَيْسِ بْنِ زَيْدٍ قَدْ بَطَّنُوا بِنَفَرٍ مِنَ الأنْصارِ لِيَفْتِنُوهم عَنْ دِينِهِمْ، فَقالَ رِفاعَةُ بْنُ المُنْذِرِ وعَبْدُ اللَّهِ بْنُ جُبَيْرٍ وسَعْدُ بْنُ خَثْمَةَ لِأُولَئِكَ النَّفَرِ: فَأنْزَلَ اللَّهُ فِيهِمْ ﴿لا يَتَّخِذِ المُؤْمِنُونَ الكافِرِينَ﴾ إلى قَوْلِهِ: ﴿واللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ . وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ المُنْذِرِ وابْنُ أبِي حاتِمٍ مِن طُرُقٍ عَنْهُ قالَ: نَهى اللَّهُ المُؤْمِنِينَ أنْ يُلاطِفُوا الكُفّارَ ويَتَّخِذُوهم ولِيجَةً مِن دُونِ المُؤْمِنِينَ، إلّا أنْ يَكُونَ الكُفّارُ عَلَيْهِمْ ظاهِرِينَ فَيُظْهِرُونَ لَهُمُ اللُّطْفَ ويُخالِفُونَهم في الدِّينِ، وذَلِكَ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿إلّا أنْ تَتَّقُوا مِنهم تُقاةً﴾ . وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنِ السُّدِّيِّ ﴿ومَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ في شَيْءٍ﴾ فَقَدْ بَرِئَ اللَّهُ مِنهُ. وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ أبِي حاتِمٍ مِن طَرِيقِ العَوْفِيِّ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ في قَوْلِهِ: ﴿إلّا أنْ تَتَّقُوا مِنهم تُقاةً﴾ قالَ: التَّقِيَّةُ بِاللِّسانِ مَن حُمِلَ عَلى أمْرٍ يَتَكَلَّمُ بِهِ، وهو مَعْصِيَةُ اللَّهِ فَيَتَكَلَّمُ بِهِ مَخافَةَ النّاسِ وقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإيمانِ فَإنَّ ذَلِكَ لا يَضُرُّهُ، إنَّما التَّقِيَّةُ بِاللِّسانِ. وأخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ المُنْذِرِ والحاكِمُ وصَحَّحَهُ والبَيْهَقِيُّ في سُنَنِهِ عَنْهُ في الآيَةِ قالَ: التُّقاةُ التَّكَلُّمُ بِاللِّسانِ والقَلْبُ مُطْمَئِنٌّ بِالإيمانِ، ولا يَبْسُطُ يَدَهُ فَيَقْتُلُ، ولا إلى إثْمٍ، فَإنَّهُ لا عُذْرَ لَهُ. وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنْ أبِي العالِيَةِ في الآيَةِ قالَ: التَّقِيَّةُ بِاللِّسانِ، ولَيْسَ بِالعَمَلِ. وأخْرَجَ عَبْدُ الرَّزّاقِ وعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنْ قَتادَةَ ﴿إلّا أنْ تَتَّقُوا مِنهم تُقاةً﴾ قالَ: إلّا أنْ يَكُونَ بَيْنَكَ وبَيْنَهُ قَرابَةٌ فَتَصِلُهُ لِذَلِكَ. وأخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ والبُخارِيُّ عَنِ الحَسَنِ قالَ: التَّقِيَّةُ جائِزَةٌ إلى يَوْمِ القِيامَةِ. وحَكى البُخارِيُّ عَنْ أبِي الدَّرْداءِ أنَّهُ قالَ: إنّا نَبَشُّ في وُجُوهِ أقْوامٍ وقُلُوبُنا تَلْعَنُهم، ويَدُلُّ عَلى جَوازِ التَّقِيَّةِ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿إلّا مَن أُكْرِهَ وقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإيمانِ ولَكِنْ مَن شَرَحَ بِالكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ ولَهم عَذابٌ عَظِيمٌ﴾ [النحل: ١٠٦] ومِنَ القائِلِينَ بِجَوازِ التَّقِيَّةِ بِاللِّسانِ أبُو الشَّعْثاءِ والضَّحّاكُ والرَّبِيعُ بْنُ أنَسٍ. وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنِ السُّدِّيِّ في قَوْلِهِ ﴿قُلْ إنْ تُخْفُوا﴾ الآيَةَ قالَ: أخْبَرَهم أنَّهُ يَعْلَمُ ما أسَرُّوا وما أعْلَنُوا. وأخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنْ قَتادَةَ في قَوْلِهِ مُحْضَرًا، يَقُولُ: مُوَفَّرًا. وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنِ الحَسَنِ في الآيَةِ قالَ: يَسُرُّ أحَدُكم أنْ لا يَلْقى عَمَلَهُ ذَلِكَ أبَدًا، يَكُونُ ذَلِكَ مُناهُ. وأمّا في الدُّنْيا فَقَدْ كانَتْ خَطِيئَتُهُ يَسْتَلِذِّها. وأخْرَجا أيْضًا عَنِ السُّدِّيِّ ﴿أمَدًا بَعِيدًا﴾ قالَ: مَكانًا بَعِيدًا. وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ أمَدًا قالَ: أجَلًا. وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ المُنْذِرِ وابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنِ الحَسَنِ في قَوْلِهِ ﴿ويُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ واللَّهُ رَءُوفٌ بِالعِبادِ﴾ قالَ: مِن رَأْفَتِهِ بِهِمْ حَذَّرَهم نَفْسَهُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب