الباحث القرآني

﴿فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا﴾: ظاهِرُهُ انْقِسامُهم إلى ظالِمِينَ وغَيْرِ ظالِمِينَ، وأنَّ الظّالِمِينَ هُمُ الَّذِينَ بَدَّلُوا، فَإنْ كانَ كُلُّهم بَدَّلُوا، كانَ ذَلِكَ مِن وضْعِ الظّاهِرِ مَوْضِعَ المُضْمَرِ إشْعارًا بِالعِلَّةِ، وكَأنَّهُ قِيلَ: فَبَدَّلُوا، لَكِنَّهُ أظْهَرَهُ تَنْبِيهًا عَلى عِلَّةِ التَّبْدِيلِ، وهو الظُّلْمُ، أيْ لَوْلا ظُلْمُهم ما بَدَّلُوا، والمُبْدَلُ بِهِ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا بِقَوْلِهِمْ حِطَّةً ﴿قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ﴾: ولَمّا كانَ مَحْذُوفًا ناسَبَ إضافَةُ (غَيْرَ) إلى الِاسْمِ الظّاهِرِ بَعْدَها. والَّذِي قِيلَ لَهم هو أنْ يَقُولُوا حِطَّةٌ، فَلَوْ لَمْ يُحْذَفْ لَكانَ وجْهُ الكَلامِ فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا بِقَوْلِهِمْ حِطَّةً قَوْلًا غَيْرَهُ، لَكِنَّهُ لَمّا حُذِفَ أظْهَرَ مُضافًا إلَيْهِ (غَيْرَ) لِيَدُلَّ عَلى أنَّ المَحْذُوفَ هو هَذا المُظْهَرُ، وهو الَّذِي قِيلَ لَهم. وهَذا التَّقْدِيرُ الَّذِي قَدَّرْناهُ هو عَلى وضْعِ بَدَلٍ إذِ المَجْرُورُ هو الزّائِلُ، والمَنصُوبُ هو الحاصِلُ. واخْتَلَفَ المُفَسِّرُونَ في القَوْلِ الَّذِي قالُوهُ بَدَلَ أنْ يَقُولُوا حِطَّةٌ، فَقالَ ابْنُ عَبّاسٍ وعِكْرِمَةُ ومُجاهِدٌ ووَهْبٌ وابْنُ زَيْدٍ: حِنْطَةٌ، وقالَ السُّدِّيُّ عَنْ أشْياخِهِ: حِنْطَةٌ حَمْراءُ، وقِيلَ: حِنْطَةٌ بَيْضاءُ مَثْقُوبَةٌ فِيها شَعْرَةٌ سَوْداءُ، وقالَ أبُو صالِحٍ: سُنْبُلَةٌ، وقالَ السُّدِّيُّ ومُجاهِدٌ أيْضًا: هَطا شمهاثا، وقِيلَ: حَطى شمعاثا، ومَعْناها في هَذَيْنِ القَوْلَيْنِ: حِنْطَةٌ حَمْراءُ، وقِيلَ: حِنْطَةٌ بَيْضاءُ مَثْقُوبَةٌ فِيها شَعْرَةٌ. وقِيلَ: حَبَّةٌ في شَعِيرَةٍ، وقالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: حِنْطَةٌ حَمْراءُ فِيها شَعِيرٌ، وقِيلَ: حِنْطَةٌ في شَعِيرٍ، رَواهُ ابْنُ عَبّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ، ﷺ، وقِيلَ: حَبَّةُ حِنْطَةٍ مَقْلُوَّةٍ في شَعْرَةٍ، وقِيلَ: تَكَلَّمُوا بِكَلامِ النِّبَطِيَّةِ عَلى جِهَةِ الِاسْتِهْزاءِ والِاسْتِخْفافِ. وقِيلَ: إنَّهم غَيَّرُوا ما شُرِعَ لَهم ولَمْ يَعْمَلُوا بِما أنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ. والَّذِي ثَبَتَ في صَحِيحِ البُخارِيِّ ومُسْلِمٍ أنَّ رَسُولَ اللَّهِ (p-٢٢٥)ﷺ، فَسَّرَ ذَلِكَ بِأنَّهم قالُوا: حَبَّةٌ في شَعْرَةٍ، فَوَجَبَ المَصِيرُ إلى هَذا القَوْلِ واطِّراحُ تِلْكَ الأقْوالِ، ولَوْ صَحَّ شَيْءٌ مِنَ الأقْوالِ السّابِقَةِ لَحُمِلَ اخْتِلافُ الألْفاظِ عَلى اخْتِلافِ القائِلِينَ، فَيَكُونُ بَعْضُهم قالَ كَذا، وبَعْضُهم قالَ كَذا، فَلا يَكُونُ فِيها تَضادٌّ. ومَعْنى الآيَةِ: أنَّهم وضَعُوا مَكانَ ما أُمِرُوا بِهِ مِنَ التَّوْبَةِ والِاسْتِغْفارِ قَوْلًا مُغايِرًا لَهُ مُشْعِرًا بِاسْتِهْزائِهِمْ بِما أُمِرُوا بِهِ، والإعْراضِ عَمّا يَكُونُ عَنْهُ غُفْرانُ خَطِيئاتِهِمْ. كُلُّ ذَلِكَ عَدَمُ مُبالاةٍ بِأوامِرِ اللَّهِ، فاسْتَحَقُّوا بِذَلِكَ النَّكالَ. ﴿فَأنْزَلْنا عَلى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا﴾: كَرَّرَ الظّاهِرَ السّابِقَ زِيادَةً في تَقْبِيحِ حالِهِمْ وإشْعارًا بِعِلِّيَّةِ نُزُولِ الرِّجْزِ. وقَدْ أُضْمِرَ ذَلِكَ في الأعْرافِ فَقالَ: ﴿فَأرْسَلْنا عَلَيْهِمْ﴾ [الأعراف: ١٦٢] لِأنَّ المُضْمَرَ هو المُظْهَرُ. وقَرَأ ابْنُ مُحَيْصِنٍ: رُجْزًا بِضَمِّ الرّاءِ، وقَدْ تَقَدَّمَ أنَّها لُغَةٌ في الرِّجْزِ. واخْتَلَفُوا في الرِّجْزِ هُنا، فَقالَ أبُو العالِيَةِ: هو غَضَبُ اللَّهِ تَعالى، وقالَ ابْنُ زَيْدٍ: طاعُونٌ أهْلَكَ مِنهم في ساعَةٍ سَبْعِينَ ألْفًا، وقالَ وهْبٌ: طاعُونٌ عُذِّبُوا بِهِ أرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ ماتُوا بَعْدَ ذَلِكَ، وقالَ ابْنُ جُبَيْرٍ: ثَلْجٌ هَلَكَ بِهِ مِنهم سَبْعُونَ ألْفًا، وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ: ظُلْمَةٌ ومَوْتٌ ماتَ مِنهم في ساعَةٍ أرْبَعَةٌ وعِشْرُونَ ألْفًا وهَلَكَ سَبْعُونَ ألْفًا عُقُوبَةً. والَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ القُرْآنُ أنَّهُ أُنْزِلَ عَلَيْهِمْ عَذابٌ ولَمْ يُبَيَّنْ نَوْعُهُ، إذْ لا كَبِيرَ فائِدَةٍ في تَعْلِيقِ النَّوْعِ. ﴿مِنَ السَّماءِ﴾: إنْ فُسِّرَ الرِّجْزُ بِالثَّلْجِ كانَ كَوْنُهُ مِنَ السَّماءِ ظاهِرًا، وإنْ فُسِّرَ بِغَيْرِهِ فَهو إشارَةٌ إلى الجِهَةِ الَّتِي يَكُونُ مِنها القَضاءُ عَلَيْهِمْ، أوْ مُبالَغَةٌ في عُلُوِّهِ بِالقَهْرِ والِاسْتِيلاءِ. (بِما كانُوا)، ما: مَصْدَرِيَّةٌ، التَّقْدِيرُ: بِكَوْنِهِمْ. (يَفْسُقُونَ) . وأجازَ بَعْضُهم أنْ تَكُونَ بِمَعْنى الَّذِي، وهو بَعِيدٌ. وقَرَأالنَّخَعِيُّ وابْنُ وثّابٍ وغَيْرُهُما بِكَسْرِ السِّينِ، وهي لُغَةٌ. قالَ أبُو مُسْلِمٍ: هَذا الفِسْقُ هو الظُّلْمُ المَذْكُورُ في قَوْلِهِ: ﴿عَلى الَّذِينَ ظَلَمُوا﴾ . وفائِدَةُ التَّكْرارِ التَّأْكِيدُ؛ لِأنَّ الوَصْفَ دالٌّ عَلى العِلِّيَّةِ، فالظّاهِرُ أنَّ التَّبْدِيلَ سَبَبُهُ الظُّلْمُ، وأنَّ إنْزالَ الرِّجْزِ سَبَبُهُ الظُّلْمُ أيْضًا. وقالَ غَيْرُ أبِي مُسْلِمٍ: لَيْسَ مُكَرَّرَ الوَجْهَيْنِ، أحَدُهُما: أنَّ الظُّلْمَ قَدْ يَكُونُ مِنَ الصَّغائِرِ، ﴿رَبَّنا ظَلَمْنا﴾ [الأعراف: ٢٣] ومِنَ الكَبائِرِ: ﴿إنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾ [لقمان: ١٣] والفِسْقُ لا يَكُونُ إلّا مِنَ الكَبائِرِ. فَلَمّا وصَفَهم بِالظُّلْمِ أوَّلًا وصَفَهم بِالفِسْقِ الَّذِي هو لا بُدَّ أنْ يَكُونَ مِنَ الكَبائِرِ. والثّانِي: أنَّهُ يُحْتَمَلُ أنَّهُمُ اسْتَحَقُّوا اسْمَ الظُّلْمِ بِسَبَبِ ذَلِكَ التَّبْدِيلِ ونُزُولِ الرِّجْزِ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ، لا بِسَبَبِ ذَلِكَ التَّبْدِيلِ بَلْ بِالفِسْقِ الَّذِي فَعَلُوهُ قَبْلَ ذَلِكَ التَّبْدِيلِ، وعَلى هَذا يَزُولُ التَّكْرارُ. انْتَهى. وقَدِ احْتَجَّ بَعْضُ النّاسِ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا﴾، وتَرْتِيبُ العَذابِ عَلى هَذا التَّبْدِيلِ عَلى أنَّ ما ورَدَ بِهِ التَّوْقِيفُ مِنَ الأقْوالِ لا يَجُوزُ تَغْيِيرُهُ ولا تَبْدِيلُهُ بِلَفْظٍ آخَرَ. وقالَ قَوْمٌ: يَجُوزُ ذَلِكَ إذا كانَتِ الكَلِمَةُ تَسُدُّ مَسَدَّها، وعَلى هَذا جَرى الخِلافُ في قِراءَةِ القُرْآنِ بِالمَعْنى، وفي تَكْبِيرَةِ الإحْرامِ، وفي تَجْوِيزِ النِّكاحِ بِلَفْظِ الهِبَةِ والبَيْعِ والتَّمْلِيكِ، وفي نَقْلِ الحَدِيثِ بِالمَعْنى. وذَكَرُوا أنَّ في الآيَةِ سُؤالاتٍ، الأوَّلُ: قَوْلُهُ هُنا (وإذْ قُلْنا)، وفي الأعْرافِ: ﴿وإذْ قِيلَ﴾ [الأعراف: ١٦١] . وأُجِيبَ بِأنَّهُ صُرِّحَ بِالفاعِلِ في البَقَرَةِ لِإزالَةِ الإبْهامِ، وحُذِفَ في الأعْرافِ لِلْعِلْمِ بِهِ في سُورَةِ البَقَرَةِ. الثّانِي: قالَ هُنا: ادْخُلُوا، وهُناكَ اسْكُنُوا. وأُجِيبَ بِأنَّ الدُّخُولَ مُقَدَّمٌ عَلى السُّكْنى، فَذَكَرَ الدُّخُولَ في السُّورَةِ المُتَقَدِّمَةِ. والسُّكْنى في المُتَأخِّرَةِ. الثّالِثُ: هُنا خَطاياكم، وهُناكَ: خَطِيئاتِكم. وأُجِيبَ بِأنَّ الخَطايا جَمْعُ كَثْرَةٍ، فَناسَبَ حَيْثُ قَرَنَ بِهِ ما يَلِيقُ بِجُودِهِ، وهو غُفْرانُ الكَثِيرِ. والخَطِيئاتُ جَمْعُ قِلَّةٍ، لَمّا لَمْ يُضِفْ ذَلِكَ إلى نَفْسِهِ. الرّابِعُ: ذُكِرَ هُنا (رَغَدًا) وهُناكَ حُذِفَ. وأُجِيبَ بِالجَوابِ قَبْلُ. الخامِسُ: هُنا قُدِّمَ دُخُولَ البابِ عَلى القَوْلِ، وهُناكَ عُكِسَ. وأُجِيبَ بِأنَّ الواوَ لِلْجَمْعِ والمُخاطَبُونَ بِهَذا مُذْنِبُونَ، فاشْتِغالُهُ بِحَطِّ الذَّنْبِ مُقَدَّمٌ عَلى اشْتِغالِهِ بِالعِبادَةِ، فَكُلِّفُوا بِقَوْلِ حِطَّةٍ أوَّلًا، ثُمَّ بِالدُّخُولِ. وغَيْرُ مُذْنِبِينَ، فاشْتِغالُهُ أوَّلًا بِالعِبادَةِ ثُمَّ بِذِكْرِ التَّوْبَةِ ثانِيًا عَلى سَبِيلِ هَضْمِ النَّفْسِ وإزالَةِ العَجَبِ، فَلَمّا احْتَمَلَ (p-٢٢٦)الِانْقِسامَ ذُكِرَ حُكْمُ كُلِّ واحِدٍ مِنهُما في سُورَةٍ بِأيِّهِما بَدَأ. السّادِسُ: إثْباتُ الواوِ في (وسَنَزِيدُ) هُنا، وحَذْفُها هُناكَ. وأُجِيبَ بِأنَّهُ لَمّا تَقَدَّمَ أمْرانِ كانَ المَجِيءُ بِالواوِ مُؤْذِنًا بِأنَّ مَجْمُوعَ الغُفْرانِ والزِّيادَةِ جَزاءٌ واحِدٌ لِمَجْمُوعِ الأمْرَيْنِ، وحَيْثُ تُرِكَتْ أفادَ تَوَزُّعَ كُلِّ واحِدٍ عَلى كُلِّ واحِدٍ مِنَ الأمْرَيْنِ، فالغُفْرانُ في مُقابَلَةِ القَوْلِ، والزِّيادَةُ في مُقابَلَةِ ادْخُلُوا. السّابِعُ: لَمْ يَذْكُرْ هاهُنا (مِنهم) وذَكَرَ هُناكَ. وأُجِيبَ بِأنَّ أوَّلَ القِصَّةِ في الأعْرافِ مَبْنِيٌّ عَلى التَّخْصِيصِ بِلَفْظِ (مِن) قالَ: ﴿ومِن قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ﴾ [الأعراف: ١٥٩]، فَذَكَرَ لَفْظَ (مِن) آخِرًا لِيُطابِقَ آخِرُهُ أوَّلَهُ، وهُنا لَمْ تُبْنَ القِصَّةُ عَلى التَّخْصِيصِ. الثّامِنُ: هُنا (فَأنْزَلْنا) وهُناكَ: (فَأرْسَلْنا) وأُجِيبَ بِأنَّ الإنْزالَ يُفِيدُ حُدُوثَهُ في أوَّلِ الأمْرِ، والإرْسالَ يُفِيدُ تَسَلُّطَهُ عَلَيْهِمْ واسْتِئْصالَهم بِالكُلِّيَّةِ، وهَذا إنَّما يَحْدُثُ بِالآخِرِ. التّاسِعُ: هُنا: يَفْسُقُونَ، وهُناكَ: يَظْلِمُونَ. وأُجِيبَ بِأنَّهُ لَمّا بَيَّنَ هُنا كَوْنَ ذَلِكَ الظُّلْمِ فِسْقًا اكْتَفى بِذِكْرِ الظُّلْمِ في سُورَةِ الأعْرافِ لِأجْلِ ما تَقَدَّمَ مِنَ البَيانِ هُنا. قالَ بَعْضُ النّاسِ: بَنُو إسْرائِيلَ خالَفُوا اللَّهَ في قَوْلٍ وفِعْلٍ، وأخْبَرَ تَعالى بِالمُجازاةِ عَلى المُخالَفَةِ بِالقَوْلِ دُونَ الفِعْلِ، وهو امْتِناعُهم عَنِ الدُّخُولِ بِصِفَةِ السُّجُودِ. وأجابَ بِأنَّ الفِعْلَ لا يَجِبُ إلّا بِأمْرٍ، والأمْرُ قَوْلٌ فَحَصَلَ بِالمُجازاةِ عَنِ القَوْلِ المُجازاةُ بِالأمْرَيْنِ جَمِيعًا، والجَزاءُ هُنا إنْ كانَ قَدْ وقَعَ عَلى هَذِهِ المُخالَفَةِ الخاصَّةِ، فَيَفْسُقُونَ يَحْتَمِلُ الحالَ، وإنْ كانَ قَدْ وقَعَ عَلى ما مَضى مِنَ المُخالَفاتِ الَّتِي فَسَقُوا بِها، فَهو مُضارِعٌ وقَعَ مَوْضِعَ الماضِي، وهو كَثِيرٌ في القُرْآنِ وفَصِيحِ الكَلامِ. ﴿وإذِ اسْتَسْقى مُوسى لِقَوْمِهِ﴾ [البقرة: ٦٠]: هَذا هو الإنْعامُ التّاسِعُ، وهو جامِعٌ لِنِعَمِ الدُّنْيا والدِّينِ. أمّا في الدُّنْيا فَلِأنَّهُ أزالَ عَنْهُمُ الحاجَةَ الشَّدِيدَةَ إلى الماءِ، ولَوْلا هو لَهَلَكُوا في التِّيهِ، وهَذا أبْلَغُ مِنَ الماءِ المُعْتادِ في الأنْعامِ لِأنَّهم في مَفازَةٍ مُنْقَطِعَةٍ. وأمّا في الدِّينِ فَلِأنَّهُ مَن أظْهَرِ الدَّلائِلِ عَلى وُجُودِ الصّانِعِ وقُدْرَتِهِ وعِلْمِهِ، وعَلى صِدْقِ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ، والِاسْتِسْقاءُ طَلَبُ الماءِ عِنْدَ عَدَمِهِ وقِلَّتِهِ. وقِيلَ: مَفْعُولُ اسْتَسْقى مَحْذُوفٌ، أيِ اسْتَسْقى مُوسى رَبَّهُ، فَيَكُونُ المُسْتَسْقى مِنهُ هو المَحْذُوفُ، وقَدْ تَعَدّى إلَيْهِ الفِعْلُ كَما تَعَدّى إلَيْهِ في قَوْلِهِ: ﴿إذِ اسْتَسْقاهُ قَوْمُهُ﴾ [الأعراف: ١٦٠]، أيْ طَلَبُوا مِنهُ السُّقْيا. وقالَ بَعْضُ النّاسِ: وحَذْفُ المَفْعُولِ تَقْدِيرُهُ اسْتَسْقى ماءً، فَعَلى هَذا القَوْلِ يَكُونُ المَحْذُوفُ هو المُسْتَسْقى، ويَكُونُ الفِعْلُ قَدْ تَعَدّى إلَيْهِ كَما تَعَدّى إلَيْهِ في قَوْلِهِ: ؎وأبْيَضُ يُسْتَسْقى الغَمامُ بِوَجْهِهِ ويَحْتاجُ إثْباتُ تَعَدِّيهِ إلى اثْنَيْنِ إلى شاهِدٍ مِن كَلامِ العَرَبِ، كانَ يُسْمَعُ مِن كَلامِهِمْ: اسْتُسْقى زَيْدٌ وبِهِ الماءَ، وقَدْ ثَبَتَ تَعَدِّيهِ مَرَّةً إلى المُسْتَسْقى مِنهُ ومَرَّةً إلى المُسْتَسْقى، فَيَحْتاجُ تَعَدِّيهِ إلَيْهِما إلى ثَبْتٍ مِن لِسانِ العَرَبِ. وذَكَرَ اللَّهُ هَذِهِ النِّعْمَةَ مِنَ الِاسْتِسْقاءِ غَيْرَ مُقَيَّدَةٍ بِمَكانٍ. وقَدِ اخْتُلِفَ في ذَلِكَ، فَقالَ أبُو مُسْلِمٍ: كانَ ذَلِكَ عَلى عادَةِ النّاسِ إذا قُحِطُوا، وما فَعَلَهُ اللَّهُ تَعالى مِن تَفْجِيرِ الماءِ مِنَ الحَجَرِ فَوْقَ الإجابَةِ بِالسُّقْياءِ وإنْزالِ الغَيْثِ. وقالَ أكْثَرُ المُفَسِّرِينَ: كانَ هَذا الِاسْتِسْقاءُ في التِّيهِ حِينَ قالُوا: مَن لَنا بِكَذا، إلى أنْ قالُوا: مَن لَنا بِالماءِ، فَأمَرَ اللَّهُ مُوسى بِضَرْبِ الحَجَرِ. وقِيلَ ذَلِكَ عِنْدَ خُرُوجِهِمْ مِنَ البَحْرِ الَّذِي انْفَلَقَ، وقَعُوا في أرْضٍ بَيْضاءَ لَيْسَ فِيها ظِلٌّ ولا ماءٌ، فَسَألُوا أنْ يَسْتَسْقِيَ لَهم، واللّامُ قِي (لِقَوْمِهِ) لامُ السَّبَبِ، أيْ لِأجْلِ قَوْمِهِ وثَمَّ مَحْذُوفٌ يَتِمُّ بِهِ مَعْنى الكَلامِ، أيْ لِقَوْمِهِ إذْ عَطِشُوا، أوْ ما كانَ بِهَذا المَعْنى ومَحْذُوفٌ آخَرُ: أيْ فَأجَبْناهُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب