الباحث القرآني

﴿وأُولَئِكَ أصْحابُ النّارِ هم فِيها خالِدُونَ﴾ [البقرة: ٢١٧]، تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ هَذِهِ الجُمْلَةِ، فَأغْنى عَنْ إعادَتِهِ، وهَذِهِ الجُمْلَةُ يُحْتَمَلُ أنْ تَكُونَ ابْتِداءَ إخْبارٍ مِنَ اللَّهِ تَعالى بِخُلُودِ هَؤُلاءِ في النّارِ؛ فَلا تَكُونُ داخِلَةً في الجَزاءِ، وتَكُونُ مَعْطُوفَةً عَلى الجُمْلَةِ الشَّرْطِيَّةِ، ويُحْتَمَلُ أنْ تَكُونَ مَعْطُوفَةً عَلى قَوْلِهِ: ﴿فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أعْمالُهُمْ﴾ [البقرة: ٢١٧]؛ فَتَكُونَ داخِلَةً في الجَزاءِ؛ لِأنَّ المَعْطُوفَ عَلى الجَزاءِ جَزاءٌ، وهَذا الوَجْهُ أوْلى؛ لِأنَّ القُرْبَ مُرَجَّحٌ، وتَرَجَّحَ الأوَّلُ بِأنَّهُ يَقْتَضِي الِاسْتِقْلالَ. «﴿إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا والَّذِينَ هاجَرُوا وجاهَدُوا في سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ﴾، سَبَبُ نُزُولِها أنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جَحْشٍ قالَ: يا رَسُولَ اللَّهِ هَبْ أنَّهُ عِقابٌ عَلَيْنا فِيما فَعَلْنا، فَهَلْ نَطْمَعُ مِنهُ أجْرًا وثَوابًا ؟ فَنَزَلَتْ»؛ لِأنَّ عَبْدَ اللَّهِ كانَ مُؤْمِنًا وكانَ مُهاجِرًا، وكانَ بِسَبَبِ هَذِهِ المُقاتَلَةِ مُجاهِدًا، ثُمَّ هي عامَّةٌ في مَنِ اتَّصَفَ بِهَذِهِ الأوْصافِ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ إنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جَحْشٍ وأصْحابَهُ، حِينَ قَتَلُوا الحَضْرَمِيَّ، ظَنَّ قَوْمٌ أنَّهم إنْ سَلِمُوا مِنَ الإثْمِ فَلَيْسَ لَهم أجْرٌ؛ فَنَزَلَتْ. انْتَهى كَلامُهُ. (p-١٥٢)وهُوَ كالأوَّلِ، إلّا أنَّهُ اخْتُلِفَ في الظّانِّ، فَفي الأوَّلِ ابْنُ جَحْشٍ، وفي قَوْلِ الزَّمَخْشَرِيِّ قَوْمٌ؛ وعَلى هَذا السَّبَبِ فَمُناسَبَةُ هَذِهِ الآيَةِ لِما قَبْلَها واضِحَةٌ. وقِيلَ: لَمّا أوْجَبَ الجِهادَ بِقَوْلِهِ: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ القِتالُ﴾ [البقرة: ٢١٦]، وبَيَّنَ أنَّ تَرْكَهُ سَبَبٌ لِلْوَعِيدِ؛ أتْبَعَ ذَلِكَ بِذِكْرِ مَن يَقُومُ بِهِ، ولا يَكادُ يُوجَدُ وعِيدٌ إلّا ويَتْبَعُهُ وعْدٌ، وقَدِ احْتَوَتْ هَذِهِ الجُمْلَةُ عَلى ثَلاثَةِ أوْصافٍ، وجاءَتْ مُرَتَّبَةً بِحَسَبِ الوَقائِعِ والواقِعِ؛ لِأنَّ الإيمانَ أوَّلُها، ثُمَّ المُهاجَرَةُ، ثُمَّ الجِهادُ في سَبِيلِ اللَّهِ، ولَمّا كانَ الإيمانُ هو الأصْلُ أُفْرِدَ بِهِ مَوْصُولٌ وحْدَهُ، ولَمّا كانَتِ الهِجْرَةُ والجِهادُ فَرْعَيْنِ عَنْهُ أُفْرِدا بِمَوْصُولٍ واحِدٍ؛ لِأنَّهُما مِن حَيْثُ الفَرْعِيَّةِ كالشَّيْءِ الواحِدِ. وأتى خَبَرُ ”إنَّ“ جُمْلَةً مُصَدَّرَةَ بِـ ”أُولَئِكَ“؛ لِأنَّ اسْمَ الإشارَةِ هو المُتَضَمِّنُ الأوْصافَ السّابِقَةَ مِنَ الإيمانِ والهِجْرَةِ والجِهادِ، ولَيْسَ تَكْرِيرًا لِمَوْصُولٍ بِالعَطْفِ مُشْعِرًا بِالمُغايَرَةِ في الذَّواتِ، ولَكِنَّهُ تَكْرِيرٌ بِالنِّسْبَةِ إلى الأوْصافِ، والذَّواتُ هي المُتَّصِفَةُ بِالأوْصافِ الثَّلاثَةِ، فَهي تَرْجِعُ لِمَعْنى عَطْفِ الصِّفَةِ بَعْضِها عَلى بَعْضٍ لِلْمُغايَرَةِ؛ لِأنَّ الَّذِينَ آمَنُوا صِنْفٌ وحْدَهُ، مُغايِرٌ لِلَّذِينِ هاجَرُوا وجاهَدُوا، وأتى بِلَفْظَةِ ”يَرْجُونَ“ لِأنَّهُ ما دامَ المَرْءُ في قَيْدِ الحَياةِ لا يُقْطَعُ أنَّهُ صائِرٌ إلى الجَنَّةِ، ولَوْ أطاعَ أقْصى الطّاعَةِ؛ إذْ لا يُعْلَمُ بِما يُخْتَمُ لَهُ، ولا يَتَّكِلُ عَلى عَمَلِهِ؛ لِأنَّهُ لا يَعْلَمُ أقُبِلَ أمْ لا، وأيْضًا فَلِأنَّ المَذْكُورَةَ في الآيَةِ ثَلاثَةُ أوْصافٍ، ولا بُدَّ مَعَ ذَلِكَ مِن سائِرِ الأعْمالِ، وهو يَرْجُو أنْ يُوَفِّقَهُ اللَّهُ لَها كَما وفَّقَهُ لِهَذِهِ الثَّلاثَةِ، فَلِذَلِكَ قالَ: ”فَأُولَئِكَ يَرْجُونَ“، أوْ يَكُونُ ذِكْرُ الرَّجاءِ لِما يَتَوَهَّمُونَ أنَّهم ما وفَّوْا حَقَّ نُصْرَةِ اللَّهِ في الجِهادِ، ولا قَضَوْا ما لَزِمَهم مِن ذَلِكَ، فَهم يُقْدِمُونَ عَلى اللَّهِ مَعَ الخَوْفِ والرَّجاءِ، كَما قالَ تَعالى: ﴿والَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وقُلُوبُهم وجِلَةٌ﴾ [المؤمنون: ٦٠] . ورُوِيَ عَنْ قَتادَةَ أنَّهُ قالَ: هو لِأخْيارِ هَذِهِ الأُمَّةِ، ثُمَّ جَعَلَهُمُ اللَّهُ أهْلَ رَجاءٍ، كَما يَسْمَعُونَ. وقِيلَ: الرَّجاءُ دَخَلَ هُنا في كَمِّيَّةِ الثَّوابِ ووَقْتِهِ، لا في أصْلِ الثَّوابِ؛ إذْ هو مَقْطُوعٌ مُتَيَقَّنٌ بِالوَعْدِ الصّادِقِ، و”رَحْمَتَ“ هُنا كُتِبَ بِالتّاءِ عَلى لُغَةِ مَن يَقِفُ عَلَيْها بِالتّاءِ هُنا، أوْ عَلى اعْتِبارِ الوَصْلِ؛ لِأنَّها في الوَصْلِ تاءٌ، وهي سَبْعَةُ مَواضِعَ كُتِبَتْ ”رَحْمَتَ“ فِيها بِالتّاءِ: أحَدُها هَذا، وفي الأعْرافِ: ﴿إنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ﴾ [الأعراف: ٥٦]، وفي هُودٍ: ﴿رَحْمَتُ اللَّهِ وبَرَكاتُهُ﴾ [هود: ٧٣]، وفي مَرْيَمَ: ﴿ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ﴾ [مريم: ٢]، وفي الزُّخْرُفِ: ﴿أهم يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ﴾ [الزخرف: ٣٢]، ﴿ورَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمّا يَجْمَعُونَ﴾ [الزخرف: ٣٢]، وفي الرُّومِ: ﴿فانْظُرْ إلى آثارِ رَحْمَتِ اللَّهِ﴾ [الروم: ٥٠] . * * * (واللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)، لَمّا ذَكَرَ أنَّهم طامِعُونَ في رَحْمَةِ اللَّهِ؛ أخْبَرَ تَعالى أنَّهُ مُتَّصِفٌ بِالرَّحْمَةِ، وزادَ وصْفًا آخَرَ وهو أنَّهُ تَعالى مُتَّصِفٌ بِالغُفْرانِ، فَكَأنَّهُ قِيلَ: اللَّهُ تَعالى عِنْدَ ما ظَنُّوا وطَمِعُوا في ثَوابِهِ؛ فالرَّحْمَةُ مُتَحَقِّقَةٌ لِأنَّها مِن صِفاتِهِ تَعالى. وقَدْ تَضَمَّنَتْ هَذِهِ الآياتُ الكَرِيمَةُ إخْبارَ اللَّهِ تَعالى عَنِ القُرُونِ الماضِيَةِ أنَّهم كانُوا عَلى سَنَنٍ واحِدٍ، وأنَّهُ بَعَثَ إلَيْهِمُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ مَن أطاعَ بِالثَّوابِ مِنَ اللَّهِ تَعالى، ومُحَذِّرِينَ مَن عَصى مِن عِقابِ اللَّهِ، وقَدَّمَ البِشارَةَ لِأنَّها هي المَفْرُوحُ بِها؛ ولِأنَّها نَتِيجَتُها رِضى اللَّهِ عَنْ مَنِ اتَّبَعَ أوامِرَهُ واجْتَنَبَ نَواهِيهِ، وأنْزَلَ مَعَهم كِتابًا مِن عِنْدِهِ مَصْحُوبًا بِالحَقِّ اللّائِحِ؛ لِيَكُونَ أضْبَطَ لِما أتَوْا بِهِ مِنَ الشَّرائِعِ؛ لِأنَّ ما جاءُوا بِهِ مِمّا لَيْسَ في كِتابٍ يُقْرَأُ ويُدَرَّسُ عَلى مَرِّ الأعْصارِ، ورُبَّما يَذْهَبُ بِذَهابِهِمْ، فَإذا كانَ ما شُرِعَ لَهم مُخَلَّدًا في الطُّرُوسِ كانَ أبْقى، وإنَّ ثَمَرَةَ الكُتُبِ هي الفَصْلُ بَيْنَ النّاسِ فِيما وقَعَ فِيهِ اخْتِلافُهم مِن أمْرِ عَقائِدِهِمْ، وتَكالِيفِهِمْ، ومَصالِحِ دُنْياهم، ثُمَّ ذَكَرَ أنَّهُ ما اخْتَلَفَ فِيما اخْتُلِفَ فِيهِ إلّا الَّذِينَ أُوتُوهُ، أيْ: أُوتُوا الكِتابَ، ووَصَلَ إلَيْهِمْ مِن عِنْدِ اللَّهِ، وذَلِكَ بَعْدَ وُضُوحِ الآياتِ ومَجِيئِها لَهم، فَكَأنَّ ما سَبِيلُهُ إلى الهِدايَةِ والفَصْلِ في الِاخْتِلافِ عِنْدَ هَؤُلاءِ سَبَبًا لِلِاخْتِلافِ، فَرَتَّبُوا عَلى مَجِيءِ الشَّيْءِ الواضِحِ ضِدَّ مُقْتَضاهُ، وأنَّ الحامِلَ عَلى ذَلِكَ إنَّما هو البَغْيُ والظُّلْمُ الَّذِي صارَ بَيْنَهم، ثُمَّ هَدى اللَّهُ المُؤْمِنِينَ لِاتِّباعِ الحَقِّ الَّذِي اخْتَلَفَ فِيهِ مَنِ اخْتَلَفَ، وذَلِكَ بِتَيْسِيرِ اللَّهِ تَعالى لَهم، ذَلِكَ مِن غَيْرِ سابِقَةِ اسْتِحْقاقٍ، بَلْ هِدايَتُهُ إيّاهُمُ الحَقَّ هو بِتَمْكِينِهِ تَعالى لِذَلِكَ. ثُمَّ ذَكَرَ تَعالى أنَّ الهِدايَةَ لِلصِّراطِ (p-١٥٣)المُسْتَقِيمِ إنَّما تَكُونُ لِمَن شاءَ تَعالى هِدايَتَهُ، ثُمَّ ذَكَرَ تَعالى مُخاطِبًا لِلْمُؤْمِنِينَ، إذْ كانَ قَدْ أخْبَرَ بِبِعْثَةِ الرُّسُلِ بِالتَّكالِيفِ الشَّرْعِيَّةِ؛ أنَّهُ لا يُحْسَبُ أنْ تُنالَ الرُّتْبَةُ العالِيَةُ مِنَ الفَوْزِ بِدُخُولِ الجَنَّةِ، ولَمّا يَقَعِ ابْتِلاءٌ لَكم كَما ابْتُلِيَ مَن كانَ قَبْلَكم، ثُمَّ فَسَّرَ مَثَلَ الماضِينَ بِأنَّهم مَسَّتُهُمُ البَأْساءُ والضَّرّاءُ، وأنَّهم أُزْعِجُوا؛ حَتّى سَألُوا رَبَّهم عَنْ وقْتِ مَجِيءِ النَّصْرِ لِتَصْبِرَ نُفُوسُهم عَلى ما ابْتَلاهم بِهِ؛ ولِيَنْتَظِرُوا الفَرَجَ مِنَ اللَّهِ عَنْ قُرْبٍ، فَأجِيبُوا بِأنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ، وما هو قَرِيبٌ، فالحاصِلُ: فَسَكَنَتْ نُفُوسُهم مِن ذَلِكَ الإزْعاجِ بِانْتِظارِ النَّصْرِ القَرِيبِ. ثُمَّ سَألُوا رَسُولَ اللَّهِ ﷺ عَمّا يُنْفِقُونَ مِن أمْوالِهِمْ في وُجُوهِ البِرِّ؛ فَلَمْ يُبَيِّنْ لَهم جِنْسَ ما يُنْفِقُونَ ولا مِقْدارَهُ، وذَكَرَ مَصْرِفَ ذَلِكَ؛ لِأنَّهُ هو الأهَمُّ في الجَوابِ، وكَأنَّهُ قِيلَ: أيُّ شَيْءٍ يُنْفِقُونَ مِن قَلِيلٍ أوْ كَثِيرٍ فَمَصْرِفُهُ لِأقْرَبِ النّاسِ إلَيْكم، وهُما الوالِدانِ اللَّذانِ كانا سَبَبًا في إيجادِكَ وتَرْبِيَتِكَ مِن لَدُنْ خُلِقْتَ إلى أنْ صارَ لَكَ شَيْءٌ مِنَ الدُّنْيا، وفي الحُنُوِّ عَلَيْكَ، ثُمَّ ذَكَرَ الأقْرَبِينَ بِصِفَةِ التَّفْضِيلِ؛ لِأنَّهم هُمُ الَّذِينَ يُشارِكُونَكَ في النَّسَبِ، والإنْفاقُ عَلَيْهِمْ صَدَقَةٌ وصِلَةٌ. ثُمَّ ذَكَرَ اليَتامى: وهُمُ الَّذِينَ قَدْ تُوُفِّيَ آباؤُهم؛ فَلَيْسَ لَهم مَن يَقُومُ بِمَصالِحِهِمْ، فالإنْفاقُ عَلَيْهِمْ إحْسانٌ جَزِيلٌ، ثُمَّ ذَكَرَ المَساكِينَ، وهُمُ الَّذِينَ انْتَهَوْا مِنَ الفُقَراءِ إلى حالَةِ المَسْكَنَةِ، وهي عَدَمُ الحَرَكَةِ والتَّصَرُّفِ في أحْوالِ الدُّنْيا ومَعاشِها، ثُمَّ أخْبَرَ تَعالى أنَّ ما أنْفَقْتُمْ فاللَّهُ عَلِيمٌ بِهِ ومُحْصِيهِ، فَيُجازِي عَلَيْهِ ويُثِيبُ. ثُمَّ أخْبَرَ تَعالى عَنْ فَرْضِ القِتالِ عَلى المُؤْمِنِينَ، وأنَّهُ مَكْرُوهٌ لِلطِّباعِ؛ لِما فِيهِ مِن إتْلافِ المُهَجِ وانْتِقاصِ الأمْوالِ، وانْتِهاكِ الأجْسادِ بِالسَّفَرِ فِيهِ وبِغَيْرِهِ. ثُمَّ ذَكَرَ أنَّ الإنْسانَ قَدْ يَكْرَهُ الشَّيْءَ وهو خَيْرٌ لَهُ؛ لِأنَّ عِقابَهُ إلى خَيْرٍ؛ فالقِتالُ - وإنْ كانَ مَكْرُوهًا لِلطَّبْعِ - فَإنَّهُ خَيْرٌ إنْ سَلِمَ؛ فَخَيْرُهُ بِالظَّفَرِ بِأعْداءِ اللَّهِ، وبِالغَنِيمَةِ، والِاسْتِيلاءِ عَلَيْهِمْ قَتْلًا ونَهْبًا، وتَمَلُّكِ دارٍ؛ وإنْ قُتِلَ فَخَيْرُهُ أنَّ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ مَرْتَبَةَ الشُّهَداءِ، ويَكْفِيكَ ما ورَدَ في هَذِهِ المَرْتَبَةِ العَظِيمَةِ في كِتابِ اللَّهِ، وفِيما صَحَّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ ثُمَّ ذَكَرَ مُقابِلَ هَذا وهو قَوْلُهُ: ﴿وعَسى أنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وهو شَرٌّ لَكُمْ﴾ [البقرة: ٢١٦]، فَمِنَ المَحْبُوبِ تَرْكُ القِتالِ، وهو مَدْعاةٌ إلى الدُّعاءِ والرّاحَةِ، وفي ذَلِكَ الشَّرُّ العَظِيمُ مِن تَسَلُّطِ أعْداءِ اللَّهِ والإيقاعِ بِالمُسْلِمِينَ، واسْتِئْصالِ شَأْفَتِهِمْ بِالقَتْلِ والنَّهْبِ وتَمَلُّكِ دِيارِهِمْ، فَمَتى أخْلَدَ الإنْسانُ إلى الرّاحَةِ طَمِعَ فِيهِ عَدُوُّهُ، وبَلَغَ مِنهُ مَقاصِدَهُ، ولَقَدْ أحْسَنَ زُهَيْرٌ حَيْثُ قالَ: ؎جَرِيءٍ مَتى يُظْلَمْ يُعاقِبْ بِظُلْمِهِ سَرِيعًا وإنْ لا يُبْدَ بِالظُّلْمِ يَظْلِمِ ثُمَّ ذَكَرَ تَعالى أنَّهُ يَعْلَمُ ما لا يَعْلَمُونَ؛ حَيْثُ شَرَعَ القِتالَ، فَهو تَعالى عالِمٌ بِما يَتَرَتَّبُ لَكم مِنَ المَصالِحِ الدِّينِيَّةِ والدُّنْيَوِيَّةِ عَلى مَشْرُوعِيَّةِ القِتالِ. ثُمَّ ذَكَرَ تَعالى أنَّهم سَألُوا رَسُولَ اللَّهِ ﷺ عَنِ القِتالِ في الشَّهْرِ الحَرامِ؛ لِما كانَ وقْعُ ذَلِكَ مِنهم، لا عَلى سَبِيلِ القَصْدِ، بَلْ عَلى سَبِيلِ الظَّنِّ أنَّ الزَّمانَ الَّذِي وقَعَ فِيهِ لَيْسَ هو مِنَ الشَّهْرِ الحَرامِ، فَأُخْبِرُوا أنَّ ذَلِكَ هو إثْمٌ كَبِيرٌ؛ إذْ كانَتِ العادَةُ أنَّ الأشْهُرَ الحُرُمَ لا قِتالَ فِيها. ثُمَّ ذَكَرَ أنَّ أكْبَرَ مِن ذَلِكَ هو ما يَرْتَكِبُهُ الكُفّارُ مِن صَدِّ المُسْلِمِينَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، ومِنَ الكُفْرِ بِاللَّهِ، وبِالمَسْجِدِ الحَرامِ، ومِن إخْراجِ أهْلِهِ مِنهُ. ثُمَّ ذَكَرَ تَعالى أنَّ الفِتْنَةَ أكْبَرُ مِنَ القَتْلِ، وهو فِتْنَةُ الرَّجُلِ المُسْلِمِ عَنْ دِينِهِ، أكْبَرُ مِن قَتْلِهِ وهو عَلى دِينِهِ؛ لِأنَّ تِلْكَ الفِتْنَةَ تَؤُولُ بِهِ إلى النّارِ، وقَتْلَهُ هَذا يَؤُولُ بِهِ إلى الجَنَّةِ. ثُمَّ أخْبَرَ تَعالى عَنْ دَوامِ عَداءِ عَداوَةِ الكُفّارِ، وأنَّ مَقْصِدَهم إنَّما هو فِتْنَتُكم عَنْ دِينِكم، ورُجُوعِكم إلى ما هم عَلَيْهِ مِنَ الضَّلالِ، وأنَّهُ مَتى أمْكَنَهم ذَلِكَ وقَدَرُوا عَلَيْهِ قاتَلُوكم. ثُمَّ أخْبَرَ تَعالى أنَّ مَن رَجَعَ عَنْ دِينِهِ الحَقِّ إلى دِينِهِ الباطِلِ، ووافى عَلى ذَلِكَ؛ فَجَمِيعُ ما تَقَدَّمَ مِن أعْمالِهِ الصّالِحاتِ قَدْ بَطَلَتْ في الدُّنْيا بِإلْحاقِهِ بِالكُفّارِ، وإجْراءِ أحْكامِ المُرْتَدِّينَ عَلَيْهِ، وفي الآخِرَةِ؛ فَلا يَبْقى لَها ثَمَرَةٌ يَرْتَجِي بِها غُفْرانًا لِما اجْتَرَحَ، بَلْ مَآلُهُ إلى النّارِ خالِدًا فِيها. ثُمَّ لَمّا ذَكَرَ حالَ المُرْتَدِّ عَنْ دِينِهِ، ذَكَرَ حالَ مَن آمَنَ (p-١٥٤)بِاللَّهِ وثَبَتَ عَلى إيمانِهِ، وهاجَرَ مِن وطَنِهِ - الَّذِي هو مَحَلُّ الكُفْرِ - إلى دارِ الإسْلامِ، ثُمَّ جاهَدَ في سَبِيلِ اللَّهِ مَن كَفَرَ بِاللَّهِ، وأنَّهُ طامِعٌ في رَحْمَةِ اللَّهِ. ثُمَّ ذَكَرَ تَعالى أنَّهُ غَفُورٌ لِما وقَعَ مِنهُ قَبْلَ الإيمانِ، ولِما يَتَخَلَّلُ في حالَةِ الإيمانِ مِن بَعْضِ المُخالَفَةِ، وأنَّهُ رَحِيمٌ لَهُ؛ فَهو يُحَقِّقُ لَهُ ما طَمِعَ فِيهِ مِن رَحْمَتِهِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب