الباحث القرآني
﴿قُلْ أتُحاجُّونَنا في اللَّهِ وهو رَبُّنا ورَبُّكُمْ﴾: سَبَبُ النُّزُولِ، قِيلَ: إنَّ اليَهُودَ والنَّصارى قالُوا: يا مُحَمَّدُ، إنَّ الأنْبِياءَ كانُوا مِنّا وعَلى دِينِنا، ولَمْ تَكُنْ مِنَ العَرَبِ، ولَوْ كُنْتَ نَبِيًّا لَكُنْتَ مِنّا وعَلى دِينِنا. وقِيلَ: حاجُّوا المُسْلِمِينَ فَقالُوا: نَحْنُ أبْناءُ اللَّهِ وأحِبّاؤُهُ وأصْحابُ الكِتابِ الأوَّلِ، وقَبْلَتُنا أقْدَمُ؛ فَنَحْنُ أوْلى بِاللَّهِ مِنكم، فَأُنْزِلَتْ. قَرَأ الجُمْهُورُ: أتُحاجُونَنا بِنُونَيْنِ، إحْداهُما نُونُ الرَّفْعِ والأُخْرى الضَّمِيرُ، وقَرَأ زَيْدُ بْنُ ثابِتٍ، والحَسَنُ، والأعْمَشُ، وابْنُ مُحَيْصِنٍ: بِإدْغامِ النُّونِ في النُّونِ، وأجازَ بَعْضُهم حَذْفَ النُّونِ. أمّا قِراءَةُ الجُمْهُورِ فَظاهِرَةٌ، وأمّا قِراءَةُ زَيْدٍ ومَن ذُكِرَ مَعَهُ، فَوَجْهُها أنَّهُ لَمّا التَقى مِثْلانِ، وكانَ قَبْلَ الأوَّلِ حَرْفُ مَدٍّ ولِينٍ، جازَ الإدْغامُ كَقَوْلِكَ: هَذِهِ دارُ راشِدٍ؛ لِأنَّ المَدَّ يَقُومُ مَقامَ الحَرَكَةِ في نَحْوِ: جَعَلَ لَكَ. وأمّا جَوازُ حَذْفِ النُّونِ الأُولى، فَوَجْهُ مَن أجازَ ذَلِكَ عَلى قِراءَةِ مَن قَرَأ: فَبِمَ تُبَشِّرُونَ، بِكَسْرِ النُّونِ، وأنْشَدُوا:
؎تَراهُ كالثُّغامِ يَعُلُّ مِسْكًا يَسُوءُ الفالِياتِ إذا فَلَيْنِي
(p-٤١٣)يُرِيدُ: فَلَيْنَنِي. والخِطابُ بِقَوْلِهِ: قُلْ لِلرَّسُولِ، أوْ لِلسّامِعِ، والهَمْزَةُ لِلِاسْتِفْهامِ مَصْحُوبًا بِالإنْكارِ عَلَيْهِمْ، والواوُ ضَمِيرُ اليَهُودِ والنَّصارى. وقِيلَ: مُشْرِكُو العَرَبِ، إذْ قالُوا: لَوْلا نُزِّلَ هَذا القُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ القَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ. وقِيلَ: ضَمِيرُ اليَهُودِ والنَّصارى والمُشْرِكِينَ. والمُحاجَّةُ هُنا: المُجادَلَةُ. والمَعْنى: أتُجادِلُونَنا في شَأْنِ اللَّهِ واصْطِفائِهِ النَّبِيَّ مِنَ العَرَبِ دُونَكم، وتَقُولُونَ لَوْ أنْزَلَ اللَّهُ عَلى أحَدٍ لَأنْزَلَ عَلَيْنا، وتَرَوْنَكم أحَقَّ بِالنَّبُوَّةِ مِنّا ؟ ﴿وهُوَ رَبُّنا ورَبُّكُمْ﴾: جُمْلَةٌ حالِيَّةٌ، يَعْنِي أنَّهُ مالِكُهم كُلِّهِمْ، فَهم مُشْتَرِكُونَ في العُبُودِيَّةِ، فَلَهُ أنْ يَخُصَّ مَن شاءَ بِما شاءَ مِنَ الكَرامَةِ. والمَعْنى: أنَّهُ مَعَ اعْتِرافِنا كُلِّنا أنّا مَرْبُوبُونَ لِرَبٍّ واحِدٍ، فَلا يُناسِبُ الجِدالُ فِيما شاءَ مِن أفْعالِهِ، وما خَصَّ بِهِ بَعْضَ مَرْبُوباتِهِ مِنَ الشَّرَفِ والزُّلْفى؛ لِأنَّهُ مُتَصَرِّفٌ في كُلِّهِمْ تَصَرُّفَ المالِكِ. وقِيلَ المَعْنى: أتُجادِلُونَنا في دِينِ اللَّهِ، وتَقُولُونَ إنَّ دِينَكم أفْضَلُ الأدْيانِ، وكِتابَكم أفْضَلُ الكُتُبِ ؟ والظّاهِرُ إنْكارُ المُجادَلَةِ في اللَّهِ، حَيْثُ زَعَمَتِ النَّصارى أنَّ اللَّهَ هو المَسِيحُ، وحَيْثُ زَعَمَ بَعْضُهم أنَّ اللَّهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ، وحَيْثُ زَعَمَتِ اليَهُودُ أنَّ اللَّهَ لَهُ ولَدٌ، وزَعَمُوا أنَّهُ شَيْخٌ أبْيَضُ الرَّأْسِ واللِّحْيَةِ، إلى ما يَدَّعُونَهُ فِيهِ مِن سِماتِ الحُدُوثِ والنَّقْصِ، تَعالى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ، فَأنْكَرَ عَلَيْهِمْ كَيْفَ يَدْعُونَ ذَلِكَ، والرَّبُّ واحِدٌ لَهم، فَوَجَبَ أنْ يَكُونَ الِاعْتِقادُ فِيهِ واحِدًا، وهو أنْ تَثْبُتَ صِفاتُهُ العُلا، ويُنَزَّهُ عَنِ الحُدُوثِ والنَّقْصِ.
﴿ولَنا أعْمالُنا ولَكم أعْمالُكُمْ﴾، المَعْنى: ولَنا جَزاءُ أعْمالِنا، إنْ خَيْرًا فَخَيْرٌ، وإنَّ شَرًّا فَشَرٌّ. والمَعْنى: أنَّ الرَّبَّ واحِدٌ، وهو المُجازِي عَلى الأعْمالِ، فَلا تَنْبَغِي المُجادَلَةُ فِيهِ ولا المُنازَعَةُ.
﴿ونَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ﴾: ولَمّا بَيَّنَ القَدْرَ المُشْتَرَكَ مِنَ الرُّبُوبِيَّةِ والجَزاءِ، ذَكَرَ ما يُمَيَّزُ بِهِ المُؤْمِنُونَ مِنَ الإخْلاصِ لِلَّهِ تَعالى في العَمَلِ والِاعْتِقادِ، وعَدَمِ الإشْراكِ الَّذِي هو مَوْجُودٌ في النَّصارى وفي اليَهُودِ؛ لِأنَّ مَن عَبَدَ مَوْصُوفًا بِصِفاتِ الحُدُوثِ والنَّقْصِ، فَقَدْ أشْرَكَ مَعَ اللَّهِ إلَهًا آخَرَ. والمَعْنى: أنّا لَمْ نَشُبْ عَقائِدَنا وأفْعالَنا بِشَيْءٍ مِنَ الشِّرْكِ، كَما ادَّعَتِ اليَهُودُ في العِجْلِ والنَّصارى في عِيسى. وهَذِهِ الجُمْلَةُ مِن بابِ التَّعْرِيضِ بِالذَّمِّ؛ لِأنَّ ذِكْرَ المُخْتَصِّ بَعْدَ ذِكْرِ المُشْتَرِكِ نَفْيٌ لِذَلِكَ المُخْتَصِّ عَمَّنْ شارَكَ في المُشْتَرَكِ، ويُناسِبُ أنْ يَكُونَ اسْتِطْرادًا، وهو أنْ يَذْكُرَ مَعْنًى يَقْتَضِي أنْ يَكُونَ مَدْحًا لِفاعِلِهِ وذَمًّا لِتارِكِهِ، نَحْوَ قَوْلِهِ:
؎وإنّا لَقَوْمٌ ما نَرى القَتْلَ سُبَّةً ∗∗∗ إذا ما رَأتْهُ عامِرٌ وسَلُولُ
وهِيَ مُنَبِّهَةٌ عَلى أنَّ مَن أخْلَصَ لِلَّهِ، كانَ حَقِيقًا أنْ يَكُونَ مِنهُمُ الأنْبِياءُ وأهْلُ الكَرامَةِ، وقَدْ كَثُرَتْ أقْوالُ أرْبابِ المَعانِي في الإخْلاصِ. فَرُوِيَ أنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قالَ: «سَألْتُ جِبْرِيلَ عَنِ الإخْلاصِ ما هو ؟ فَقالَ: سَألْتُ رَبَّ العِزَّةِ عَنِ الإخْلاصِ ما هو ؟ فَقالَ: سِرٌّ مِن أسْرارِي اسْتَوْدَعْتُهُ قَلْبَ مَن أحْبَبْتُهُ مِن عِبادِي» . وقالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: الإخْلاصُ: أنْ لا يُشْرِكَ في دِينِهِ، ولا يُرائِي في عَمَلِهِ أحَدًا. وقالَ الفُضَيْلُ: تَرْكُ العَمَلِ مِن أجْلِ النّاسِ رِياءٌ، والعَمَلُ مِن أجْلِ النّاسِ شِرْكٌ، والإخْلاصُ أنْ يُعافِيَكَ اللَّهُ مِنهُما. وقالَ ابْنُ مُعاذٍ: تَمْيِيزُ العَمَلِ مِنَ الذُّنُوبِ، كَتَمْيِيزِ اللَّبَنِ مِن بَيْنِ الفَرْثِ والدَّمِ. وقالَ البُوشَنْجِيُّ: هو مَعْنًى لا يَكْتُبُهُ المَلَكانِ، ولا يُفْسِدُهُ الشَّيْطانُ، ولا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الإنْسانُ، أيْ لا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ إلّا اللَّهُ. وقالَ رُوَيْمٌ: هو ارْتِفاعُ عَمَلِكَ عَنِ الرُّؤْيَةِ. وقالَ حُذَيْفَةُ المُرْعَشِيُّ: أنْ تَسْتَوِيَ أفْعالُ العَبْدِ في الظّاهِرِ والباطِنِ. وقالَ أبُو يَعْقُوبَ المَكْفُوفُ: أنْ يَكْتُمَ العَبْدُ حَسَناتِهِ، كَما يَكْتُمُ سَيِّئاتِهِ. وقالَ سَهْلٌ: هو الإفْلاسُ، ومَعْناهُ أنْ يَرْجِعَ إلى احْتِقارِ العَمَلِ. وقالَ أبُو سُلَيْمانَ الدّارانِيُّ: لِلْمُرائِي ثَلاثُ عَلاماتٍ: يَكْسَلُ إذا كانَ وحْدَهُ، ويَنْشَطُ إذا كانَ في النّاسِ، ويَزِيدُ في العَمَلِ إذا أُثْنِيَ عَلَيْهِ. وهَذا القَوْلُ الَّذِي أمَرَ بِهِ ﷺ أنْ يَقُولَهُ عَلى وجْهِ الشَّفَقَةِ والنَّصِيحَةِ في الدِّينِ، لِيُنَبَّهُوا عَلى أنَّ تِلْكَ المُجادَلَةَ مِنكم لَيْسَتْ واقِعَةً مَوْقِعَ الصِّحَّةِ، ولا هي مِمّا يَنْبَغِي أنْ تَكُونَ. ولَيْسَ مَقْصُودُنا بِهَذا التَّنْبِيهِ دَفْعَ ضَرَرٍ مِنكم، (p-٤١٤)وإنَّما مَقْصُودُنا نُصْحُكم وإرْشادُكم إلى تَخْلِيصِ اعْتِقادِكم مِنَ الشِّرْكِ، وأنْ تُخْلِصُوا كَما أخْلَصْنا، فَنَكُونَ سَواءً في ذَلِكَ.
{"ayah":"قُلۡ أَتُحَاۤجُّونَنَا فِی ٱللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمۡ وَلَنَاۤ أَعۡمَـٰلُنَا وَلَكُمۡ أَعۡمَـٰلُكُمۡ وَنَحۡنُ لَهُۥ مُخۡلِصُونَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق