﴿وقُلْ لِعِبادِي يَقُولُوا الَّتِي هي أحْسَنُ إنَّ الشَّيْطانَ يَنْزَغُ بَيْنَهم إنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلْإنْسانِ عَدُوًّا مُبِينًا﴾ [الإسراء: ٥٣] ﴿رَبُّكم أعْلَمُ بِكم إنْ يَشَأْ يَرْحَمْكم أوْ إنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكم وما أرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ وكِيلًا﴾ [الإسراء: ٥٤] ﴿ورَبُّكَ أعْلَمُ بِمَن في السَّماواتِ والأرْضِ ولَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ وآتَيْنا داوُدَ زَبُورًا﴾ .
قِيلَ: سَبَبُ نُزُولِها أنَّ عُمَرَ بْنَ الخَطّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - شَتَمَهُ بَعْضُ الكَفَرَةِ، فَسَبَّهُ عُمَرُ وهَمَّ بِقَتْلِهِ فَكادَ يُثِيرُ فِتْنَةً، فَنَزَلَتِ الآيَةُ وهي مَنسُوخَةٌ بِآيَةِ السَّيْفِ، وارْتِباطُها بِما قَبْلَها أنَّهُ لَمّا تَقَدَّمَ ما نَسَبَ الكُفّارُ لِلَّهِ تَعالى مِنَ الوَلَدِ، ونُفُورُهم عَنْ كِتابِ اللَّهِ إذا سَمِعُوهُ، وإيذاءُ الرَّسُولِ ﷺ ونِسْبَتُهُ إلى أنَّهُ مَسْحُورٌ، وإنْكارُ البَعْثِ كانَ ذَلِكَ مَدْعاةً لِإيذاءِ المُؤْمِنِينَ، ومَجْلَبَةً لِبُغْضِ المُؤْمِنِينَ إيّاهم ومُعامَلَتِهِمْ بِما عامَلُوهم، فَأمَرَ اللَّهُ تَعالى نَبِيَّهُ أنْ يُوصِيَ المُؤْمِنِينَ بِالرِّفْقِ بِالكُفّارِ واللُّطْفِ بِهِمْ في القَوْلِ، وأنْ لا يُعامِلُوهم بِمِثْلِ أفْعالِهِمْ وأقْوالِهِمْ، فَعَلى هَذا يَكُونُ المَعْنى ﴿قُلْ لِعِبادِي﴾ [إبراهيم: ٣١] المُؤْمِنِينَ ﴿يَقُولُوا﴾ [الإسراء: ٥٣] لِلْمُشْرِكِينَ الكَلِمَ ﴿الَّتِي هي أحْسَنُ﴾ [الإسراء: ٥٣] . وقِيلَ: المَعْنى ﴿يَقُولُوا﴾ [الإسراء: ٥٣] أيْ: يَقُولُ بَعْضُ المُؤْمِنِينَ لِبَعْضٍ الكَلِمَ الَّتِي هي أحْسَنُ، أيْ: يُجِلُّ بَعْضُهم بَعْضًا ويُعَظِّمُهُ، ولا يَصْدُرُ مِنهُ إلّا الكَلامُ الطَّيِّبُ والقَوْلُ الجَمِيلُ، فَلا يَكُونُوا مِثْلَ المُشْرِكِينَ في مُعامَلَةِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا بِالتَّهاجِي والسِّبابِ والحُرُوبِ والنَّهْبِ لِلْأمْوالِ والسَّبْيِ لِلنِّساءِ والذَّرارِيِّ.
وقِيلَ: عِبادِي هُنا: المُشْرِكُونَ؛ إذِ المَقْصُودُ هُنا الدُّعاءُ إلى الإسْلامِ، فَخُوطِبُوا بِالخِطابِ (p-٤٩)الحَسَنِ لِيَكُونَ ذَلِكَ سَبَبًا إلى قَبُولِ الدِّينِ، فَكَأنَّهُ قِيلَ: قُلْ لِلَّذِينَ أقَرُّوا أنَّهم عِبادٌ لِي يَقُولُوا ﴿الَّتِي هي أحْسَنُ﴾ [الإسراء: ٥٣] وهو تَوْحِيدُ اللَّهِ تَعالى، وتَنْزِيهُهُ عَنِ الوَلَدِ واتِّخاذِ المَلائِكَةِ بَناتٍ، فَإنَّ ذَلِكَ مِن نَزْغِ الشَّيْطانِ ووَسْوَسَتِهِ وتَحْسِينِهِ. وقِيلَ: عِبادِي: شامِلٌ لِلْفَرِيقَيْنِ المُؤْمِنِينَ والكافِرِينَ عَلى ما يَأْتِي تَفْسِيرُ ﴿الَّتِي هي أحْسَنُ﴾ [الإسراء: ٥٣]، والَّذِي يَظْهَرُ أنَّ لَفْظَةَ عِبادِي مُضافَةٌ إلَيْهِ تَعالى كَثُرَ اسْتِعْمالُها في المُؤْمِنِينَ في القُرْآنِ، كَقَوْلِهِ: ﴿فَبَشِّرْ عِبادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ القَوْلَ﴾ [الزمر: ١٧] ﴿فادْخُلِي في عِبادِي﴾ [الفجر: ٢٩] ﴿عَيْنًا يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللَّهِ﴾ [الإنسان: ٦] .
و(قُلِ) خِطابٌ لِلرَّسُولِ ﷺ وهو أمْرٌ، ومَعْمُولُ القَوْلِ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: قُولُوا ﴿الَّتِي هي أحْسَنُ﴾ [الإسراء: ٥٣] وانْجَزَمَ ﴿يَقُولُوا﴾ [الإسراء: ٥٣] عَلى أنَّهُ جَوابٌ لِلْأمْرِ الَّذِي هو قُلْ. قالَهُ الأخْفَشُ، وهو صَحِيحُ المَعْنى عَلى تَقْدِيرِ أنْ يَكُونَ عِبادِي يُرادُ بِهِ المُؤْمِنُونَ؛ لِأنَّهم لِمُسارَعَتِهِمْ لِامْتِثالِ أمْرِ اللَّهِ تَعالى بِنَفْسِ ما يَقُولُ لَهم ذَلِكَ قالُوا ﴿الَّتِي هي أحْسَنُ﴾ [الإسراء: ٥٣] . وعَنْ سِيبَوَيْهِ: أنَّهُ انْجَزَمَ عَلى جَوابٍ لِشَرْطٍ مَحْذُوفٍ، أيْ: أنْ يَقُلْ لَهم ﴿يَقُولُوا﴾ [الإسراء: ٥٣] فَيَكُونُ في قَوْلِهِ حَذْفُ مَعْمُولِ القَوْلِ، وحَذْفُ الشَّرْطِ الَّذِي ﴿يَقُولُوا﴾ [الإسراء: ٥٣] جَوابُهُ. وقالَ المُبَرِّدُ: انْجَزَمَ جَوابًا لِلْأمْرِ الَّذِي هو مَعْمُولُ (قُلْ) أيْ: قُولُوا ﴿الَّتِي هي أحْسَنُ﴾ [الإسراء: ٥٣] ﴿يَقُولُوا﴾ [الإسراء: ٥٣] . وقِيلَ: مَعْمُولُ (قُلْ) مَذْكُورٌ لا مَحْذُوفٌ وهو ﴿يَقُولُوا﴾ [الإسراء: ٥٣] عَلى تَقْدِيرِ لامِ الأمْرِ، وهو مَجْزُومٌ بِها قالَهُ الزَّجّاجُ. وقِيلَ: ﴿يَقُولُوا﴾ [الإسراء: ٥٣] مَبْنِيٌّ وهو مُضارِعٌ حَلَّ مَحَلَّ المَبْنِيِّ الَّذِي هو فِعْلُ الأمْرِ فَبُنِيَ، والمَعْنى ﴿قُلْ لِعِبادِي﴾ [إبراهيم: ٣١] قُولُوا. قالَهُ المازِنِيُّ، وهَذِهِ الأقْوالُ جَرَتْ في قَوْلِهِ ﴿قُلْ لِعِبادِي الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ﴾ [إبراهيم: ٣١] وتَرْجِيحُ ما يَنْبَغِي أنْ يُرَجَّحَ مَذْكُورٌ في عِلْمِ النَّحْوِ.
و﴿الَّتِي هي أحْسَنُ﴾ [الإسراء: ٥٣] قالَتْ فِرْقَةٌ مِنهُمُ ابْنُ عَبّاسٍ: هي قَوْلُ لا إلَهَ إلّا اللَّهُ. قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: ويَلْزَمُ عَلى هَذا أنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: ﴿لِعِبادِي﴾ [الإسراء: ٥٣] يُرِيدُ بِهِ جَمِيعَ الخَلْقِ؛ لِأنَّ جَمِيعَهم مَدْعُوٌّ إلى لا إلَهَ إلّا اللَّهُ. ويَجِيءُ قَوْلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ ﴿إنَّ الشَّيْطانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ﴾ [الإسراء: ٥٣] غَيْرَ مُناسِبٍ لِلْمَعْنى إلّا عَلى تَكَبُّرِهِ بِأنْ يُجْعَلَ (بَيْنَهم) بِمَعْنى خِلالِهِمْ وأثْناءِهِمْ، ويُجْعَلَ (النَّزْغُ) بِمَعْنى الوَسْوَسَةِ والإمْلالِ. وقالَ الحَسَنُ: يَرْحَمُكَ اللَّهُ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكَ، وعَنْهُ أيْضًا: الأمْرُ بِامْتِثالِ الأوامِرِ واجْتِنابِ المَناهِي. وقِيلَ: القَوْلُ لِلْمُؤْمِنِ: يَرْحَمُكَ اللَّهُ ولِلْكافِرِ هَداكَ اللَّهُ. وقالَ الجُمْهُورُ: وهي المُحاوَرَةُ الحُسْنى بِحَسَبِ مَعْنًى مَعْنًى. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فُسِّرَ ﴿الَّتِي هي أحْسَنُ﴾ [الإسراء: ٥٣] بِقَوْلِهِ: ﴿رَبُّكم أعْلَمُ بِكم إنْ يَشَأْ يَرْحَمْكم أوْ إنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ﴾ [الإسراء: ٥٤] يَعْنِي: يَقُولُ لَهم هَذِهِ الكَلِمَةَ ونَحْوَها ولا تَقُولُوا لَهم: أنَّكم مِن أهْلِ النّارِ وأنَّكم مُعَذَّبُونَ، وما أشْبَهَ ذَلِكَ مِمّا يَغِيظُهم ويُهَيِّجُهم عَلى الشَّرِّ. وقَوْلُهُ: ﴿إنَّ الشَّيْطانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ﴾ [الإسراء: ٥٣] اعْتِراضٌ بِمَعْنى يُلْقِي بَيْنَهُمُ الفَسادَ، ويُغْرِي بَعْضَهم عَلى بَعْضٍ؛ لِيَقَعَ بَيْنَهُمُ المُشارَّةُ والمُشاقَّةُ.
وقالَ أبُو عَبْدِ اللَّهِ الرّازِيُّ ما مُلَخَّصُهُ: إذا أرَدْتُمُ الحُجَّةَ عَلى المُخالِفِ فاذْكُرُوها بِالطَّرِيقِ الأحْسَنِ، وهو أنْ لا يُخْلَطَ بِالسَّبِّ، كَقَوْلِهِ: ﴿ادْعُ إلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالحِكْمَةِ والمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ وجادِلْهم بِالَّتِي هي أحْسَنُ﴾ [النحل: ١٢٥] ﴿ولا تُجادِلُوا أهْلَ الكِتابِ إلّا بِالَّتِي هي أحْسَنُ﴾ [العنكبوت: ٤٦] وخَلْطُ الحُجَّةِ بِالسَّبِّ سَبَبٌ لِلْمُقابَلَةِ بِمِثْلِهِ، وتَنْفِيرٌ عَنْ حُصُولِ المَقْصُودِ مِن إظْهارِ الحُجَّةِ وتَأْثِيرِها، ثُمَّ نَبَّهَ عَلى هَذا الطَّرِيقِ بِقَوْلِهِ: ﴿إنَّ الشَّيْطانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ﴾ [الإسراء: ٥٣] جامِعًا لِلْفَرِيقَيْنِ أيْ: مَتى امْتَزَجَتِ الحُجَّةُ بِالإيذاءِ كانَتِ الفِتْنَةُ. انْتَهى. وقَرَأ طَلْحَةُ ”يَنْزِغُ“ بِكَسْرِ الزّايِ. قالَأبُو حاتِمٍ: لَعَلَّها لُغَةٌ، والقِراءَةُ بِالفَتْحِ. وقالَ صاحِبُ اللَّوامِحِ: هي لُغَةٌ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: هُما لُغَتانِ نَحْوُ يَعْرِشُونَ ويَعْرُشُونَ. انْتَهى. ولَوْ مَثَّلَ بِـ يَنْطَحُ ويَنْطِحُ كانَ أنْسَبَ، وبَيَّنَ تَعالى سَبَبَ النَّزْغِ، وهي العَداوَةُ القائِمَةُ لِأبِيهِمْ آدَمَ قَبْلَهم، وقَوْلُهُ: ﴿ثُمَّ لَآتِيَنَّهم مِن بَيْنِ أيْدِيهِمْ﴾ [الأعراف: ١٧] الآيَةَ. وغَيْرُها مِنَ الآياتِ الدّالَّةِ عَلى تَسَلُّطِهِ عَلى الإنْسانِ وابْتِغاءِ الغَوائِلِ المُهْلِكَةِ لَهُ. والخِطابُ بِقَوْلِهِ: ﴿رَبُّكُمْ﴾ [الإسراء: ٥٤] إنْ كانَ لِلْمُؤْمِنِينَ فالرَّحْمَةُ الإنْجاءُ مِن كُفّارِ مَكَّةَ وأذاهم، والتَّعْذِيبُ تَسْلِيطُهم (p-٥٠)عَلَيْهِمْ.
﴿وما أرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ﴾ [الإسراء: ٥٤] أيْ: عَلى الكُفّارِ حافِظًا وكَفِيلًا فاشْتَغِلْ أنْتَ بِالدَّعْوَةِ، وإنَّما هِدايَتُهم إلى اللَّهِ. وقِيلَ: ﴿يَرْحَمْكُمْ﴾ [الإسراء: ٥٤] بِالهِدايَةِ إلى التَّوْفِيقِ والأعْمالِ الصّالِحَةِ، وإنْ شاءَ عَذَّبَكم بِالخِذْلانِ، وإنْ كانَ الخِطابُ لِلْكُفّارِ فَقالَ: يُقابِلُ يَرْحَمُكُمُ اللَّهُ بِالهِدايَةِ إلى الإيمانِ، و﴿يُعَذِّبْكُمْ﴾ [الإسراء: ٥٤] يُمِيتُكم عَلى الكُفْرِ. وذَكَرَ أبُو سُلَيْمانَ الدِّمَشْقِيُّ: لَمّا نَزَلَ القَحْطُ بِالمُشْرِكِينَ قالُوا: ﴿رَبَّنا اكْشِفْ عَنّا العَذابَ إنّا مُؤْمِنُونَ﴾ [الدخان: ١٢] فَقالَ اللَّهُ: ﴿رَبُّكم أعْلَمُ بِكُمْ﴾ [الإسراء: ٥٤] بِالَّذِي يُؤْمِنُ مِنَ الَّذِي لا يُؤْمِنُ ﴿إنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ﴾ [الإسراء: ٥٤] فَيَكْشِفُ القَحْطَ عَنْكم ﴿أوْ إنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ﴾ [الإسراء: ٥٤] فَيَتْرُكُهُ عَلَيْكم. وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: هَذِهِ الآيَةُ تُقَوِّي أنَّ الآيَةَ الَّتِي قَبْلَها هي ما بَيْنَ العِبادِ المُؤْمِنِينَ وكُفّارِ مَكَّةَ، وذَلِكَ أنَّ قَوْلَهُ: ﴿رَبُّكم أعْلَمُ بِكُمْ﴾ [الإسراء: ٥٤] مُخاطِبَةٌ لِكُفّارِ مَكَّةَ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: ﴿وما أرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ وكِيلًا﴾ [الإسراء: ٥٤] فَكَأنَّهُ أمَرَ المُؤْمِنِينَ أنْ لا يُخاشِنُوا الكُفّارَ في الدِّينِ، ثُمَّ قالَ: إنَّهُ أعْلَمُ بِهِمْ ورَجّاهم وخَوَّفَهم، ومَعْنى ﴿يَرْحَمْكُمْ﴾ [الإسراء: ٥٤] بِالتَّوْبَةِ عَلَيْكم قالَهُ ابْنُ جُرَيْجٍ وغَيْرُهُ. انْتَهى. وتَقَدَّمَ مِن قَوْلِ الزَّمَخْشَرِيِّ أنَّ قَوْلَهُ: ﴿رَبُّكم أعْلَمُ بِكُمْ﴾ [الإسراء: ٥٤] هي مِن قَوْلِ المُؤْمِنِينَ لِلْكُفّارِ، وأنَّهُ تَفْسِيرٌ لِقَوْلِهِ: ﴿الَّتِي هي أحْسَنُ﴾ [الإسراء: ٥٣] .
وقالَ ابْنُ الأنْبارِيِّ: (أوْ) دَخَلَتْ هُنا لِسَعَةِ الأمْرَيْنِ عِنْدَ اللَّهِ ولا يُرادُ عَنْهُما، فَكانَتْ مُلْحَقَةً بِأوِ المُبِيحَةِ في قَوْلِهِمْ: جالِسِ الحَسَنَ أوِ ابْنَ سِيرِينَ يَعْنُونَ: قَدْ وسَّعْنا لَكَ الأمْرَ. وقالَ الكَرْمانِيُّ: (أوْ) لِلْإضْرابِ، ولِهَذا كَرَّرَ (إنْ) ولَمّا ذَكَرَ تَعالى أنَّهُ أعْلَمُ بِمَن خاطَبَهم بِقَوْلِهِ: ﴿رَبُّكم أعْلَمُ بِكُمْ﴾ [الإسراء: ٥٤] انْتَقَلَ مِنَ الخُصُوصِ إلى العُمُومِ، فَقالَ مُخاطِبًا لِرَسُولِهِ ﷺ: ﴿ورَبُّكَ أعْلَمُ بِمَن في السَّماواتِ والأرْضِ﴾ لِيُبَيِّنَ أنَّ عِلْمَهُ غَيْرُ مَقْصُورٍ عَلَيْكم بَلْ عِلْمُهُ مُتَعَلِّقٌ بِجَمِيعِ مَن في السَّماواتِ والأرْضِ، بِأحْوالِهِمْ ومَقادِيرِهِمْ وما يَسْتَأْهِلُ كُلَّ واحِدٍ مِنهم، و(بِمَن) مُتَعَلِّقٌ بِأعْلَمَ كَما تَعَلَّقَ بِكم قَبْلَهُ بِأعْلَمَ، ولا يَدُلُّ تَعَلُّقُهُ بِهِ عَلى اخْتِصاصِ أعْلَمِيَّتِهِ تَعالى بِما تَعَلَّقَ بِهِ، كَقَوْلِكَ: زَيْدٌ أعْلَمُ بِالنَّحْوِ، لا يَدُلُّ هَذا عَلى أنَّهُ لَيْسَ أعْلَمَ بِغَيْرِ النَّحْوِ مِنَ العُلُومِ. وقالَ أبُو عَلِيٍّ: الباءُ تَتَعَلَّقُ بِفِعْلٍ تَقْدِيرُهُ عَلِمَ (بِمَن) قالَ: لِأنَّهُ لَوْ عَلَّقَها بِأعْلَمَ لاقْتَضى أنَّهُ لَيْسَ بِأعْلَمَ بِغَيْرِ ذَلِكَ وهَذا لا يَلْزَمُ، وأيْضًا فَإنَّ عَلِمَ لا يَتَعَدّى بِالباءِ إنَّما يَتَعَدّى لِواحِدٍ بِنَفْسِهِ لا بِواسِطَةِ حَرْفِ الجَرِّ أوْ لا يُبَيِّنُ عَلى ما تَقَرَّرَ في عِلْمِ النَّحْوِ. ولَمّا كانَ الكُفّارُ قَدِ اسْتَبْعَدُوا تَنْبِئَةَ البَشَرِ إذْ فِيهِ تَفْضِيلُ الأنْبِياءِ عَلى غَيْرِهِمْ أخْبَرَ تَعالى بِتَفْضِيلِ الأنْبِياءِ عَلى بَعْضٍ إشارَةً إلى أنَّهُ لا يُسْتَبْعَدُ تَفْضِيلُ الأنْبِياءِ عَلى غَيْرِهِمْ إذْ وقَعَ التَّفْضِيلُ في هَذا الجِنْسِ المُفَضَّلِ عَلى النّاسِ، واللَّهُ تَعالى أعْلَمُ بِما خَصَّ كُلَّ واحِدٍ مِنَ المَزايا فَهو يُفَضِّلُ مَن شاءَ مِنهم عَلى مَن شاءَ إذْ هو الحَكِيمُ فَلا يَصْدُرُ شَيْءٌ إلّا عَنْ حِكْمَتِهِ، وفِيهِ إشارَةٌ إلى أنَّهُ لا يُسْتَنْكَرُ تَفْضِيلُ مُحَمَّدٍ ﷺ عَلى سائِرِ الأنْبِياءِ وخُصَّ داوُدُ بِالذِّكْرِ هُنا؛ لِأنَّهُ تَعالى ذَكَرَ في الزَّبُورِ أنَّ مُحَمَّدًا خاتَمُ الأنْبِياءِ وأنَّ أُمَّتَهُ خَيْرُ الأُمَمِ، وقالَ تَعالى: ﴿ولَقَدْ كَتَبْنا في الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أنَّ الأرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصّالِحُونَ﴾ [الأنبياء: ١٠٥] وهم مُحَمَّدٌ وأُمَّتُهُ، وكانَتْ قُرَيْشٌ تَرْجِعُ إلى اليَهُودِ كَثِيرًا فِيما يُخْبِرُونَ بِهِ مِمّا في كُتُبِهِمْ، فَنَبَّهَ عَلى أنَّ زَبُورَ داوُدَ تَضَمَّنَ البِشارَةَ بِمُحَمَّدٍ ﷺ، وفي ذَلِكَ إشارَةُ رَدٍّ عَلى مُكابِرِي اليَهُودِ حَيْثُ قالُوا: لا نَبِيَّ بَعْدَ مُوسى، ولا كِتابَ بَعْدَ التَّوْراةِ، ونَصَّ تَعالى هُنا عَلى إيتاءِ داوُدَ الزَّبُورَ، وإنْ كانَ قَدْ آتاهُ مَعَ ذَلِكَ المُلْكَ إشارَةً إلى أنَّ التَّفْضِيلَ المَحْضَ هو بِالعِلْمِ الَّذِي آتاهُ، والكِتابِ الَّذِي أنْزَلَ عَلَيْهِ كَما فُضِّلَ مُحَمَّدٌ ﷺ بِما آتاهُ مِنَ العِلْمِ والقُرْآنِ الَّذِي خَصَّهُ بِهِ. وتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ ﴿وآتَيْنا داوُدَ زَبُورًا﴾ في أواخِرِ النِّساءِ، وذِكْرُ الخِلافِ في ضَمِّ الزّايِ وفَتْحِها.
وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ هُنا: فَإنْ قُلْتَ: هَلّا عُرِّفَ الزَّبُورُ كَما عُرِّفَ في ﴿ولَقَدْ كَتَبْنا في الزَّبُورِ﴾ [الأنبياء: ١٠٥] قُلْتُ: يَجُوزُ أنْ يَكُونَ الزَّبُورُ وزَبُورٌ كالعَبّاسِ وعَبّاسٍ والفَضْلِ وفَضْلٍ، وأنْ يُرِيدَ ﴿وآتَيْنا داوُدَ﴾ بَعْضَ الزَّبُورِ، وهي الكُتُبُ وأنْ يُرِيدَ ما ذُكِرَ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ (p-٥١)عَلَيْهِ وسَلَّمَ مِنَ الزَّبُورِ، فَسُمِّيَ ذَلِكَ زَبُورًا لِأنَّهُ بَعْضُ الزَّبُورِ كَما سُمِّيَ بَعْضُ القُرْآنِ قُرْآنًا.
{"ayah":"وَرَبُّكَ أَعۡلَمُ بِمَن فِی ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۗ وَلَقَدۡ فَضَّلۡنَا بَعۡضَ ٱلنَّبِیِّـۧنَ عَلَىٰ بَعۡضࣲۖ وَءَاتَیۡنَا دَاوُۥدَ زَبُورࣰا"}