قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وقُلْ لِعِبادِي يَقُولُوا الَّتِي هي أحْسَنُ إنَّ الشَّيْطانَ يَنْزَغُ بَيْنَهم إنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلْإنْسانِ عَدُوًّا مُبِينًا﴾ ﴿رَبُّكم أعْلَمُ بِكم إنْ يَشَأْ يَرْحَمْكم أوْ إنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكم وما أرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ وكِيلًا﴾ ﴿ورَبُّكَ أعْلَمُ بِمَن في السَّماواتِ والأرْضِ ولَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ وآتَيْنا داوُدَ زَبُورًا﴾ .
اعْلَمْ أنَّ قَوْلَهُ: ﴿قُلْ لِعِبادِيَ﴾ فِيهِ قَوْلانِ:
القَوْلُ الأوَّلُ: أنَّ المُرادَ بِهِ المُؤْمِنُونَ، وذَلِكَ لِأنَّ لَفْظَ العِبادِ في أكْثَرِ آياتِ القُرْآنِ مُخْتَصٌّ بِالمُؤْمِنِينَ قالَ تَعالى: ﴿فَبَشِّرْ عِبادِي﴾ ﴿الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ القَوْلَ﴾ [الزمر: ١٧ - ١٨] وقالَ: ﴿فادْخُلِي في عِبادِي﴾ [الفجر: ٢٩] وقالَ: ﴿عَيْنًا يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللَّهِ﴾ [الإنسان: ٦] .
إذا عَرَفْتَ هَذا فَنَقُولُ: إنَّهُ تَعالى لَمّا ذَكَرَ الحُجَّةَ اليَقِينِيَّةَ في إبْطالِ الشِّرْكِ وهو قَوْلُهُ: ﴿لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَما يَقُولُونَ إذًا لابْتَغَوْا إلى ذِي العَرْشِ سَبِيلًا﴾ [الإسراء: ٤٢] وذَكَرَ الحُجَّةَ اليَقِينِيَّةَ في صِحَّةِ المَعادِ وهو قَوْلُهُ: ﴿قُلِ الَّذِي فَطَرَكم أوَّلَ مَرَّةٍ﴾ [الإسراء: ٥١] قالَ في هَذِهِ الآيَةِ وقُلْ يا مُحَمَّدُ لِعِبادِي إذا أرَدْتُمْ إيرادَ الحُجَّةِ عَلى المُخالِفِينَ فاذْكُرُوا تِلْكَ الدَّلائِلَ بِالطَّرِيقِ الأحْسَنِ. وهو أنْ لا يَكُونَ ذِكْرُ الحُجَّةِ مَخْلُوطًا بِالشَّتْمِ والسَّبِّ، ونَظِيرُ هَذِهِ الآيَةِ قَوْلُهُ: ﴿ادْعُ إلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالحِكْمَةِ والمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ﴾ [النحل: ١٢٥] وقَوْلُهُ: ﴿ولا تُجادِلُوا أهْلَ الكِتابِ إلّا بِالَّتِي هي أحْسَنُ﴾ [العنكبوت: ٤٦] وذَلِكَ لِأنَّ ذِكْرَ الحُجَّةِ لَوِ اخْتَلَطَ بِهِ شَيْءٌ مِنَ السَّبِّ والشَّتْمِ لَقابَلُوكم بِمِثْلِهِ كَما قالَ: ﴿ولا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾ [الأنعام: ١٠٨] ويَزْدادُ الغَضَبُ وتَتَكامَلُ النَّفْرَةُ ويَمْتَنِعُ حُصُولُ المَقْصُودِ، أمّا إذا وقَعَ الِاقْتِصارُ عَلى ذِكْرِ الحُجَّةِ بِالطَّرِيقِ (p-١٨٣)الأحْسَنِ الخالِي عَنِ الشَّتْمِ والإيذاءِ أثَّرَ في القَلْبِ تَأْثِيرًا شَدِيدًا فَهَذا هو المُرادُ مِن قَوْلِهِ: ﴿وقُلْ لِعِبادِي يَقُولُوا الَّتِي هي أحْسَنُ﴾ ثُمَّ إنَّهُ تَعالى نَبَّهَ عَلى وجْهِ المَنفَعَةِ في هَذا الطَّرِيقِ فَقالَ: ﴿إنَّ الشَّيْطانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ﴾ جامِعًا لِلْفَرِيقَيْنِ أيْ: مَتى صارَتِ الحُجَّةُ مَرَّةً مَمْزُوجَةً بِالبَذاءَةِ صارَتْ سَبَبًا لِثَوَرانِ الفِتْنَةِ.
* * *
ثُمَّ قالَ: ﴿إنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلْإنْسانِ عَدُوًّا مُبِينًا﴾ والمَعْنى: أنَّ العَداوَةَ الحاصِلَةَ بَيْنَ الشَّيْطانِ وبَيْنَ الإنْسانِ عَداوَةٌ قَدِيمَةٌ قالَ تَعالى حِكايَةً عَنْهُ: ﴿ثُمَّ لَآتِيَنَّهم مِن بَيْنِ أيْدِيهِمْ ومِن خَلْفِهِمْ وعَنْ أيْمانِهِمْ وعَنْ شَمائِلِهِمْ﴾ [الأعراف: ١٧] وقالَ: ﴿كَمَثَلِ الشَّيْطانِ إذْ قالَ لِلْإنْسانِ اكْفُرْ فَلَمّا كَفَرَ قالَ إنِّي بَرِيءٌ مِنكَ إنِّي أخافُ اللَّهَ رَبَّ العالَمِينَ﴾ [الحشر: ١٦] وقالَ: ﴿وإذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أعْمالَهُمْ﴾ [الأنفال: ٤٨] وقالَ: ﴿لا غالِبَ لَكُمُ اليَوْمَ مِنَ النّاسِ وإنِّي جارٌ لَكُمْ﴾ إلى قَوْلِهِ: ﴿إنِّي بَرِيءٌ مِنكُمْ﴾ [الأنفال: ٤٨] .
* * *
ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿رَبُّكم أعْلَمُ بِكم إنْ يَشَأْ يَرْحَمْكم أوْ إنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ﴾ واعْلَمْ أنّا إنَّما نَتَكَلَّمُ الآنَ عَلى تَقْدِيرِ أنَّ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿قُلْ لِعِبادِيَ﴾ المُرادُ بِهِ المُؤْمِنُونَ، وعَلى هَذا التَّقْدِيرِ فَقَوْلُهُ: ﴿رَبُّكم أعْلَمُ بِكُمْ﴾ خِطابٌ مَعَ المُؤْمِنِينَ، والمَعْنى: إنْ يَشَأْ يَرْحَمْكم، والمُرادُ بِتِلْكَ الرَّحْمَةِ الإنْجاءُ مِن كَفّارِ مَكَّةَ وأذاهم أوْ إنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكم بِتَسْلِيطِهِمْ عَلَيْكم. ثُمَّ قالَ: ﴿وما أرْسَلْناكَ﴾ يا مُحَمَّدُ ﴿عَلَيْهِمْ وكِيلًا﴾ أيْ: حافِظًا وكَفِيلًا فاشْتَغِلْ أنْتَ بِالدَّعْوَةِ ولا شَيْءَ عَلَيْكَ مِن كُفْرِهِمْ فَإنْ شاءَ اللَّهُ هِدايَتَهم هَداهم، وإلّا فَلا.
والقَوْلُ الثّانِي: أنَّ المُرادَ مِن قَوْلِهِ: ﴿وقُلْ لِعِبادِي﴾ الكُفّارُ، وذَلِكَ لِأنَّ المَقْصُودَ مِن هَذِهِ الآياتِ الدَّعْوَةُ، فَلا يَبْعُدُ في مِثْلِ هَذا المَوْضِعِ أنْ يُخاطَبُوا بِالخِطابِ الحَسَنِ لِيَصِيرَ ذَلِكَ سَبَبًا لِجَذْبِ قُلُوبِهِمْ ومَيْلِ طِباعِهِمْ إلى قَبُولِ الدِّينِ الحَقِّ، فَكَأنَّهُ تَعالى قالَ: يا مُحَمَّدُ قُلْ لِعِبادِي الَّذِينَ أقَرُّوا بِكَوْنِهِمْ عِبادًا لِي يَقُولُوا الَّتِي هي أحْسَنُ. وذَلِكَ لِأنّا قَبْلَ النَّظَرِ في الدَّلائِلِ والبَيِّناتِ نَعْلَمُ بِالضَّرُورَةِ أنَّ وصْفَ اللَّهِ تَعالى بِالتَّوْحِيدِ والبَراءَةِ عَنِ الشُّرَكاءِ والأضْدادِ أحْسَنُ مِن إثْباتِ الشُّرَكاءِ والأضْدادِ، ووَصْفَهُ بِالقُدْرَةِ عَلى الحَشْرِ والنَّشْرِ بَعْدَ المَوْتِ أحْسَنُ مِن وصْفِهِ بِالعَجْزِ عَنْ ذَلِكَ، وعَرَّفَهم أنَّهُ لا يَنْبَغِي لَهم أنْ يُصِرُّوا عَلى تِلْكَ المَذاهِبِ الباطِلَةِ تَعَصُّبًا لِلْأسْلافِ، لِأنَّ الحامِلَ عَلى مِثْلِ هَذا التَّعَصُّبِ هو الشَّيْطانُ، والشَّيْطانُ عَدُوٌّ، فَلا يَنْبَغِي أنْ يَلْتَفِتَ إلى قَوْلِهِ ثُمَّ قالَ لَهم: ﴿رَبُّكم أعْلَمُ بِكم إنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ﴾ بِأنْ يُوَفِّقَكم لِلْإيمانِ والهِدايَةِ والمَعْرِفَةِ. وإنْ يَشَأْ يُمِتْكم، عَلى الكُفْرِ فَيُعَذِّبْكم، إلّا أنَّ تِلْكَ المَشِيئَةَ غائِبَةٌ عَنْكم فاجْتَهِدُوا أنْتُمْ في طَلَبِ الدِّينِ الحَقِّ، ولا تُصِرُّوا عَلى الباطِلِ والجَهْلِ لِئَلّا تَصِيرُوا مَحْرُومِينَ عَنِ السَّعاداتِ الأبَدِيَّةِ والخَيْراتِ السَّرْمَدِيَّةِ، ثُمَّ قالَ لِمُحَمَّدٍ ﷺ: ﴿وما أرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ وكِيلًا﴾ أيْ: لا تُشَدِّدِ الأمْرَ عَلَيْهِمْ ولا تُغْلِظْ لَهم في القَوْلِ، والمَقْصُودُ مِن كُلِّ هَذِهِ الكَلِماتِ: إظْهارُ اللِّينِ والرِّفْقِ لَهم عِنْدَ الدَّعْوَةِ فَإنَّ ذَلِكَ هو الَّذِي يُؤَثِّرُ في القَلْبِ ويُفِيدُ حُصُولَ المَقْصُودِ.
* * *
ثُمَّ قالَ: ﴿ورَبُّكَ أعْلَمُ بِمَن في السَّماواتِ والأرْضِ﴾ والمَعْنى أنَّهُ لَمّا قالَ قَبْلَ ذَلِكَ: ﴿رَبُّكم أعْلَمُ بِكُمْ﴾ قالَ بَعْدَهُ: ﴿ورَبُّكَ أعْلَمُ بِمَن في السَّماواتِ والأرْضِ﴾ بِمَعْنى أنَّ عِلْمَهُ غَيْرُ مَقْصُورٍ عَلَيْكم ولا عَلى أحْوالِكم بَلْ عِلْمُهُ مُتَعَلِّقٌ بِجَمِيعِ المَوْجُوداتِ والمَعْدُوماتِ ومُتَعَلِّقٌ بِجَمِيعِ ذَواتِ الأرَضِينَ والسَّماواتِ فَيَعْلَمُ حالَ كُلِّ واحِدٍ ويَعْلَمُ ما يَلِيقُ بِهِ مِنَ المَصالِحِ والمَفاسِدِ، فَلِهَذا السَّبَبِ فَضَّلَ بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ وآتى مُوسى التَّوْراةَ وداوُدَ الزَّبُورَ وعِيسى الإنْجِيلَ، فَلَمْ يَبْعُدْ أيْضًا أنْ يُؤْتِيَ مُحَمَّدًا القُرْآنَ ولَمْ يَبْعُدْ أنْ يُفَضِّلَهُ عَلى جَمِيعِ الخَلْقِ. (p-١٨٤)
فَإنْ قِيلَ: ما السَّبَبُ في تَخْصِيصِ داوُدَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ في هَذا المَقامِ بِالذِّكْرِ.
قُلْنا: فِيهِ وُجُوهٌ:
الوَجْهُ الأوَّلُ: أنَّهُ تَعالى ذَكَرَ أنَّهُ فَضَّلَ بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ.
* * *
ثُمَّ قالَ: ﴿وآتَيْنا داوُدَ زَبُورًا﴾ يَعْنِي أنَّ داوُدَ كانَ مَلِكًا عَظِيمًا، ثُمَّ إنَّهُ تَعالى لَمْ يَذْكُرْ ما آتاهُ مِنَ المُلْكِ وذَكَرَ ما آتاهُ مِنَ الكِتابِ، تَنْبِيهًا عَلى أنَّ التَّفْضِيلَ الَّذِي ذَكَرَهُ قَبْلَ ذَلِكَ، المُرادُ مِنهُ التَّفْضِيلُ بِالعِلْمِ والدِّينِ لا بِالمالِ.
والوَجْهُ الثّانِي: أنَّ السَّبَبَ في تَخْصِيصِهِ بِالذِّكْرِ أنَّهُ تَعالى كَتَبَ في الزَّبُورِ أنَّ مُحَمَّدًا خاتَمُ النَّبِيِّينَ وأنَّ أُمَّتَهُ خَيْرُ الأُمَمِ قالَ تَعالى: ﴿ولَقَدْ كَتَبْنا في الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أنَّ الأرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصّالِحُونَ﴾ [الأنبياء: ١٠٥] وهْمُ مُحَمَّدٌ وأُمَّتُهُ.
فَإنْ قِيلَ: هَلّا عُرِّفَ كَما في قَوْلِهِ: ﴿ولَقَدْ كَتَبْنا في الزَّبُورِ﴾ .
قُلْنا: التَّنْكِيرُ هَهُنا يَدُلُّ عَلى تَعْظِيمِ حالِهِ، لِأنَّ الزَّبُورَ عِبارَةٌ عَنِ المَزْبُورِ فَكانَ مَعْناهُ الكِتابَ فَكانَ مَعْنى التَّنْكِيرِ أنَّهُ كامِلٌ في كَوْنِهِ كِتابًا.
والوَجْهُ الثّالِثُ: أنَّ السَّبَبَ فِيهِ أنَّ كُفّارَ قُرَيْشٍ ما كانُوا أهْلَ نَظَرٍ وجَدَلٍ بَلْ كانُوا يَرْجِعُونَ إلى اليَهُودِ في اسْتِخْراجِ الشُّبُهاتِ واليَهُودُ كانُوا يَقُولُونَ: إنَّهُ لا نَبِيَّ بَعْدَ مُوسى ولا كِتابَ بَعْدَ التَّوْراةِ فَنَقَضَ اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِمْ كَلامَهم بِإنْزالِ الزَّبُورِ عَلى داوُدَ، وقَرَأ حَمْزَةُ: ”زُبُورًا“ بِضَمِّ الزّايِ، وذَكَرْنا وجْهَ ذَلِكَ في آخِرِ سُورَةِ النِّساءِ.
{"ayahs_start":53,"ayahs":["وَقُل لِّعِبَادِی یَقُولُوا۟ ٱلَّتِی هِیَ أَحۡسَنُۚ إِنَّ ٱلشَّیۡطَـٰنَ یَنزَغُ بَیۡنَهُمۡۚ إِنَّ ٱلشَّیۡطَـٰنَ كَانَ لِلۡإِنسَـٰنِ عَدُوࣰّا مُّبِینࣰا","رَّبُّكُمۡ أَعۡلَمُ بِكُمۡۖ إِن یَشَأۡ یَرۡحَمۡكُمۡ أَوۡ إِن یَشَأۡ یُعَذِّبۡكُمۡۚ وَمَاۤ أَرۡسَلۡنَـٰكَ عَلَیۡهِمۡ وَكِیلࣰا","وَرَبُّكَ أَعۡلَمُ بِمَن فِی ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۗ وَلَقَدۡ فَضَّلۡنَا بَعۡضَ ٱلنَّبِیِّـۧنَ عَلَىٰ بَعۡضࣲۖ وَءَاتَیۡنَا دَاوُۥدَ زَبُورࣰا"],"ayah":"وَرَبُّكَ أَعۡلَمُ بِمَن فِی ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۗ وَلَقَدۡ فَضَّلۡنَا بَعۡضَ ٱلنَّبِیِّـۧنَ عَلَىٰ بَعۡضࣲۖ وَءَاتَیۡنَا دَاوُۥدَ زَبُورࣰا"}