الباحث القرآني
(p-١٢)﴿إنَّ هَذا القُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هي أقْوَمُ ويُبَشِّرُ المُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصّالِحاتِ أنَّ لَهم أجْرًا كَبِيرًا﴾ ﴿وأنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ أعْتَدْنا لَهم عَذابًا ألِيمًا﴾ ﴿ويَدْعُ الإنْسانُ بِالشَّرِّ دُعاءَهُ بِالخَيْرِ وكانَ الإنْسانُ عَجُولًا﴾ ﴿وجَعَلْنا اللَّيْلَ والنَّهارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِن رَبِّكم ولِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ والحِسابَ وكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْناهُ تَفْصِيلًا﴾ ﴿وكُلَّ إنْسانٍ ألْزَمْناهُ طائِرَهُ في عُنُقِهِ ونُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ القِيامَةِ كِتابًا يَلْقاهُ مَنشُورًا﴾ ﴿اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ اليَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا﴾ ﴿مَنِ اهْتَدى فَإنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ ومَن ضَلَّ فَإنَّما يَضِلُّ عَلَيْها ولا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وما كُنّا مُعَذِّبِينَ حَتّى نَبْعَثَ رَسُولًا﴾ .
(p-١٣)لَمّا ذَكَرَ تَعالى مَنِ اخْتَصَّهُ بِالإسْراءِ وهو مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ ومَن آتاهُ التَّوْراةَ وهو مُوسى - عَلَيْهِ السَّلامُ - وأنَّها هُدًى لِبَنِي إسْرائِيلَ، وذَكَرَ ما قَضى عَلَيْهِمْ فِيها مِنَ التَّسْلِيطِ عَلَيْهِمْ بِذُنُوبِهِمْ، كانَ ذَلِكَ رادِعًا مَن عَقَلَ عَنْ مَعاصِي اللَّهِ فَذَكَرَ ما شَرَّفَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ مِنَ القُرْآنِ النّاسِخِ لِحُكْمِ التَّوْراةِ، وكُلِّ كِتابٍ إلَهِيٍّ، وأنَّهُ يَهْدِي لِلطَّرِيقَةِ أوِ الحالَةِ الَّتِي هي أقْوَمُ. وقالَ الضَّحّاكُ والكَلْبِيُّ والفَرّاءُ (الَّتِي هي أقْوَمُ) هي شَهادَةُ التَّوْحِيدِ. وقالَ مُقاتِلٌ: لِلْأوامِرِ والنَّواهِي و(أقْوَمُ) هُنا أفْعَلُ التَّفْضِيلِ عَلى قَوْلِ الزَّجّاجِ إذْ قُدِّرَ أقْوَمُ الحالاتِ، وقَدَّرَهُ غَيْرُهُ أقْوَمُ مِمّا عَداها أوْ مِن كُلِّ حالٍ، والَّذِي يَظْهَرُ مِن حَيْثُ المَعْنى أنَّ ﴿أقْوَمُ﴾ هُنا لا يُرادُ بِها التَّفْضِيلُ؛ إذْ لا مُشارَكَةَ بَيْنَ الطَّرِيقَةِ الَّتِي يُرْشِدُ إلَيْها القُرْآنُ وطَرِيقَةٍ غَيْرِها، وفُضِّلَتْ هَذِهِ عَلَيْها، وإنَّما المَعْنى: الَّتِي هي قَيِّمَةٌ أيْ: مُسْتَقِيمَةٌ كَما قالَ: ﴿وذَلِكَ دِينُ القَيِّمَةِ﴾ [البينة: ٥] و﴿فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ﴾ [البينة: ٣] أيْ: مُسْتَقِيمَةُ الطَّرِيقَةِ، قائِمَةٌ بِما يُحْتاجُ إلَيْهِ مِن أمْرِ الدِّينِ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (الَّتِي هي أقْوَمُ) لِلْحالَةِ الَّتِي هي أقْوَمُ الحالاتِ وأشَدُّها أوْ لِلْمِلَّةِ أوْ لِلطَّرِيقَةِ، وأيْنَما قَدَّرْتَ لَمْ تَجِدْ مَعَ الإثْباتِ ذَوْقَ البَلاغَةِ الَّذِي تَجِدُهُ مَعَ الحَذْفِ لِما في إبْهامِ المَوْصُوفِ لِحَذْفِهِ مِن فَخامَةٍ تُفْقَدُ مَعَ إيضاحِهِ. انْتَهى.
﴿ويُبَشِّرُ المُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصّالِحاتِ﴾ قَيْدٌ في الإيمانِ الكامِلِ إذِ العَمَلُ هو كَمالُ الإيمانِ، نَبَّهَ عَلى الحالَةِ الكامِلَةِ؛ لِيَتَحَلّى بِها المُؤْمِنُ، والمُؤْمِنُ المُفَرِّطُ في عَمَلِهِ لَهُ بِإيمانِهِ حَظٌّ في عَمَلِ الصّالِحاتِ، والأجْرُ الكَبِيرُ الجَنَّةُ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإنْ قُلْتَ: كَيْفَ ذَكَرَ المُؤْمِنِينَ الأبْرارَ والكُفّارَ ولَمْ يَذْكُرِ الفَسَقَةَ ؟ قُلْتُ: كانَ النّاسُ حِينَئِذٍ إمّا مُؤْمِنٌ تَقِيٌّ، وإمّا مُشْرِكٌ، وإنَّما حَدَثَ أصْحابُ المَنزِلَةِ بَيْنَ المَنزِلَتَيْنِ بَعْدَ ذَلِكَ. انْتَهى. وهَذا مُكابَرَةٌ بَلْ وقَعَ في زَمانِ الرَّسُولِ ﷺ مِن بَعْضِ المُؤْمِنِينَ هَناتٌ وسَقَطاتٌ، بَعْضُها مَذْكُورٌ في القُرْآنِ، وبَعْضُها مَذْكُورٌ في الحَدِيثِ الصَّحِيحِ الثّابِتِ.
﴿وأنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ﴾ عُطِفَ عَلى قَوْلِهِ: ﴿أنَّ لَهم أجْرًا كَبِيرًا﴾ بُشِّرُوا بِفَوْزِهِمْ بِالجَنَّةِ، وبِكَيْنُونَةِ العَذابِ الألِيمِ لِأعْدائِهِمُ الكُفّارِ، إذْ في عِلْمِ المُؤْمِنِينَ بِذَلِكَ وتَبْشِيرِهِمْ بِهِ مَسَرَّةٌ لَهم، فَهُما بِشارَتانِ، وفِيهِ وعِيدٌ لِلْكُفّارِ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: ويَجُوزُ أنْ يُرادَ ويُخْبَرَ بِأنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ. انْتَهى. فَلا يَكُونُ إذْ ذاكَ داخِلًا تَحْتَ البِشارَةِ. وفي قَوْلِهِ: ﴿وأنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ﴾ دَلِيلٌ عَلى أنَّ مَن آمَنَ بِالآخِرَةِ لا يُعَدُّ لَهُ عَذابٌ ألِيمٌ، وأنَّهُ لَيْسَ عَمَلُ الصّالِحاتِ شَرْطًا في نَجاتِهِ مِنَ العَذابِ.
وقَرَأ الجُمْهُورُ (ويُبَشِّرُ) مُشَدَّدًا مُضارِعُ بَشَّرَ المُشَدَّدِ. وقَرَأ عَبْدُ اللَّهِ وطَلْحَةُ وابْنُ وثّابٍ والأخَوانِ (ويَبْشُرُ) مُضارِعُ بَشَرَ المُخَفَّفِ ومَعْنى (أعْتَدْنا) أعْدَدْنا وهَيَّأْنا، وهَذِهِ الآيَةُ جاءَتْ عَقِبَ ذِكْرِ أحْوالِ اليَهُودِ، وانْدَرَجُوا فِيمَن لا يُؤْمِنُ بِالآخِرَةِ؛ لِأنَّ أكْثَرَهم لا يَقُولُ بِالثَّوابِ والعِقابِ الجُسْمانِيِّ، وبَعْضُهم قالَ: (لَنْ ﴿تَمَسَّنا النّارُ إلّا أيّامًا مَعْدُودَةً﴾ [البقرة: ٨٠]) فَلَمْ يُؤْمِنُوا بِالآخِرَةِ حَقِيقَةَ الإيمانِ بِها.
﴿ويَدْعُ الإنْسانُ﴾ قالَ ابْنُ عَبّاسٍ ومُجاهِدٌ وقَتادَةُ: نَزَلَتْ ذامَّةً لِما يَفْعَلُهُ النّاسُ مِنَ الدُّعاءِ عَلى أمْوالِهِمْ وأبْنائِهِمْ في أوْقاتِ الغَضَبِ والضَّجَرِ، ومُناسَبَتُها لِما قَبْلَها أنَّ بَعْضَ مَن لا يُؤْمِنُ بِالآخِرَةِ كانَ يَدْعُو عَلى نَفْسِهِ بِتَعْجِيلِ ما وُعِدَ بِهِ مِنَ الشَّرِّ في الآخِرَةِ، كَقَوْلِ النَّضْرِ: ﴿فَأمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً﴾ [الأنفال: ٣٢] الآيَةَ. وكُتِبَ ﴿ويَدْعُ﴾ بِغَيْرِ واوٍ عَلى حَسَبِ السَّمْعِ، والإنْسانُ هُنا لَيْسَ واحِدًا مُعَيَّنًا، والمَعْنى: أنَّ في طِباعِ الإنْسانِ أنَّهُ إذا ضَجِرَ وغَضِبَ دَعا عَلى نَفْسِهِ وأهْلِهِ ومالِهِ بِالشَّرِّ أنْ يُصِيبَهُ، كَما يَدْعُو بِالخَيْرِ أنْ يُصِيبَهُ، ثُمَّ ذَكَرَ تَعالى أنَّ ذَلِكَ مِن عَدَمِ تَثَبُّتِهِ وقِلَّةِ صَبْرِهِ. وعَنْ سَلْمانَ الفارِسِيِّ وابْنِ عَبّاسٍ: أشارَ بِهِ إلى آدَمَ لَمّا نُفِخَ الرُّوحُ في رَأْسِهِ عَطَسَ وأبْصَرَ، فَلَمّا مَشى الرُّوحُ في بَدَنِهِ قَبْلَ ساقِهِ أعْجَبَتْهُ نَفْسُهُ فَذَهَبَ يَمْشِي مُسْتَعْجِلًا فَلَمْ يَقْدِرْ، أوِ المَعْنى ذُو عَجَلَةٍ مَوْرُوثَةٍ مِن أبِيكُمُ. انْتَهى. وهَذا القَوْلُ تَنْبُو عَنْهُ ألْفاظُ (p-١٤)الآيَةِ. وقالَتْ فِرْقَةٌ: هَذِهِ الآيَةُ ذَمٌّ لِقُرَيْشٍ الَّذِينَ قالُوا: ﴿اللَّهُمَّ إنْ كانَ هَذا هو الحَقَّ مِن عِنْدِكَ﴾ [الأنفال: ٣٢] الآيَةَ. وكانَ الأوْلى أنْ يَقُولُوا: فاهْدِنا إلَيْهِ وارْحَمْنا. وقالَتْ فِرْقَةٌ: هي مُعاتَبَةٌ لِلنّاسِ عَلى أنَّهم إذا نالَهم شَرٌّ وضُرٌّ دَعَوْا وألَحُّوا في الدُّعاءِ واسْتَعْجَلُوا الفَرَجَ، مِثْلَ الدُّعاءِ الَّذِي كانَ يَجِبُ أنْ يَدْعُوهُ في حالَةِ الخَيْرِ. انْتَهى. والباءُ في (بِالشَّرِّ) و(بِالخَيْرِ) عَلى هَذا بِمَعْنى في، والمَدْعُوُّ بِهِ لَيْسَ الشَّرَّ ولا الخَيْرَ، ويُرادُ عَلى هَذا أنْ تَكُونَ حالَتاهُ في الشَّرِّ والخَيْرِ مُتَساوِيَتَيْنِ في الدُّعاءِ والتَّضَرُّعِ لِلَّهِ والرَّغْبَةِ والذِّكْرِ، ويَنْبُوا عَنْ هَذا المَعْنى قَوْلُهُ: ﴿دُعاءَهُ﴾ إذْ هو مَصْدَرٌ تَشْبِيهِيٌّ يَقْتَضِي وُجُودَهُ، وفي هَذا القَوْلِ شَبَّهَ ﴿دُعاءَهُ﴾ في حالَةِ الشَّرِّ بِدُعاءٍ مَقْصُودٍ كانَ يَنْبَغِي أنْ يُوجَدَ في حالَةِ الخَيْرِ.
وقِيلَ: المَعْنى ﴿ويَدْعُ الإنْسانُ﴾ في طَلَبِ المُحَرَّمِ، كَما يَدْعُو في طَلَبِ المُباحِ ﴿وجَعَلْنا اللَّيْلَ والنَّهارَ آيَتَيْنِ﴾ لَمّا ذَكَرَ تَعالى القُرْآنَ وأنَّهُ هادٍ إلى الطَّرِيقَةِ المُسْتَقِيمَةِ، ذَكَرَ ما أنْعَمَ بِهِ مِمّا لَمْ يَكْمُلِ الِانْتِفاعُ إلّا بِهِ، وما دَلَّ عَلى تَوْحِيدِهِ مِن عَجائِبِ العالَمِ العُلْوِيِّ، وأيْضًا لَمّا ذَكَرَ عَجَلَةَ الإنْسانِ وانْتِقالَهُ مِن حالٍ إلى حالٍ ذَكَرَ أنَّ كُلَّ هَذا العالَمِ كَذَلِكَ في الِانْتِقالِ لا يَثْبُتُ عَلى حالٍ، فَنُورٌ عَقِبَ ظُلْمَةٍ وبِالعَكْسِ، وازْدِيادُ نُورٍ وانْتِقاضٌ. والظّاهِرُ أنَّ (اللَّيْلَ والنَّهارَ) مَفْعُولٌ أوَّلٌ لِجَعَلَ بِمَعْنى صَيَّرَ، و﴿آيَتَيْنِ﴾ ثانِي المَفْعُولَيْنِ، ويَكُونانِ في أنْفُسِهِما آيَتَيْنِ؛ لِأنَّهُما عَلامَتانِ لِلنَّظَرِ والعِبْرَةِ، وتَكُونُ الإضافَةُ في آيَةِ اللَّيْلِ وآيَةِ النَّهارِ لِلتَّبْيِينِ كَإضافَةِ العَدَدِ إلى المَعْدُودِ، أيْ فَمَحَوْنا الآيَةَ الَّتِي هي اللَّيْلُ، وجَعَلْنا الآيَةَ الَّتِي هي النَّهارُ مُبْصِرَةً. وقِيلَ: هو عَلى حَذْفِ مُضافٍ فَقَدَّرَهُ بَعْضُهم، وجَعَلْنا نَيِّرَيِ اللَّيْلِ والنَّهارِ آيَتَيْنِ، وقَدَّرَهُ بَعْضُهم وجَعَلْنا ذَوَيِ اللَّيْلِ والنَّهارِ أيْ: صاحِبَيِ اللَّيْلِ والنَّهارِ، وعَلى كِلا التَّقْدِيرَيْنِ يُرادُ بِهِ الشَّمْسُ والقَمَرُ، ويَظْهَرُ أنَّ ﴿آيَتَيْنِ﴾ هو المَفْعُولُ الأوَّلُ، و(اللَّيْلَ والنَّهارَ) ظَرْفانِ في مَوْضِعِ المَفْعُولِ الثّانِي، أيْ: وجَعَلْنا في اللَّيْلِ والنَّهارِ آيَتَيْنِ. وقالَ الكَرْمانِيُّ: لَيْسَ جَعَلَ هُنا بِمَعْنى صَيَّرَ؛ لِأنَّ ذَلِكَ يَقْتَضِي حالَةً تَقَدَّمَتْ نُقِلَ الشَّيْءُ عَنْها إلى حالَةٍ أُخْرى، ولا بِمَعْنى سَمّى وحَكَمَ، والآيَةُ فِيها إقْبالُ كُلِّ واحِدٍ مِنهُما وإدْبارُهُ مِن حَيْثُ لا يُعْلَمُ، ونُقْصانُ أحَدِهِما بِزِيادَةِ الآخَرِ، وضَوْءُ النَّهارِ وظُلْمَةُ اللَّيْلِ ﴿فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ﴾ إذا قُلْنا أنَّ اللَّيْلَ والنَّهارَ هُما المَجْعُولانِ آيَتَيْنِ فَمَحْوُ آيَةِ اللَّيْلِ عِبارَةٌ عَنِ السَّوادِ الَّذِي فِيهِ، بَلْ خُلِقَ أسْوَدَ أوَّلَ حالِهِ، ولا تَقْتَضِي الفاءُ تَعْقِيبًا، وهَذا كَما يَقُولُ: بَنَيْتُ دارِي فَبَدَأْتُ بِالأُسِّ. وإذا قُلْنا: إنَّ الآيَتَيْنِ هُما الشَّمْسُ والقَمَرُ، فَقِيلَ: مَحْوُ القَمَرِ كَوْنُهُ لَمْ يَجْعَلْ لَهُ نُورًا. وقِيلَ: مَحْوُهُ طُلُوعُهُ صَغِيرًا ثُمَّ يَنْمُو ثُمَّ يَنْقُصُ حَتّى يُسْتَرَ. وقِيلَ: مَحْوُهُ نَقْصُهُ عَمّا كانَ خُلِقَ عَلَيْهِ مِنَ الإضاءَةِ، وأنَّهُ جَعَلَ نُورَ الشَّمْسِ سَبْعِينَ جُزْءًا ونُورَ القَمَرِ كَذَلِكَ، فَمَحا مِن نُورِ القَمَرِ حَتّى صارَ عَلى جُزْءٍ واحِدٍ، وجَعَلَ ما مُحِيَ مِنهُ زائِدًا في نُورِ الشَّمْسِ، وهَذا مَرْوِيٌّ عَنْ عَلِيٍّ وابْنِ عَبّاسٍ.
وقالَ ابْنُ عِيسى: جَعَلْناها لا تُبْصَرُ المَرْئِيّاتُ فِيها كَما لا يُبْصَرُ ما مُحِيَ مِنَ الكِتابِ. قالَ: وهَذا مِنَ البَلاغَةِ الحَسَنَةِ جِدًّا. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: ﴿فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ﴾ أيْ: جَعَلْنا اللَّيْلَ مَمْحُوَّ الضَّوْءِ مَطْمُوسَهُ، مُظْلِمًا لا يُسْتَبانُ مِنهُ شَيْءٌ كَما لا يُسْتَبانُ ما في اللَّوْحِ المَمْحُوِّ، وجَعَلْنا النَّهارَ مُبْصِرًا أيْ: يُبْصَرُ فِيهِ الأشْياءُ وتُسْتَبانُ، أوْ ﴿فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ﴾ الَّتِي هي القَمَرُ حَيْثُ لَمْ يُخْلَقْ لَهُ شُعاعٌ كَشُعاعِ الشَّمْسِ فَتُرى بِهِ الأشْياءُ رُؤْيَةً بَيِّنَةً، وجَعَلْنا الشَّمْسَ ذاتَ شُعاعٍ يُبْصَرُ في ضَوْئِها كُلُّ شَيْءٍ. انْتَهى. ونُسِبَ الإبْصارُ إلى ﴿آيَةَ النَّهارِ﴾ عَلى سَبِيلِ المَجازِ، كَما تَقُولُ: لَيْلٌ قائِمٌ ونائِمٌ، أيْ: يُقامُ فِيهِ ويُنامُ فِيهِ. فالمَعْنى: يُبْصَرُ فِيها.
وقِيلَ: مَعْنى (مُبْصِرَةً) مُضِيئَةٌ. وقِيلَ: هو مِن بابِ أفْعَلَ، والمُرادُ بِهِ غَيْرُ مَن أُسْنِدَ أفْعَلُ إلَيْهِ كَقَوْلِهِ: أجْبَنَ الرَّجُلُ إذا كانَ أهْلُهُ جُبَناءَ، وأضْعَفَ إذا كانَ دَوابُّهُ ضِعافًا فَأبْصَرَتِ الآيَةُ إذا كانَ أصْحابُها بُصَراءَ. وقَرَأ قَتادَةُ وعَلِيُّ بْنُ الحُسَيْنِ (مَبْصَرَةً) بِفَتْحِ المِيمِ والصّادِ، وهو مَصْدَرٌ أُقِيمَ مَقامَ الِاسْمِ، وكَثُرَ مِثْلُ ذَلِكَ في صِفاتِ الأمْكِنَةِ (p-١٥)كَقَوْلِهِمْ: أرْضٌ مَسْبَعَةٌ ومَكانٌ مَضَبَّةٌ، وعَلَّلَ المَحْوَ والإبْصارَ بِابْتِغاءِ الفَضْلِ وعِلْمِ عَدَدِ السِّنِينَ والحِسابِ، ووَلِيَ التَّعْلِيلَ بِالِابْتِغاءِ ما ولِيَهُ مِن آيَةِ النَّهارِ، وتَأخَّرَ التَّعْلِيلُ بِالعِلْمِ عَنْ آيَةِ اللَّيْلِ. وجاءَ في قَوْلِهِ: ﴿ومِن رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ والنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ ولِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ﴾ [القصص: ٧٣] البُداءَةُ بِتَعْلِيلِ المُتَقَدِّمِ، ثُمَّ تَعْلِيلِ المُتَأخِّرِ بِالعِلَّةِ المُتَأخِّرَةِ، وهُما طَرِيقانِ تَقَدَّمَ الكَلامُ عَلَيْهِما.
ومَعْنى (لِتَبْتَغُوا) لِتَتَوَصَّلُوا إلى اسْتِبانَةِ أعْمالِكم وتَصَرُّفِكم في مَعايِشِكم (والحِسابَ) لِلشُّهُورِ والأيّامِ والسّاعاتِ، ومَعْرِفَةُ ذَلِكَ في الشَّرْعِ إنَّما هو مِن جِهَةِ آيَةِ اللَّيْلِ لا مِن جِهَةِ آيَةِ النَّهارِ (وكُلَّ شَيْءٍ) مِمّا تَفْتَقِرُونَ إلَيْهِ في دِينِكم ودُنْياكم (فَصَّلْناهُ) بَيَّنّاهُ تَبْيِينًا غَيْرَ مُلْتَبِسٍ، والظّاهِرُ أنَّ نَصْبَ (وكُلَّ شَيْءٍ) عَلى الِاشْتِغالِ، وكانَ ذَلِكَ أرْجَحَ مِنَ الرَّفْعِ لِسَبْقِ الجُمْلَةِ الفِعْلِيَّةِ في قَوْلِهِ: ﴿وجَعَلْنا اللَّيْلَ والنَّهارَ﴾ وأبْعَدَ مَن ذَهَبَ إلى أنَّ (وكُلَّ شَيْءٍ) مَعْطُوفٌ عَلى قَوْلِهِ: (والحِسابَ) والطّائِرَ.
قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: ما قُدِّرَ لَهُ وعَلَيْهِ، وخاطَبَ اللَّهُ العَرَبَ في هَذِهِ الآيَةِ بِما تَعْرِفُ إذْ كانَ مِن عادَتِها التَّيَمُّنُ والتَّشاؤُمُ بِالطَّيْرِ في كَوْنِها سانِحَةً وبارِحَةً، وكَثُرَ ذَلِكَ حَتّى فَعَلَتْهُ بِالظِّباءِ وحَيَوانِ الفَلاةِ، وسُمِّيَ ذَلِكَ كُلُّهُ تَطَيُّرًا. وكانَتْ تَعْتَقِدُ أنَّ تِلْكَ الطِّيَرَةَ قاضِيَةٌ بِما يَلْقى الإنْسانُ مِن خَيْرٍ وشَرٍّ، فَأخْبَرَهُمُ اللَّهُ تَعالى في أوْجَزِ لَفْظٍ، وأبْلَغِ إشارَةٍ أنَّ جَمِيعَ ما يَلْقى الإنْسانُ مِن خَيْرٍ وشَرٍّ فَقَدْ سَبَقَ بِهِ القَضاءُ، وأُلْزِمَ حَظُّهُ وعَمَلُهُ ومَكْسَبُهُ في عُنُقِهِ، فَعَبَّرَ عَنِ الحَظِّ والعَمَلِ إذْ هُما مُتَلازِمانِ بِالطّائِرِ، قالَهُ مُجاهِدٌ وقَتادَةُ بِحَسَبِ مُعْتَقَدِ العَرَبِ في التَّطَيُّرِ، وقَوْلِهِمْ في الأُمُورِ عَلى الطّائِرِ المَيْمُونِ وبِأسْعَدِ طائِرٍ، ومِنهُ ما طارَ في المُحاصَّةِ والسَّهْمِ، ومِنهُ فَطارَ لَنا مِنَ القادِمِينَ عُثْمانُ بْنُ مَظْعُونٍ أيْ: كانَ ذَلِكَ حَظَّنا.
وعَنِ ابْنِ عَبّاسٍ: (طائِرَهُ) عَمَلَهُ، وعَنِ السُّدِّيِّ: كِتابَهُ الَّذِي يَطِيرُ إلَيْهِ. وعَنْ أبِي عُبَيْدَةَ: الطّائِرُ عِنْدَ العَرَبِ الحَظُّ، وهو الَّذِي تُسَمِّيهِ البَخْتَ. وعَنِ الحَسَنِ: يا ابْنَ آدَمَ بُسِطَتْ لَكَ صَحِيفَةٌ إذا بُعِثْتَ قُلِّدْتَها في عُنُقِكَ، وخُصَّ العُنُقُ؛ لِأنَّهُ مَحَلُّ الزِّينَةِ والشَّيْنِ، فَإنْ كانَ خَيْرًا زانَهُ كَما يُزَيِّنُ الطَّوْقُ والحُلِيُّ، وإنْ كانَ شَرًّا شانَهُ كالغُلِّ في الرَّقَبَةِ. وقَرَأ مُجاهِدٌ والحَسَنُ وأبُو رَجاءٍ ”طَيْرَهُ“ . وقُرِئَ: ﴿فِي عُنْقِهِ﴾ بِسُكُونِ النُّونِ. وقَرَأ الجُمْهُورُ، ومِنهُمُ ابْنُ جَعْفَرٍ: ﴿ونُخْرِجُ﴾ بِنُونٍ، مُضارِعُ أخْرَجَ. (كِتابًا) بِالنَّصْبِ. وعَنْ أبِي جَعْفَرٍ أيْضًا ويُخْرَجُ بِالياءِ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ (كِتابًا) أيْ: ويُخْرَجُ الطّائِرُ كِتابًا. وعَنْهُ أيْضًا ”كِتابٌ“ بِالرَّفْعِ عَلى أنَّهُ مَفْعُولُ ما لَمْ يُسَمَّ فاعِلُهُ. وقَرَأ الحَسَنُ وابْنُ مُحَيْصِنٍ ومُجاهِدٌ: ”ويَخْرُجُ“ بِفَتْحِ الياءِ وضَمِّ الرّاءِ أيْ: طائِرُهُ كِتابًا إلّا الحَسَنَ فَقَرَأ: ”كِتابٌ“ عَلى أنَّهُ فاعِلُ يَخْرُجُ. وقَرَأتْ فِرْقَةٌ: ويُخْرِجُ بِضَمِّ الياءِ وكَسْرِ الرّاءِ أيْ: ويُخْرِجُ اللَّهُ. وقَرَأ الجُمْهُورُ ﴿يَلْقاهُ﴾ بِفَتْحِ الياءِ وسُكُونِ اللّامِ. وقَرَأ ابْنُ عامِرٍ وأبُو جَعْفَرٍ والجَحْدَرِيُّ والحَسَنُ بِخِلافٍ عَنْهُ ﴿يُلَقّاهُ﴾ بِضَمِّ الياءِ وفَتْحِ اللّامِ وتَشْدِيدِ القافِ.
﴿مَنشُورًا﴾ غَيْرَ مَطْوِيٍّ لِيُمْكِنَهُ قِراءَتَهُ، و(يَلْقاهُ) و﴿مَنشُورًا﴾ صِفَتانِ لِكِتابٍ، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ ﴿مَنشُورًا﴾ حالًا مِن مَفْعُولِ يَلْقاهُ ﴿اقْرَأْ كِتابَكَ﴾ مَعْمُولٌ لِقَوْلٍ مَحْذُوفٍ أيْ: يُقالُ لَهُ: (اقْرَأْ كِتابَكَ) . وقالَ قَتادَةُ: يَقْرَأُ ذَلِكَ اليَوْمَ مَن لَمْ يَكُنْ في الدُّنْيا قارِئًا. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ وغَيْرُهُ: و(بِنَفْسِكَ) فاعِلُ (كَفى) . انْتَهى. وهَذا مَذْهَبُ الجُمْهُورِ. والباءُ زائِدَةٌ عَلى سَبِيلِ الجَوازِ لا اللُّزُومِ، ويَدُلُّ عَلَيْهِ أنَّهُ إذا حُذِفَتِ ارْتَفَعَ ذَلِكَ الِاسْمُ بِكَفى. قالَ الشّاعِرُ.
؎كَفى الشَّيْبُ والإسْلامُ لِلْمَرْءِ ناهِيا
وقالَ الآخَرُ:
؎ويُخْبِرُنِي عَنْ غائِبِ المَرْءِ هَدْيُهُ ∗∗∗ كَفى الهَدْيُ عَمّا غَيَّبَ المَرْءُ مُخْبِرا
وقِيلَ: فاعِلُ (كَفى) ضَمِيرٌ يَعُودُ عَلى الِاكْتِفاءِ، أيْ: كَفى هو أيِ: الِاكْتِفاءُ بِنَفْسِكَ. وقِيلَ: (كَفى) اسْمُ فِعْلٍ بِمَعْنى اكْتَفِ، والفاعِلُ مُضْمَرٌ يَعُودُ عَلى المُخاطَبِ، وعَلى هَذَيْنِ القَوْلَيْنِ لا تَكُونُ الباءُ زائِدَةً. وإذا فَرَّعْنا عَلى قَوْلِ الجُمْهُورِ: إنَّ (بِنَفْسِكَ) هو فاعِلُ (كَفى) فَكانَ القِياسُ أنْ تَدْخُلَ تاءُ التَّأْنِيثِ لِتَأْنِيثِ الفاعِلِ، فَكانَ يَكُونُ التَّرْكِيبُ كَفَتْ بِنَفْسِكَ كَما تُلْحَقُ مَعَ زِيادَةِ مِن في الفاعِلِ إذا كانَ مُؤَنَّثًا، كَقَوْلِهِ (p-١٦)تَعالى: ﴿ما آمَنَتْ قَبْلَهم مِن قَرْيَةٍ أهْلَكْناها﴾ [الأنبياء: ٦] وقَوْلِهِ: (وما تَأْتِيهِمْ مِن آيَةٍ) ولا نَحْفَظُهُ، جاءَ التَّأْنِيثُ في كَفى إذا كانَ الفاعِلُ مُؤَنَّثًا مَجْرُورًا بِالباءِ، والظّاهِرُ أنَّ المُرادَ (بِنَفْسِكَ) ذاتُكَ أيْ كَفى بِكَ. وقالَ مُقاتِلٌ: يُرِيدُ بِنَفْسِهِ جَوارِحَهُ تَشْهَدُ عَلَيْهِ إذا أنْكَرَ. وقالَ أبُو عُبَيْدَةَ أيْ: ما أشَدَّ كِفايَةَ ما عَلِمْتَ بِما عَمِلْتَ. و(اليَوْمَ) مَنصُوبٌ بِكَفى و(عَلَيْكَ) مُتَعَلِّقٌ بِـ حَسِيبًا. ومَعْنى (حَسِيبًا) حاكِمًا عَلَيْكَ بِعَمَلِكَ. قالَهُ الحَسَنُ. قالَ: يا ابْنَ آدَمَ لَقَدْ أنْصَفَكَ اللَّهُ وجَعَلَكَ حَسِيبَ نَفْسِكَ. وقالَ الكَلْبِيُّ: مُحاسِبًا يَعْنِي فَعِيلًا بِمَعْنى مُفاعِلٍ كَجَلِيسٍ وخَلِيطٍ. وقِيلَ: حاسِبًا كَضَرِيبِ القِداحِ أيْ: ضارِبِها، وصَرِيمٍ بِمَعْنى صارِمٍ يَعْنِي: أنَّهُ بِناءُ مُبالَغَةٍ كَرَحِيمٍ وحَفِيظٍ، وذَكَرَ (حَسِيبًا) لِأنَّهُ بِمَنزِلَةِ الشَّهِيدِ والقاضِي والأمِيرِ؛ لِأنَّ الغالِبَ أنَّ هَذِهِ الأُمُورَ يَتَوَلّاها الرَّجُلُ، وكَأنَّهُ قِيلَ: كَفى بِنَفْسِكَ رَجُلًا حَسِيبًا. وقالَ الأنْبارِيُّ: وإنَّما قالَ (حَسِيبًا) والنَّفْسُ مُؤَنَّثَةٌ؛ لِأنَّهُ يَعْنِي بِالنَّفْسِ الشَّخْصَ، أوْ لِأنَّهُ لا عَلامَةَ لِلتَّأْنِيثِ في لَفْظِ النَّفْسِ، فَشُبِّهَتْ بِالسَّماءِ والأرْضِ قالَ تَعالى: ﴿السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ﴾ [المزمل: ١٨] . وقالَ الشّاعِرُ:
؎ولا أرْضَ أبْقَلَ إبْقالَها
﴿مَنِ اهْتَدى﴾ الآيَةَ. قالَتْ فِرْقَةٌ: نَزَلَتِ الإشارَةُ في الهُدى إلى أبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الأسْوَدِ، وفي الضَّلالِ إلى الوَلِيدِ بْنِ المُغِيرَةِ. وقِيلَ: نَزَلَتْ في الوَلِيدِ هَذا، قالَ: يا أهْلَ مَكَّةَ اكْفُرُوا بِمُحَمَّدٍ وإثْمُكم عَلَيَّ، وتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ ﴿ولا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى﴾ [الأنعام: ١٦٤] في آخِرِ الأنْعامِ ﴿وما كُنّا مُعَذِّبِينَ حَتّى نَبْعَثَ رَسُولًا﴾ غَيّا انْتِفاءَ التَّعْذِيبِ بِبِعْثَةِ الرَّسُولِ - عَلَيْهِ السَّلامُ، والمَعْنى: حَتّى يَبْعَثَ رَسُولًا فَيُكَذَّبُ ولا يُؤْمَنُ بِما جاءَ بِهِ مِن عِنْدِ اللَّهِ، وانْتِفاءُ التَّعْذِيبِ أعَمُّ مِن أنْ يَكُونَ في الدُّنْيا بِالهَلاكِ وغَيْرِهِ مِنَ العَذابِ أوْ في الآخِرَةِ بِالنّارِ فَهو يَشْمَلُهُما، ويَدُلُّ عَلى الشُّمُولِ قَوْلُهُ في الهَلاكِ في الدُّنْيا بَعْدَ هَذِهِ الآيَةِ ﴿وإذا أرَدْنا﴾ [الإسراء: ١٦] وفي الآخِرَةِ ﴿فَحَقَّ عَلَيْها القَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيرًا﴾ [الإسراء: ١٦] وآيٌ كَثِيرَةٌ نُصَّ فِيها عَلى الهَلاكِ في الدُّنْيا بِأنْواعٍ مِنَ العَذابِ حِينَ كَذَّبَتِ الرُّسُلَ. وقَوْلُهُ في عَذابِ الآخِرَةِ ﴿كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ سَألَهم خَزَنَتُها ألَمْ يَأْتِكم نَذِيرٌ﴾ [الملك: ٨] ﴿قالُوا بَلى قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ﴾ [الملك: ٩] وكُلَّما تَدُلُّ عَلى عُمُومِ أزْمانِ الإلْقاءِ فَتَعُمُّ المُلْقَيْنَ. وقَوْلُهُ: ﴿وإنْ مِن أُمَّةٍ إلّا خَلا فِيها نَذِيرٌ﴾ [فاطر: ٢٤] وذَهَبَ الجُمْهُورُ إلى أنَّ هَذا في حُكْمِ الدُّنْيا، أيْ: أنَّ اللَّهَ لا يُهْلِكُ أُمَّةً بِعَذابٍ إلّا مِن بَعْدِ الرِّسالَةِ إلَيْهِمْ والإنْذارِ.
قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإنْ قُلْتَ: الحُجَّةُ لازِمَةٌ لَهم قَبْلَ بِعْثَةِ الرَّسُولِ؛ لِأنَّ مَعَهم أدِلَّةَ العَقْلِ الَّتِي بِها يُعْرَفُ اللَّهُ، وقَدْ أغْفَلُوا النَّظَرَ وهم مُتَمَكِّنُونَ مِنهُ، واسْتِيجابُهُمُ العَذابَ لِإغْفالِهِمُ النَّظَرَ فِيما مَعَهم، رُكُونُهم لِذَلِكَ الإغْفالِ الشَّرائِعَ الَّتِي لا سَبِيلَ إلَيْها إلّا بِالتَّوْقِيفِ، والعَمَلُ بِها لا يَصِحُّ إلّا بَعْدَ الإيمانِ. قُلْتُ: بَعْثَةُ الرَّسُولِ ﷺ مِن جُمْلَةِ التَّنْبِيهِ عَلى النَّظَرِ والإيقاظِ مِن رَقْدَةِ الغَفْلَةِ؛ لِئَلّا يَقُولُوا كُنّا غافِلِينَ، فَلَوْلا بَعَثْتَ إلَيْنا رَسُولًا يُنَبِّهُنا عَلى النَّظَرِ في أدِلَّةِ العَقْلِ. انْتَهى. وقالَ مُقاتِلٌ: المَعْنى: وما كُنّا مُسْتَأْصِلِينَ في الدُّنْيا لِما اقْتَضَتْهُ الحِكْمَةُ الإلَهِيَّةُ، حَتّى يَبْعَثَ رَسُولًا؛ إقامَةً لِلْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ وقَطْعًا لِلْعُذْرِ عَنْهم، كَما فَعَلْنا بِعادٍ وثَمُودَ والمُؤْتَفِكاتِ وغَيْرِها.
{"ayahs_start":9,"ayahs":["إِنَّ هَـٰذَا ٱلۡقُرۡءَانَ یَهۡدِی لِلَّتِی هِیَ أَقۡوَمُ وَیُبَشِّرُ ٱلۡمُؤۡمِنِینَ ٱلَّذِینَ یَعۡمَلُونَ ٱلصَّـٰلِحَـٰتِ أَنَّ لَهُمۡ أَجۡرࣰا كَبِیرࣰا","وَأَنَّ ٱلَّذِینَ لَا یُؤۡمِنُونَ بِٱلۡـَٔاخِرَةِ أَعۡتَدۡنَا لَهُمۡ عَذَابًا أَلِیمࣰا","وَیَدۡعُ ٱلۡإِنسَـٰنُ بِٱلشَّرِّ دُعَاۤءَهُۥ بِٱلۡخَیۡرِۖ وَكَانَ ٱلۡإِنسَـٰنُ عَجُولࣰا","وَجَعَلۡنَا ٱلَّیۡلَ وَٱلنَّهَارَ ءَایَتَیۡنِۖ فَمَحَوۡنَاۤ ءَایَةَ ٱلَّیۡلِ وَجَعَلۡنَاۤ ءَایَةَ ٱلنَّهَارِ مُبۡصِرَةࣰ لِّتَبۡتَغُوا۟ فَضۡلࣰا مِّن رَّبِّكُمۡ وَلِتَعۡلَمُوا۟ عَدَدَ ٱلسِّنِینَ وَٱلۡحِسَابَۚ وَكُلَّ شَیۡءࣲ فَصَّلۡنَـٰهُ تَفۡصِیلࣰا","وَكُلَّ إِنسَـٰنٍ أَلۡزَمۡنَـٰهُ طَـٰۤىِٕرَهُۥ فِی عُنُقِهِۦۖ وَنُخۡرِجُ لَهُۥ یَوۡمَ ٱلۡقِیَـٰمَةِ كِتَـٰبࣰا یَلۡقَىٰهُ مَنشُورًا","ٱقۡرَأۡ كِتَـٰبَكَ كَفَىٰ بِنَفۡسِكَ ٱلۡیَوۡمَ عَلَیۡكَ حَسِیبࣰا","مَّنِ ٱهۡتَدَىٰ فَإِنَّمَا یَهۡتَدِی لِنَفۡسِهِۦۖ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا یَضِلُّ عَلَیۡهَاۚ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةࣱ وِزۡرَ أُخۡرَىٰۗ وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِینَ حَتَّىٰ نَبۡعَثَ رَسُولࣰا"],"ayah":"وَجَعَلۡنَا ٱلَّیۡلَ وَٱلنَّهَارَ ءَایَتَیۡنِۖ فَمَحَوۡنَاۤ ءَایَةَ ٱلَّیۡلِ وَجَعَلۡنَاۤ ءَایَةَ ٱلنَّهَارِ مُبۡصِرَةࣰ لِّتَبۡتَغُوا۟ فَضۡلࣰا مِّن رَّبِّكُمۡ وَلِتَعۡلَمُوا۟ عَدَدَ ٱلسِّنِینَ وَٱلۡحِسَابَۚ وَكُلَّ شَیۡءࣲ فَصَّلۡنَـٰهُ تَفۡصِیلࣰا"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق