الباحث القرآني

ولَمّا ثَبَتَ ما لِصِفَتِهِ (تَعالى) مِنَ العُلُوِّ؛ ولِصِفَةِ الإنْسانِ مِنَ السُّفُولِ؛ تَلاهُ بِما لِأفْعالِهِ (تَعالى) مِنَ الإتْقانِ؛ ذاكِرًا ما هو الأقْوَمُ مِن دَلائِلِ التَّوْحِيدِ والنُّبُوَّةِ في العالَمَيْنِ؛ العُلْوِيِّ والسُّفْلِيِّ؛ ثُمَّ ما لِأفْعالِ الإنْسانِ مِنَ العِوَجِ؛ جَرْيًا مَعَ طَبْعِهِ؛ أوْ مِنَ الإحْسانِ بِتَوْفِيقِ اللَّطِيفِ المَنّانِ؛ فَقالَ (تَعالى) - مُبَيِّنًا ما مَنَحَهم بِهِ مِن نِعَمِ الدُّنْيا؛ بَعْدَ ما أنْعَمَ عَلَيْهِمْ بِهِ مِن نِعَمِ الدِّينِ -: ﴿وجَعَلْنا﴾؛ أيْ: بِما لَنا مِنَ العَظْمَةِ؛ ﴿اللَّيْلَ والنَّهارَ آيَتَيْنِ﴾؛ دالَّتَيْنِ عَلى تَمامِ العِلْمِ؛ وشُمُولِ القُدْرَةِ؛ آيَةَ اللَّيْلِ كالآياتِ المُتَشابِهَةِ؛ وآيَةَ النَّهارِ كالمُحْكَمَةِ؛ فَكَما أنَّ المَقْصُودَ مِنَ التَّكْلِيفِ لا يَتِمُّ إلّا بِذِكْرِ المُحْكَمِ والمُتَشابِهِ؛ فَكَذَلِكَ الزَّمانُ لا يَتَيَسَّرُ الِانْتِفاعُ بِهِ إلّا بِهاتَيْنِ الآيَتَيْنِ؛ ﴿فَمَحَوْنا﴾ (p-٣٨٥)أيْ: بِعَظَمَتِنا الباهِرَةِ؛ ﴿آيَةَ اللَّيْلِ﴾؛ بِإعْدامِ الضِّياءِ؛ فَجَعَلْناها لا تُبْصَرُ بِها المَرْئِيّاتُ؛ كَما لا يُبْصَرُ الكِتابُ إذا مُحِيَ؛ ﴿وجَعَلْنا﴾؛ أيْ: بِعَظَمَتِنا؛ ﴿آيَةَ النَّهارِ﴾؛ ولَمّا كانَتْ في غايَةِ الضِّياءِ يُبْصِرُ بِها كُلُّ مَن لَهُ بَصَرٌ؛ أسْنَدَ الإبْصارَ إلَيْها مُبالَغَةً؛ فَقالَ: ﴿مُبْصِرَةً﴾؛ أيْ: بِالشَّمْسِ؛ الَّتِي جَعَلَها مُنِيرَةً في نَفْسِها؛ فَلا تَزالُ هَذِهِ الدّارُ النّاقِصَةُ في تَنَقُّلٍ مِن نُورٍ إلى ظُلْمَةٍ؛ ومِن ظُلْمَةٍ إلى نُورٍ؛ كَما لِلْإنْسانِ - بِعَجَلَتِهِ الَّتِي يَدْعُو إلَيْها طَبْعُهُ؛ وتَأنِّيهِ الدّاعِي إلَيْهِ عَقْلُهُ - مِنَ انْتِقالٍ مِن نُقْصانٍ إلى كَمالٍ؛ ومِن كَمالٍ إلى نُقْصانٍ؛ كَما أنَّ القَمَرَ - الَّذِي هو أنْقَصُ مِنَ الشَّمْسِ - كَذَلِكَ؛ ثُمَّ ذَكَرَ بَعْضَ المَنافِعِ المُتَرَتِّبَةِ عَلى ذَلِكَ؛ فَقالَ (تَعالى): ﴿لِتَبْتَغُوا﴾؛ أيْ: تَطْلُبُوا طَلَبًا شَدِيدًا؛ ﴿فَضْلا مِن رَبِّكُمْ﴾؛ أيْ: المُحْسِنِ إلَيْكم فِيهِما؛ بِضِياءِ هَذا تارَةً؛ وبِرَدِّ هَذا أُخْرى؛ ﴿ولِتَعْلَمُوا﴾؛ بِفَصْلِ هَذا مِن هَذا؛ ﴿عَدَدَ السِّنِينَ﴾؛ أيْ: مِن غَيْرِ حاجَةٍ إلى حِسابٍ؛ لِأنَّ النَّيِّرَيْنِ يَدُلّانِ عَلى تَحَوُّلِ الحَوْلِ بِمُجَرَّدِ تَنَقُّلِهِما. ولَمّا كانا أيْضًا يَدُلّانِ عَلى حِسابِ المَطالِعِ والمَغارِبِ؛ والزِّيادَةِ والنُّقْصانِ؛ وغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الكَوائِنِ؛ لِمَن أمْعَنَ النَّظَرَ؛ وبالَغَ في الفِكْرِ؛ (p-٣٨٦)قالَ (تَعالى): ﴿والحِسابَ﴾؛ أيْ: جِنْسَهُ؛ فَصَّلْناهُما لِذَلِكَ عَلى هَذا الوَجْهِ المُتْقَنِ؛ بِالزِّيادَةِ والنُّقْصانِ؛ وتَغَيُّرِ الأحْوالِ في أوْقاتٍ مَعْلُومَةٍ؛ عَلى نِظامٍ لا يَخْتَلُّ عَلى طُولِ الزَّمانِ مِقْدارَ ذَرَّةٍ؛ ولا يَنْحَلُّ قَيْسَ شَعْرَةٍ إلى أنْ يُرِيدَ اللَّهُ خَرابَ العالَمِ؛ وفَناءَ الخَلْقِ؛ فَيُبِيدَ ذَلِكَ كُلَّهُ في أسْرَعِ وقْتٍ؛ وأقْرَبِ زَمَنٍ؛ ولَوْلا اخْتِلافُهُما لاخْتَلَطَتِ الأوْقاتُ؛ وتَعَطَّلَتِ الأُمُورُ؛ ﴿وكُلَّ شَيْءٍ﴾؛ غَيْرِهِما؛ مِمّا تَحْتاجُونَ إلَيْهِ في دِينِكُمْ؛ أوْ دُنْياكُمْ؛ ﴿فَصَّلْناهُ﴾؛ أيْ: بِعَظَمَتِنا؛ وأزَلْنا إلْباسَهُ؛ وأكَّدَ الأمْرَ تَنْبِيهًا عَلى تَمامِ القُدْرَةِ؛ وأنَّهُ لا يُعْجِزُهُ شَيْءٌ يُرِيدُهُ؛ فَقالَ (تَعالى): ﴿تَفْصِيلا﴾؛ فانْظُرُوا بِأبْصارِكُمْ؛ وبَصائِرِكُمْ؛ وتَتَبَّعُوا في عَلانِياتِكُمْ؛ وسَرائِرِكُمْ؛ تَجِدُوا أمْرًا مُتْقَنًا؛ ونِظامًا مُحْكَمًا: ﴿ثُمَّ ارْجِعِ البَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إلَيْكَ البَصَرُ خاسِئًا وهو حَسِيرٌ﴾ [الملك: ٤]
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب