﴿أفَمَن يَعْلَمُ أنَّما أُنْزِلَ إلَيْكَ مِن رَبِّكَ الحَقُّ كَمَن هو أعْمى إنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُو الألْبابِ﴾ ﴿الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ ولا يَنْقُضُونَ المِيثاقَ﴾ ﴿والَّذِينَ يَصِلُونَ ما أمَرَ اللَّهُ بِهِ أنْ يُوصَلَ ويَخْشَوْنَ رَبَّهم ويَخافُونَ سُوءَ الحِسابِ﴾ ﴿والَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغاءَ وجْهِ رَبِّهِمْ وأقامُوا الصَّلاةَ وأنْفَقُوا مِمّا رَزَقْناهم سِرًّا وعَلانِيَةً ويَدْرَءُونَ بِالحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهم عُقْبى الدّارِ﴾ ﴿جَنّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها ومَن صَلَحَ مِن آبائِهِمْ وأزْواجِهِمْ وذُرِّيّاتِهِمْ والمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِن كُلِّ بابٍ﴾ ﴿سَلامٌ عَلَيْكم بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبى الدّارِ﴾ ﴿والَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثاقِهِ ويَقْطَعُونَ ما أمَرَ اللَّهُ بِهِ أنْ يُوصَلَ ويُفْسِدُونَ في الأرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ ولَهم سُوءُ الدّارِ﴾ ﴿اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشاءُ ويَقْدِرُ وفَرِحُوا بِالحَياةِ الدُّنْيا وما الحَياةُ الدُّنْيا في الآخِرَةِ إلّا مَتاعٌ﴾ ﴿ويَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِن رَبِّهِ قُلْ إنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشاءُ ويَهْدِي إلَيْهِ مَن أنابَ﴾ [الرعد: ٢٧] ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهم بِذِكْرِ اللَّهِ ألا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ القُلُوبُ﴾ [الرعد: ٢٨] ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ طُوبى لَهم وحُسْنُ مَآبٍ﴾ [الرعد: ٢٩] ﴿كَذَلِكَ أرْسَلْناكَ في أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِها أُمَمٌ لِتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِي أوْحَيْنا إلَيْكَ وهم يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ هو رَبِّي لا إلَهَ إلّا هو عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وإلَيْهِ مَتابِ﴾ [الرعد: ٣٠] ﴿ولَوْ أنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الجِبالُ أوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأرْضُ أوْ كُلِّمَ بِهِ المَوْتى بَلْ لِلَّهِ الأمْرُ جَمِيعًا أفَلَمْ يَيْأسِ الَّذِينَ آمَنُوا أنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ لَهَدى النّاسَ جَمِيعًا ولا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهم بِما صَنَعُوا قارِعَةٌ أوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِن دارِهِمْ حَتّى يَأْتِيَ وعْدُ اللَّهِ إنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ المِيعادَ﴾ [الرعد: ٣١] ﴿ولَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِن قَبْلِكَ فَأمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أخَذْتُهم فَكَيْفَ كانَ عِقابِ﴾ [الرعد: ٣٢] ﴿أفَمَن هو قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ وجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ قُلْ سَمُّوهم أمْ تُنَبِّئُونَهُ بِما لا يَعْلَمُ في الأرْضِ أمْ بِظاهِرٍ مِنَ القَوْلِ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهم وصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ ومَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِن هادٍ﴾ [الرعد: ٣٣] ﴿لَهم عَذابٌ في الحَياةِ الدُّنْيا ولَعَذابُ الآخِرَةِ أشَقُّ وما لَهم مِنَ اللَّهِ مِن واقٍ﴾ [الرعد: ٣٤] ﴿مَثَلُ الجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ المُتَّقُونَ تَجْرِي مِن تَحْتِها الأنْهارُ أُكُلُها دائِمٌ وظِلُّها تِلْكَ عُقْبى الَّذِينَ اتَّقَوْا وعُقْبى الكافِرِينَ النّارُ﴾ [الرعد: ٣٥] ﴿والَّذِينَ آتَيْناهُمُ الكِتابَ يَفْرَحُونَ بِما أُنْزِلَ إلَيْكَ ومِنَ الأحْزابِ مَن يُنْكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إنَّما أُمِرْتُ أنْ أعْبُدَ اللَّهَ ولا أُشْرِكَ بِهِ إلَيْهِ أدْعُو وإلَيْهِ مَآبِ﴾ [الرعد: ٣٦] ﴿وكَذَلِكَ أنْزَلْناهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا ولَئِنِ اتَّبَعْتَ أهْواءَهم بَعْدَما جاءَكَ مِنَ العِلْمِ ما لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن ولِيٍّ ولا واقٍ﴾ [الرعد: ٣٧] ﴿ولَقَدْ أرْسَلْنا رُسُلًا مِن قَبْلِكَ وجَعَلْنا لَهم أزْواجًا وذُرِّيَّةً وما كانَ لِرَسُولٍ أنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إلّا بِإذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أجَلٍ كِتابٌ﴾ [الرعد: ٣٨] ﴿يَمْحُو اللَّهُ ما يَشاءُ ويُثْبِتُ وعِنْدَهُ أُمُّ الكِتابِ﴾ [الرعد: ٣٩]
(p-٣٨٤)القارِعَةُ: الرَّزِيَّةُ الَّتِي تَقْرَعُ قَلْبَ صاحِبِها؛ أيْ: تَضْرِبُهُ بِشِدَّةٍ كالقَتْلِ والأسْرِ والنَّهْبِ وكَشْفِ الحَرِيمِ. وقالَ الشّاعِرُ:
؎فَلَمّا قَرَعْنا النَّبْعَ بِالنَّبْعِ بَعْضَهُ بِبَعْضِ أبَتْ عِيدانُهُ أنْ تُكْسَرا
أيْ: ضَرَبْنا بِقُوَّةٍ. وقالَ الزَّجّاجُ: القارِعَةُ في اللُّغَةِ النّازِلَةُ الشَّدِيدَةُ تَنْزِلُ بِأمْرٍ عَظِيمٍ. المَحْوُ الإزالَةُ مَحَوْتُ الخَطَّ أذْهَبْتُ أثَرَهُ ومَحا المَطَرُ رَسْمَ الدّارِ أذْهَبَهُ وأزالَهُ ويُقالُ في مُضارِعِهِ يَمْحُو ويَمْحِي لِأنَّ عَيْنَهُ حَرْفُ حَلْقٍ والإثْباتُ ضِدُّ المَحْوِ.
﴿أفَمَن يَعْلَمُ أنَّما أُنْزِلَ إلَيْكَ مِن رَبِّكَ الحَقُّ كَمَن هو أعْمى إنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُو الألْبابِ﴾ ﴿الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ ولا يَنْقُضُونَ المِيثاقَ﴾ ﴿والَّذِينَ يَصِلُونَ ما أمَرَ اللَّهُ بِهِ أنْ يُوصَلَ ويَخْشَوْنَ رَبَّهم ويَخافُونَ سُوءَ الحِسابِ﴾ ﴿والَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغاءَ وجْهِ رَبِّهِمْ وأقامُوا الصَّلاةَ وأنْفَقُوا مِمّا رَزَقْناهم سِرًّا وعَلانِيَةً ويَدْرَءُونَ بِالحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهم عُقْبى الدّارِ﴾ ﴿جَنّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها ومَن صَلَحَ مِن آبائِهِمْ وأزْواجِهِمْ وذُرِّيّاتِهِمْ والمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِن كُلِّ بابٍ﴾ ﴿سَلامٌ عَلَيْكم بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبى الدّارِ﴾ قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: نَزَلَتْ ﴿أفَمَن يَعْلَمُ﴾ في حَمْزَةَ وأبِي جَهْلٍ. وقِيلَ: في عُمَرَ بْنِ الخَطّابِ وأبِي جَهْلٍ. وقِيلَ: في عَمّارِ بْنِ ياسِرٍ وأبِي جَهْلٍ. قَرَأ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: (أوَ مَن) بِالواوِ بَدَلُ الفاءِ، إنَّما (أنْزَلَ) مَبْنِيًّا لِلْفاعِلِ. ولَمّا ذَكَرَ تَعالى مَثَلَ المُؤْمِنِ والكافِرِ، وذَكَرَ ما لِلْمُؤْمِنِ مِنَ الثَّوابِ، وما لِلْكافِرِ مِنَ العِقابِ، ذَكَرَ اسْتِبْعادَ مَن يَجْعَلُها سَواءً، وأنْكَرَ ذَلِكَ فَقالَ: ﴿أفَمَن يَعْلَمُ أنَّما أُنْزِلَ إلَيْكَ مِن رَبِّكَ الحَقُّ كَمَن هو أعْمى﴾ أيْ: لَيْسا مُشْتَبِهَيْنِ؛ لِأنَّ العالِمَ بِالشَّيْءِ بَصِيرٌ بِهِ، والجاهِلَ بِهِ كالأعْمى، والمُرادُ أعْمى البَصِيرَةِ ولِذَلِكَ قابَلَهُ بِالعِلْمِ. والهَمْزَةُ لِلِاسْتِفْهامِ، المُرادُ بِهِ: إنْكارُ أنْ تَقَعَ شُبْهَةٌ بَعْدَما ضَرَبَ مِنَ المَثَلِ في أنَّ حالَ مَن عَلِمَ إنَّما أُنْزِلَ إلَيْكَ مِن رَبِّكَ الحَقُّ فاسْتَجابَ، بِمَعْزِلٍ مِن حالِ الجاهِلِ الَّذِي لَمْ يَسْتَبْصِرْ فَيَسْتَجِيبُ، كَبُعْدِ ما بَيْنَ الزَّبَدِ والماءِ، والخَبَثِ والإبْرِيزِ. ثُمَّ ذَكَرَ أنَّهُ لا يَتَذَكَّرُ بِالمَوْعِظَةِ وضَرْبِ الأمْثالِ إلّا أصْحابُ العُقُولِ. والفاءُ لِلْعَطْفِ، وقُدِّمَتْ هَمْزَةُ الِاسْتِفْهامِ؛ لِأنَّهُ صَدْرُ الكَلامِ، والتَّقْدِيرُ: فَأمَن يَعْلَمُ، ويُبْعِدُها أنْ يَكُونَ فِعْلٌ مَحْذُوفٌ بَيْنَ الهَمْزَةِ والفاءِ، والفاءُ عاطِفَةٌ ما بَعْدَها عَلى ذَلِكَ الفِعْلِ (p-٣٨٥)كَما قَدَّرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ في قَوْلِهِ: ﴿أفَلَمْ يَسِيرُوا﴾ [يوسف: ١٠٩]، وقَوْلِهِ: ﴿أفَلا يَعْقِلُونَ﴾ [يس: ٦٨] وجَوَّزُوا في (الَّذِينَ) أنْ يَكُونَ بَدَلًا مِن (أُولُو)، أوْ صِفَةً لَهُ، وصِفَةً لِمَن مِن قَوْلُهُ: ﴿أفَمَن يَعْلَمُ﴾، (وإنَّما يَتَذَكَّرُ) اعْتِراضٌ، ومُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ ﴿أُولَئِكَ لَهم عُقْبى الدّارِ﴾، كَقَوْلِهِ: ﴿والَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ﴾ ثُمَّ قالَ: ﴿أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ﴾ والظّاهِرُ عُمُومُ العَهْدِ. وقِيلَ: هو خاصٌّ، فَقالَ السُّدِّيُّ: ما عَهِدَ إلَيْهِمْ في القُرْآنِ. وقالَ قَتادَةُ: في الأوَّلِ، وهو قَوْلُهُ: ﴿ألَسْتُ بِرَبِّكم قالُوا بَلى﴾ [الأعراف: ١٧٢] وقالَ القَفّالُ: ما في حِيلَتِهِمْ وعُقُولِهِمْ مِن دَلائِلِ التَّوْحِيدِ والنُّبُوّاتِ. وقِيلَ: في الكُتُبِ المُتَقَدِّمَةِ والقُرْآنِ. وقِيلَ: المَأْخُوذُ عَلى ألْسِنَةِ الرُّسُلِ. وقِيلَ: الإيمانُ بِاللَّهِ ومَلائِكَتِهِ وكُتُبِهِ ورُسُلِهِ واليَوْمِ الآخِرِ، والظّاهِرُ إضافَةُ العَهْدِ إلى الفاعِلِ أيْ: بِما عَهِدَ اللَّهُ. والظّاهِرُ أنَّ قَوْلَهُ: ﴿ولا يَنْقُضُونَ المِيثاقَ﴾ جُمْلَةٌ تَوْكِيدِيَّةٌ لِقَوْلِهِ: ﴿يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ﴾ لِأنَّ العَهْدَ هو المِيثاقُ، ويَلْزَمُ مِن إيفاءِ العَهْدِ انْتِفاءُ نَقِيضِهِ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وعَهْدُ اللَّهِ ما عَقَدُوهُ عَلى أنْفُسِهِمْ مِنَ الشَّهادَةِ بِرُبُوبِيَّتِهِ، وأشْهَدَهم عَلى أنْفُسِهِمْ ألَسْتُ بِرَبِّكم ؟ قالُوا: بَلى. ولا يَنْقُضُونَ المِيثاقَ، ولا يَنْقُضُونَ كُلَّ ما وثَّقُوهُ عَلى أنْفُسِهِمْ وقَبِلُوهُ مِنَ الإيمانِ بِاللَّهِ تَعالى، وغَيْرُهُ مِنَ المَواثِيقِ بَيْنَهم وبَيْنَ اللَّهِ تَعالى وبَيْنَ العِبادِ تَعْمِيمٌ بَعْدَ تَخْصِيصٍ، انْتَهى. فَأضافَ العَهْدَ إلى المَفْعُولِ، وغايَرَ بَيْنَ الجُمْلَتَيْنِ بِكَوْنِ الثّانِيَةِ تَعْمِيمًا بَعْدَ تَخْصِيصٍ، انْتَهى. إذْ أخْذُ المِيثاقِ عامٌّ بَيْنَهم وبَيْنَ اللَّهِ وبَيْنَ العِبادِ. وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: ”بِعَهْدِ اللَّهِ“ اسْمُ الجِنْسِ أيْ: بِجَمِيعِ عُهُودِ اللَّهِ، وبَيْنَ أوامِرِهِ ونَواهِيهِ الَّتِي وصّى بِها عَبِيدَهُ. ويَدْخُلُ في هَذِهِ الألْفاظِ التِزامُ جَمِيعِ الفُرُوضِ، وتَجَنُّبُ جَمِيعِ المَعاصِي. وقَوْلُهُ: ﴿ولا يَنْقُضُونَ المِيثاقَ﴾ أيْ: إذا اعْتَقَدُوا في طاعَةِ اللَّهِ عَهْدًا لَمْ يَنْقُضُوهُ. قالَ قَتادَةُ: وتَقَدَّمَ وعِيدُ اللَّهِ إلى عِبادِهِ في نَقْضِ المِيثاقِ ونَهى عَنْهُ في بِضْعٍ وعِشْرِينَ آيَةً، ويُحْتَمَلُ أنَّهُ يُشِيرُ إلى مِيثاقٍ مُعَيَّنٍ وهو الَّذِي أخَذَهُ تَعالى عَلى ظَهْرِ أبِيهِمْ آدَمَ - عَلَيْهِ السَّلامُ - انْتَهى.
وقالَ ابْنُ العَرَبِيِّ: مِن أعْظَمِ المَواثِيقِ في الذِّكْرِ أنْ لا يُسْألَ سِواهُ، وذَكَرَ قِصَّةَ أبِي حَمْزَةَ الخُراسانِيِّ ووُقُوعَهُ في البِئْرِ، ومُرُورَ النّاسِ عَلَيْهِ، وتَغْطِيتَهُمُ البِئْرَ وهو لا يَسْألُهم أنْ يُخْرِجُوهُ، إلى أنْ جاءَ مَن أخْرَجَهُ بِغَيْرِ سُؤالٍ، ولَمْ يَرَ مَن أخْرَجَهُ، وهَتَفَ بِهِ هاتِفٌ: كَيْفَ رَأيْتَ ثَمَرَةَ التَّوَكُّلِ ؟ قالَ ابْنُ العَرَبِيِّ: هَذا رَجُلٌ عاهَدَ اللَّهَ فَوَجَدَ الوَفاءَ عَلى التَّمامِ، فاقْتَدُوا بِهِ. وقَدْ أنْكَرَ أبُو الفَرَجِ بْنُ الجَوْزِيِّ فِعْلَ أبِي حَمْزَةَ هَذا وبَيَّنَ خَطَأهُ، وأنَّ التَّوَكُّلَ لا يُنافِي الِاسْتِغاثَةَ في تِلْكَ الحالِ. وذَكَرَ أنَّ سُفْيانَ الثَّوْرِيَّ وغَيْرَهُ قالُوا: إنَّ إنْسانًا لَوْ جاعَ فَلَمْ يَسْألْ حَتّى ماتَ دَخَلَ النّارَ. ولا يُنْكَرُ أنْ يَكُونَ اللَّهُ تَعالى لَطَفَ بِأبِي حَمْزَةَ الجاهِلِ.
و﴿ما أمَرَ اللَّهُ بِهِ أنْ يُوصَلَ﴾ ظاهِرُهُ العُمُومُ في كُلِّ ما أمَرَ بِهِ في كِتابِهِ وعَلى لِسانِ نَبِيِّهِ. وقالَ الحَسَنُ: المُرادُ بِهِ صِلَةُ الرَّسُولِ ﷺ بِالإيمانِ بِهِ، وقالَ نَحْوَهُ ابْنُ جُبَيْرٍ. وقالَ قَتادَةُ: الرَّحِمُ. وقِيلَ: صِلَةُ الإيمانِ بِالعَمَلِ. وقِيلَ: صِلَةُ قَرابَةِ الإسْلامِ بِإفْشاءِ السَّلامِ، وعِيادَةِ المَرْضى، وشُهُودِ الجَنائِزِ، ومُراعاةِ حَقِّ الجِيرانِ والرُّفَقاءِ والأصْحابِ والخَدَمِ. وقِيلَ: نُصْرَةُ المُؤْمِنِينَ. و(أمَرَ) يَتَعَدّى إلى اثْنَيْنِ بِحَرْفِ جَرٍّ وهو (بِهِ) والأوَّلُ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: ما أمَرَهُمُ اللَّهُ بِهِ. و﴿أنْ يُوصَلَ﴾ في مَوْضِعِ جَرٍّ بَدَلٌ مِنَ الضَّمِيرِ أيْ: بِوَصْلِهِ. و﴿يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ﴾ [الأنبياء: ٤٩] أيْ: وعِيدَهُ كُلَّهُ. و﴿يَخافُونَ سُوءَ الحِسابِ﴾ أيْ: اسْتِقْصاءً فَيُحاسِبُونَ أنْفُسَهم قَبْلَ أنْ يُحاسَبُوا. وقِيلَ: ﴿يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ﴾ [الأنبياء: ٤٩]: يُعَظِّمُونَهُ. وقِيلَ: في قَطْعِ الرَّحِمِ. وقِيلَ: في جَمِيعِ المَعاصِي. وقِيلَ: فِيما أمَرَهم بِوَصْلِهِ. و(صَبَرُوا) مُطْلَقٌ فِيما يُصْبَرُ عَلَيْهِ مِنَ المَصائِبِ في النُّفُوسِ والأمْوالِ، ومِيثاقِ التَّكْلِيفِ. وجاءَتِ الصِّلَةُ هُنا بِلَفْظِ الماضِي، وفي المُوصِلِينَ قَبْلُ بِلَفْظِ المُضارِعِ في قَوْلِهِ: ﴿الَّذِينَ يُوفُونَ﴾، ﴿والَّذِينَ يَصِلُونَ﴾ و(ما) عُطِفَ عَلَيْهِما عَلى سَبِيلِ التَّفَنُّنِ في الفَصاحَةِ، لِأنَّ المُبْتَدَأ هُنا في مَعْنى اسْمِ الشَّرْطِ بِالماضِي كالمُضارِعِ في اسْمِ الشَّرْطِ، فَكَذَلِكَ فِيما أشْبَهَهُ، ولِذَلِكَ قالَ النَّحْوِيُّونَ: إذا وقَعَ الماضِي صِلَةً أوْ صِفَةً لِنَكِرَةٍ عامَّةٍ (p-٣٨٦)احْتَمَلَ أنْ يُرادَ بِهِ المُضِيُّ، وأنْ يُرادَ بِهِ الِاسْتِقْبالُ. فَمِنَ المُرادِ بِهِ المُضِيُّ في الصِّلَةِ ﴿الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النّاسُ﴾ [آل عمران: ١٧٣] ومِنَ المُرادِ بِهِ الِاسْتِقْبالُ ﴿إلّا الَّذِينَ تابُوا مِن قَبْلِ أنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ﴾ [المائدة: ٣٤] ويَظْهَرُ أيْضًا أنَّ اخْتِصاصَ هَذِهِ الصِّلَةِ بِالماضِي وتَيْنِكَ بِالمُضارِعِ، أنَّ تَيْنِكَ الصِّلَتَيْنِ قُصِدَ بِهِما الِاسْتِصْحابُ والِالتِباسُ دائِمًا، وهَذِهِ الصِّلَةُ قُصِدَ بِها تَقَدُّمُها عَلى تَيْنِكَ الصِّلَتَيْنِ، و(ما) عُطِفَ عَلَيْهِما، لِأنَّ حُصُولَ تِلْكَ الصِّلاتِ إنَّما هي مُتَرَتِّبَةٌ عَلى حُصُولِ الصَّبْرِ وتَقَدُّمِهِ عَلَيْها، ولِذَلِكَ لَمْ تَأْتِ صِلَةٌ في القُرْآنِ إلّا بِصِيغَةِ الماضِي، إذْ هو شَرْطٌ في حُصُولِ التَّكالِيفِ وإيقاعِها، واللَّهُ أعْلَمُ. وانْتَصَبَ (ابْتِغاءَ) قِيلَ: عَلى أنَّهُ مَصْدَرٌ في مَوْضِعِ الحالِ، والأوْلى أنْ يَكُونَ مَفْعُولًا لِأجْلِهِ أيْ: إنَّ صَبْرَهم هو لِابْتِغاءِ وجْهِ اللَّهِ خالِصًا، لا لِرَجاءِ أنْ يُقالَ: ما أصْبَرَهُ، ولا مَخافَةَ أنْ يُعابَ بِالجَزَعِ، أوْ تَشْمَتْ بِهِ الأعْداءُ، كَما قالَ:
؎وتَجَلُّدِي لِلشّامِتِينَ أُرِيهِمُ ∗∗∗ أنِّي لِرَيْبِ الدَّهْرِ لا أتَضَعْضَعُ
ولِأنَّ الجَزَعَ لا طائِلَ تَحْتَهُ، أوْ يَعْلَمُ أنَّهُ لا مَرَدَّ لِما فاتَ ولا لِما وقَعَ. والظّاهِرُ في مَعْنى الوَجْهِ هُنا جِهَةُ اللَّهِ أيْ: الجِهَةُ الَّتِي تُقْصَدُ عِنْدَهُ تَعالى بِالحَسَناتِ لِتَقَعَ عَلَيْها المَثُوبَةُ، كَما تَقُولُ: خَرَجَ زَيْدٌ لِوَجْهِ كَذا. ونَبَّهَ عَلى هاتَيْنِ الخَصْلَتَيْنِ: العِبادَةُ البَدَنِيَّةُ، والعِبادَةُ المالِيَّةُ، إذْ هُما عَمُودُ الدِّينِ، والصَّبْرُ عَلَيْهِما أعْظَمُ صَبْرٍ لِتَكَرُّرِ الصَّلَواتِ، ولِتَعَلُّقِ النُّفُوسِ بِحُبِّ تَحْصِيلِ المالِ. ونَبَّهَ عَلى حالَتَيِ الإنْفاقِ، فالسِّرُّ أفْضَلُ حالاتِ إنْفاقِ التَّطَوُّعِ كَما جاءَ في السَّبْعَةِ الَّذِينَ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ في ظِلِّهِ يَوْمَ لا ظِلَّ إلّا ظِلُّهُ، ورَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فَأخْفاها، والعَلانِيَةُ أفْضَلُ حالاتِ إنْفاقِ الفُرُوضِ؛ لِأنَّ الإظْهارَ فِيها أفْضَلُ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: ﴿مِمّا رَزَقْناهُمْ﴾ مِنَ الحَلالِ؛ لِأنَّ الحَرامَ لا يَكُونُ رِزْقًا ولا يُسْنَدُ إلى اللَّهِ، انْتَهى. وهَذا عَلى طَرِيقِ المُعْتَزِلَةِ.
ولِلسَّلَفِ هُنا في الصَّبْرِ أقْوالٌ مُتَقارِبَةٌ. قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: صَبَرُوا عَلى أمْرِ اللَّهِ. وقالَ أبُو عِمْرانَ الجَوْنِيُّ: صَبَرُوا عَلى دِينِهِمْ. وقالَ عَطاءٌ: صَبَرُوا عَلى الرَّزايا والمَصائِبِ. وقالَ ابْنُ زَيْدٍ: صَبَرُوا عَلى الطّاعَةِ وعَنِ المَعْصِيَةِ. (ويَدْرَءُونَ): يَدْفَعُونَ. قالَ ابْنُ زَيْدٍ: الشَّرُّ بِالخَيْرِ. وقالَ قَتادَةُ: رَدُّوا عَلَيْهِمْ مَعْرُوفًا كَقَوْلِهِ: ﴿وإذا خاطَبَهُمُ الجاهِلُونَ قالُوا سَلامًا﴾ [الفرقان: ٦٣] وقالَ الحَسَنُ: إذا حُرِمُوا أعْطَوْا، وإذا ظُلِمُوا عَفَوْا، وإذا قُطِعُوا وصَلُوا. وقالَ القُتَبِيُّ: إذا سُفِّهَ عَلَيْهِمْ حَلُمُوا، وقالَ ابْنُ جُبَيْرٍ: يَدْفَعُونَ المُنْكَرَ بِالمَعْرُوفِ. وقالَ ابْنُ كَيْسانَ: إذا أذْنَبُوا تابُوا، وإذا هَرَبُوا أنابُوا لِيَدْفَعُوا عَنْ أنْفُسِهِمْ بِالتَّوْبَةِ مَعَرَّةَ الذَّنْبِ، وهَذا المَعْنى قَوْلُ ابْنِ عَبّاسٍ في رِوايَةِ الضَّحّاكِ عَنْهُ. وقِيلَ: يَدْفَعُونَ بـ ”لا إلَهَ إلّا اللَّهُ“ شِرْكَهم. وقِيلَ: بِالسَّلامِ غَوائِلَ النّاسِ. وقِيلَ: مَن رَأوْا مِنهُ مَكْرُوهًا بِالَّتِي هي أحْسَنُ. وقِيلَ: بِالصّالِحِ مِنَ العَمَلِ السَّيِّئِ، ويُؤَيِّدُهُ ما رُوِيَ في الحَدِيثِ «أنَّ مُعاذًا قالَ: أوْصِنِي يا رَسُولَ اللَّهِ فَقالَ: (إذا عَمِلْتَ سَيِّئَةً فاعْمَلْ إلى جَنْبِها حَسَنَةً تَمْحُها) السِّرُّ بِالسِّرِّ والعَلانِيَةُ بِالعَلانِيَةِ» . وقِيلَ العَذابُ: بِالصَّدَقَةِ. وقِيلَ: إذا هَمُّوا بِالسَّيِّئَةِ فَكَرُّوا ورَجَعُوا عَنْها واسْتَغْفَرُوا. وهَذِهِ الأقْوالُ كُلُّها عَلى سَبِيلِ المَجازِ. وبِالجُمْلَةِ لا يُكافِئُونَ الشَّرَّ بِالشَّرِّ كَما قالَ الشّاعِرُ:
؎يَجْزُونَ مِن ظُلْمِ أهْلِ الظُّلْمِ مَغْفِرَةً ∗∗∗ ومِن إساءَةِ أهْلِ السُّوءِ إحْسانًا
وهَذا بِخِلافِ خُلُقِ الجاهِلِيَّةِ كَما قالَ:
؎جَرِيءٌ مَتى يُظْلَمُ يُعاقِبُ بِظُلْمِهِ ∗∗∗ سَرِيعًا وإنْ لا يُبْدَ بِالظُّلْمِ يَظْلِمِ
ورُوِيَ أنَّ هَذِهِ الآيَةَ نَزَلَتْ في الأنْصارِ، ثُمَّ هي عامَّةٌ بَعْدَ ذَلِكَ في كُلِّ مَنِ اتَّصَفَ بِهَذِهِ الصِّفاتِ. و﴿عُقْبى الدّارِ﴾ عاقِبَةُ الدُّنْيا، وهي الجَنَّةُ؛ لِأنَّها الَّتِي أرادَ اللَّهُ أنْ تَكُونَ عاقِبَةَ الدُّنْيا ومَوْضِعَ أهْلِها. و﴿جَنّاتُ عَدْنٍ﴾ بَدَلٌ مِن ﴿عُقْبى الدّارِ﴾ ويُحْتَمَلُ أنْ يُرادَ عُقْبى دارِ الآخِرَةِ لِدارِ الدُّنْيا في العُقْبى الحَسَنَةِ في الدّارِ الآخِرَةِ هي لَهم، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ (جَنّاتُ) خَبَرَ ابْتِداءٍ مَحْذُوفٍ. وقَرَأ الجُمْهُورُ: (جَنّاتُ)، والنَّخْعِيُّ: (جَنَّةُ) بِالإفْرادِ. (p-٣٨٧)ورُوِيَ عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ، وأبِي عَمْرٍو: (يُدْخَلُونَها) مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ. وقَرَأ ابْنُ أبِي عَبْلَةَ: ﴿ومَن صَلَحَ﴾ بِضَمِّ اللّامِ، والجُمْهُورُ بِفَتْحِها؛ وهو أفْصَحُ. وقَرَأ عِيسى الثَّقَفِيُّ: (وذُرِّيَّتَهم) بِالتَّوْحِيدِ، والجُمْهُورُ بِالجَمْعِ. وقَرَأ ابْنُ يَعْمَرَ: (فَنَعِمَ) بِفَتْحِ النُّونِ وكَسْرِ العَيْنِ وهي الأصْلُ، كَما قالَ الرّاجِزُ:
؎نَعِمَ السّاعُونَ في اليَوْمِ الشُّطُرِ
وقَرَأ ابْنُ وثّابٍ: (فَنَعْمَ) بِفَتْحِ النُّونِ وسُكُونِ العَيْنِ وتَخْفِيفِ المِيمِ لُغَةٌ تَمِيمِيَّمَةٌ، والجُمْهُورُ (نِعْمَ) بِكَسْرِ النُّونِ وسُكُونِ العَيْنِ، وهي أكْثَرُ اسْتِعْمالًا. قالَ مُجاهِدٌ وغَيْرُهُ: ﴿ومَن صَلَحَ﴾ أيْ: عَمَلَ صالِحًا وآمَنَ، انْتَهى. وهَذا يَدُلُّ عَلى أنَّ مُجَرَّدَ النَّسَبِ مِنَ الصّالِحِ لا يَنْفَعُ، إنَّما تَنْفَعُ الأعْمالُ الصّالِحَةُ. وقِيلَ: يَحْتَمِلُ قَوْلُهُ: ﴿ومَن صَلَحَ﴾ أيْ: لِذَلِكَ بِقَدَرِ اللَّهِ تَعالى وسابِقِ عِلْمِهِ. قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: هَذا الصَّلاحُ هو الإيمانُ بِاللَّهِ وبِالرَّسُولِ ﷺ، وهَذِهِ بِشارَةٌ بِنِعْمَةِ اجْتِماعِهِمْ مَعَ قَراباتِهِمْ في الجَنَّةِ. والظّاهِرُ أنَّ ”ومَن“ مَعْطُوفٌ عَلى الضَّمِيرِ في (يَدْخُلُونَها) وقَدْ فَصَلَ بَيْنَهُما بِالمَفْعُولِ. وقِيلَ: يَجُوزُ أنْ يَكُونَ مَفْعُولًا مَعَهُ؛ أيْ: يَدْخُلُونَها مَعَ مَن صَلَحَ. ويَشْتَمِلُ قَوْلُهُ: (مِن آبائِهِمْ) أبَوا كُلِّ واحِدٍ والِدُهُ ووالِدَتُهُ، وغَلَبَ الذُّكُورُ عَلى الإناثِ، فَكَأنَّهُ قِيلَ: ومَن صَلَحَ مِن آبائِهِمْ وأُمَّهاتِهِمْ.
﴿والمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِن كُلِّ بابٍ﴾ أيْ: بِالتُّحَفِ والهَدايا مِنَ اللَّهِ تَعالى تَكْرِمَةً لَهم. قالَ أبُو بَكْرٍ الوَرّاقُ: هَذِهِ ثَمانِيَةُ أعْمالٍ تُشِيرُ إلى ثَمانِيَةِ أبْوابِ الجَنَّةِ، مَن عَمِلَها دَخَلَها مِن أيِّ بابٍ شاءَ. قالَ الأصَمُّ: نَحْوَ هَذا قالَ: (مِن كُلِّ بابٍ) بابُ الصَّلاةِ، وبابُ الزَّكاةِ، وبابُ الصَّبْرِ. ولِأبِي عَبْدِ اللَّهِ الرّازِيِّ كَلامٌ عَجِيبٌ في المَلائِكَةِ، ذَكَرَ: أنَّ المَلائِكَةَ طَوائِفُ مِنهم رُوحانِيُّونَ، ومِنهم كَرُوبِيُّونَ، فالعَبْدُ إذا راضَ نَفْسَهُ بِأنْواعِ الرِّياضاتِ كالصَّبْرِ والشُّكْرِ والمُراقَبَةِ والمُحاسَبَةِ، فَلِكُلِّ مَرْتَبَةٍ مِن هَذِهِ المَراتِبِ جَوْهَرٌ قُدْسِيٌّ ورُوحٌ عُلْوِيٌّ يُحْفَظُ لِتِلْكَ الصِّفَةِ مَزِيدَ اخْتِصاصٍ، فَعِنْدَ المَوْتِ إذا أشْرَقَتْ تِلْكَ الجَواهِرُ القُدْسِيَّةُ تَجَلَّتْ فِيها مِن كُلِّ رُوحٍ مِنَ الأرْواحِ السَّمائِيَّةِ ما يُناسِبُها مِنَ الصِّفَةِ المَخْصُوصَةِ، فَيَفِيضُ عَلَيْها مِن مَلائِكَةِ الصَّبْرِ كَمالاتٌ مَخْصُوصَةٌ نَفْسانِيَّةٌ لا تَظْهَرُ إلّا في مَقامِ الصَّبْرِ، ومِن مَلائِكَةِ الشُّكْرِ كَمالاتٌ رُوحانِيَّةٌ لا تَتَجَلّى إلّا في مَقامِ الشُّكْرِ، وهَكَذا القَوْلُ في جَمِيعِ المَراتِبِ، انْتَهى. وهَذا كَلامٌ فَلْسَفِيٌّ لا تَفْهَمُهُ العَرَبُ، ولا جاءَتْ بِهِ الأنْبِياءُ، فَهو كَلامٌ مُطْرَحٌ لا يَلْتَفِتُ إلَيْهِ المُسْلِمُونَ. قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وحَكى الطَّبَرِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ في صِفَةِ دُخُولِ المَلائِكَةِ أحادِيثَ لَمْ نُطَوِّلْ بِها لِضَعْفِ أسانِيدِها، انْتَهى.
وارْتَفَعَ (سَلامٌ) عَلى الِابْتِداءِ، و(عَلَيْكم) الخَبَرُ، والجُمْلَةُ مَحْكِيَّةٌ بِقَوْلٍ مَحْذُوفٍ أيْ: يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكم. والظّاهِرُ أنَّ قَوْلَهُ تَعالى: (سَلامٌ عَلَيْكم) تَحِيَّةُ المَلائِكَةِ لَهم، ويَكُونُ قَوْلُهُ تَعالى: (بِما صَبَرْتُمْ) خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ؛ أيْ: هَذا الثَّوابُ بِسَبَبِ صَبْرِكم في الدُّنْيا عَلى المَشاقِّ، أوْ تَكُونُ الباءُ بِمَعْنى بَدَلٍ؛ أيْ: بَدَلَ صَبْرِكم أيْ: بَدَلَ ما احْتَمَلْتُمْ مِن مَشاقِّ الصَّبْرِ، هَذِهِ المَلاذُ والنِّعَمُ. وقِيلَ: (سَلامٌ) جَمْعُ سَلامَةٍ؛ أيْ: إنَّما سَلَّمَكُمُ اللَّهُ تَعالى مِن أهْوالِ يَوْمِ القِيامَةِ بِصَبْرِكم في الدُّنْيا. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: ويَجُوزُ أنْ يَتَعَلَّقَ بِـ (سَلامٌ) أيْ: يُسَلِّمُ عَلَيْكم ويُكْرِمُكم بِصَبْرِكم، والمَخْصُوصُ بِالمَدْحِ مَحْذُوفٌ؛ أيْ: فَنِعْمَ عُقْبى الدّارِ الجَنَّةُ مِن جَهَنَّمَ، و(الدّارِ) تَحْتَمِلُ الدُّنْيا وتَحْتَمِلُ الآخِرَةَ. وقالَتْ فِرْقَةٌ: المَعْنى أنْ عَقَّبُوا الجَنَّةَ مِن جَهَنَّمَ. قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وهَذا التَّأْوِيلُ مَبْنِيٌّ عَلى حَدِيثٍ ورَدَ وهو: أنَّ كُلَّ رَجُلٍ في الجَنَّةِ قَدْ كانَ لَهُ مَقْعَدٌ مَعْرُوفٌ في النّارِ، فَصَرَفَهُ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ إلى النَّعِيمِ فَيُعْرَضُ عَلَيْهِ ويُقالُ لَهُ: «هَذا مَكانُ مَقْعَدِكَ، فَبَدَّلَكَ اللَّهُ مِنهُ الجَنَّةَ بِإيمانِكَ وطاعَتِكَ وصَبْرِكَ» انْتَهى. ولَمّا كانَ الصَّبْرُ هو الَّذِي نَشَأ عَنْهُ تِلْكَ الطّاعاتُ السّابِقَةُ، ذَكَرَتِ المَلائِكَةُ أنَّ النَّعِيمَ السَّرْمَدِيَّ إنَّما هو حاصِلٌ بِسَبَبِ الصَّبْرِ، ولَمْ يَأْتِ التَّرْكِيبُ بِالإيفاءِ بِالعَهْدِ، ولا بِغَيْرِ ذَلِكَ.
﴿والَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثاقِهِ ويَقْطَعُونَ ما أمَرَ اللَّهُ بِهِ أنْ يُوصَلَ ويُفْسِدُونَ في الأرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ ولَهم سُوءُ الدّارِ﴾ ﴿اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشاءُ ويَقْدِرُ وفَرِحُوا بِالحَياةِ الدُّنْيا وما الحَياةُ الدُّنْيا في الآخِرَةِ إلّا مَتاعٌ﴾
(p-٣٨٨)قالَ مُقاتِلٌ نَزَلَتْ: ﴿والَّذِينَ يَنْقُضُونَ﴾ في أهْلِ الكِتابِ. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ: نَزَلَتْ ﴿اللَّهُ يَبْسُطُ﴾ في مُشْرِكِي مَكَّةَ، ولَمّا ذَكَرَ تَعالى حالَ السُّعَداءِ وما تَرَتَّبَ لَهم مِنَ الأُمُورِ السُّنِّيَّةِ الشَّرِيفَةِ، ذَكَرَ حالَ الأشْقِياءِ وما تَرَتَّبَ لَهم مِنَ الأُمُورِ المُخْزِيَةِ. وتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ ﴿الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثاقِهِ ويَقْطَعُونَ ما أمَرَ اللَّهُ بِهِ أنْ يُوصَلَ﴾ [البقرة: ٢٧] الآيَةَ. في أوائِلِ البَقَرَةِ، وتَرَتَّبَ لِلسُّعَداءِ هُناكَ التَّصْرِيحُ بِـ ﴿عُقْبى الدّارِ﴾ وهي الجَنَّةُ، وإكْرامِ المَلائِكَةِ لَهم بِالسَّلامِ، وذَلِكَ غايَةُ القُرْبِ والتَّأْنِيسِ. وهُنا تَرَتَّبَ لِلْأشْقِياءِ الإبْعادُ مِن رَحْمَةِ اللَّهِ. و﴿سُوءُ الدّارِ﴾ أيْ: الدّارُ السُّوءُ وهي النّارُ، و(سُوءُ) عاقِبَةُ الدّارِ، وتَكُونُ دارَ الدُّنْيا. ولَمّا كانَ كَثِيرٌ مِنَ الأشْقِياءِ فُتِحَتْ عَلَيْهِمْ نِعَمُ الدُّنْيا ولَذّاتُها أخْبَرَ تَعالى أنَّهُ هو الَّذِي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشاءُ ويَقْدِرُ، والكُفْرُ والإيمانُ لا تَعَلُّقَ لَهُما بِالرِّزْقِ. قَدْ يَقْدِرُ عَلى المُؤْمِنِ لِيَعْظُمَ أجْرُهُ، ويَبْسُطُ لِلْكافِرِ إمْلاءً لِازْدِيادِ آثامِهِ. و(يَقْدِرُ) مُقابِلُ (يَبْسُطُ) وهو التَّضْيِيقُ مِن قَوْلِهِ: ﴿ومَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ﴾ [الطلاق: ٧] وعَلَيْهِ يُحْمَلُ ﴿فَظَنَّ أنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ﴾ [الأنبياء: ٨٧]، وقَوْلُ ذَلِكَ الَّذِي أُحْرِقَ وذُرِيَ في البَحْرِ: (لَئِنْ قَدَرَ اللَّهُ عَلَيَّ) أيْ: لَئِنْ ضَيَّقَ. وقِيلَ: يَقْدِرُ يُعْطِي بِقَدْرِ الكِفايَةِ. وقَرَأ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: (ويَقْدُرُ) بِضَمِّ الدّالِّ، حَيْثُ وقَعَ، والضَّمِيرُ في (فَرِحُوا) عائِدٌ عَلى ﴿الَّذِينَ يَنْقُضُونَ﴾ [البقرة: ٢٧]، وهو اسْتِئْنافُ إخْبارٍ عَنْ جَهْلِهِمْ بِما أُوتُوا مِن بَسْطَةِ الدُّنْيا عَلَيْهِمْ، وفَرَحُهم فَرَحُ بَطَرٍ وبَسْطٍ لا فَرَحُ سُرُورٍ بِفَضْلِ اللَّهِ وإنْعامِهِ عَلَيْهِمْ، ولَمْ يُقابِلُوهُ بِالشُّكْرِ حَتّى يَسْتَوْجِبُوا نَعِيمَ الآخِرَةِ بِفَضْلِ اللَّهِ بِهِ، واسْتَجْهَلَهم بِهَذا الفَرَحِ إذْ هو فَرَحٌ بِما يَزُولُ عَنْ قَرِيبٍ ويَنْقَضِي. ويَبْعُدُ قَوْلُ مَن ذَهَبَ إلى أنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلى صِلاتٍ.
﴿والَّذِينَ يَنْقُضُونَ﴾ أيْ: يُفْسِدُونَ في الأرْضِ.
﴿وفَرِحُوا بِالحَياةِ الدُّنْيا﴾ . وفي الكَلامِ تَقْدِيمٌ وتَأْخِيرٌ. و(مَتاعٌ) مَعْناهُ ذاهِبٌ مُضْمَحِلٌّ يَسْتَمْتِعُ بِهِ قَلِيلًا ثُمَّ يَفْنى. كَما قالَ الشّاعِرُ:
؎تَمَتَّعْ يا مُشَعَّثُ إنَّ شَيْئًا ∗∗∗ سَبَقْتَ بِهِ المَماتَ هو المَتاعُ
(وقالَ آخَرُ)
:
؎أنْتَ نِعْمَ المَتاعُ لَوْ كُنْتَ تَبْقى ∗∗∗ غَيْرَ أنْ لا بَقاءَ لِلْإنْسانِ
(وقالَ آخَرُ)
:
؎تَمَتَّعْ مِنَ الدُّنْيا فَإنَّكَ فانٍ ∗∗∗ مِنَ النَّشَواتِ والنِّساءِ الحِسانِ
قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: خُفِيَ عَلَيْهِمْ أنَّ نَعِيمَ الدُّنْيا في جَنْبِ نَعِيمِ الآخِرَةِ لَيْسَ إلّا شَيْئًا نَذْرًا، يَتَمَتَّعُ بِهِ كَعُجالَةِ الرّاكِبِ، وهو ما يَتَعَجَّلُهُ مِن تُمَيْراتٍ أوْ شَرْبَةِ سَوِيقٍ أوْ غَيْرِ ذَلِكَ، انْتَهى. وهَذا مَعْنى قَوْلِ الحَسَنِ: أعْلَمَ اللَّهُ نَبِيَّهُ أنَّ الحَياةَ الدُّنْيا في جَنْبِ ما أعَدَّ اللَّهُ لِأوْلِيائِهِ في الآخِرَةِ نَذْرٌ لَيْسَ يَتَمَتَّعُ بِهِ كَعُجالَةِ الرّاكِبِ، وهو ما يَتَعَجَّلُهُ مِن تُمَيْراتٍ أوْ شَرْبَةِ سَوِيقٍ أوْ غَيْرِ ذَلِكَ. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ: زادٌ كَزادِ الرَّعْيِ. وقالَ مُجاهِدٌ: قَلِيلٌ ذاهِبٌ مِن مُتَعِ النَّهارِ إذا ارْتَفَعَ فَلا بُدَّ لَهُ مِن زَوالٍ.
{"ayahs_start":19,"ayahs":["۞ أَفَمَن یَعۡلَمُ أَنَّمَاۤ أُنزِلَ إِلَیۡكَ مِن رَّبِّكَ ٱلۡحَقُّ كَمَنۡ هُوَ أَعۡمَىٰۤۚ إِنَّمَا یَتَذَكَّرُ أُو۟لُوا۟ ٱلۡأَلۡبَـٰبِ","ٱلَّذِینَ یُوفُونَ بِعَهۡدِ ٱللَّهِ وَلَا یَنقُضُونَ ٱلۡمِیثَـٰقَ","وَٱلَّذِینَ یَصِلُونَ مَاۤ أَمَرَ ٱللَّهُ بِهِۦۤ أَن یُوصَلَ وَیَخۡشَوۡنَ رَبَّهُمۡ وَیَخَافُونَ سُوۤءَ ٱلۡحِسَابِ","وَٱلَّذِینَ صَبَرُوا۟ ٱبۡتِغَاۤءَ وَجۡهِ رَبِّهِمۡ وَأَقَامُوا۟ ٱلصَّلَوٰةَ وَأَنفَقُوا۟ مِمَّا رَزَقۡنَـٰهُمۡ سِرࣰّا وَعَلَانِیَةࣰ وَیَدۡرَءُونَ بِٱلۡحَسَنَةِ ٱلسَّیِّئَةَ أُو۟لَـٰۤىِٕكَ لَهُمۡ عُقۡبَى ٱلدَّارِ","جَنَّـٰتُ عَدۡنࣲ یَدۡخُلُونَهَا وَمَن صَلَحَ مِنۡ ءَابَاۤىِٕهِمۡ وَأَزۡوَ ٰجِهِمۡ وَذُرِّیَّـٰتِهِمۡۖ وَٱلۡمَلَـٰۤىِٕكَةُ یَدۡخُلُونَ عَلَیۡهِم مِّن كُلِّ بَابࣲ","سَلَـٰمٌ عَلَیۡكُم بِمَا صَبَرۡتُمۡۚ فَنِعۡمَ عُقۡبَى ٱلدَّارِ","وَٱلَّذِینَ یَنقُضُونَ عَهۡدَ ٱللَّهِ مِنۢ بَعۡدِ مِیثَـٰقِهِۦ وَیَقۡطَعُونَ مَاۤ أَمَرَ ٱللَّهُ بِهِۦۤ أَن یُوصَلَ وَیُفۡسِدُونَ فِی ٱلۡأَرۡضِ أُو۟لَـٰۤىِٕكَ لَهُمُ ٱللَّعۡنَةُ وَلَهُمۡ سُوۤءُ ٱلدَّارِ","ٱللَّهُ یَبۡسُطُ ٱلرِّزۡقَ لِمَن یَشَاۤءُ وَیَقۡدِرُۚ وَفَرِحُوا۟ بِٱلۡحَیَوٰةِ ٱلدُّنۡیَا وَمَا ٱلۡحَیَوٰةُ ٱلدُّنۡیَا فِی ٱلۡـَٔاخِرَةِ إِلَّا مَتَـٰعࣱ"],"ayah":"وَٱلَّذِینَ یَنقُضُونَ عَهۡدَ ٱللَّهِ مِنۢ بَعۡدِ مِیثَـٰقِهِۦ وَیَقۡطَعُونَ مَاۤ أَمَرَ ٱللَّهُ بِهِۦۤ أَن یُوصَلَ وَیُفۡسِدُونَ فِی ٱلۡأَرۡضِ أُو۟لَـٰۤىِٕكَ لَهُمُ ٱللَّعۡنَةُ وَلَهُمۡ سُوۤءُ ٱلدَّارِ"}