الباحث القرآني
قوله عزّ وجلّ:
﴿والَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِن بَعْدِ مِيثاقِهِ ويَقْطَعُونَ ما أمَرَ اللهِ بِهِ أنْ يُوصَلَ ويُفْسِدُونَ في الأرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَعْنَةُ ولَهم سُوءُ الدارِ﴾ ﴿اللهُ يَبْسُطُ الرِزْقَ لِمَن يَشاءُ ويَقْدِرُ وفَرِحُوا بِالحَياةِ الدُنْيا وما الحَياةُ الدُنْيا في الآخِرَةِ إلا مَتاعٌ﴾ ﴿وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِن رَبِّهِ قُلْ إنَّ اللهَ يُضِلُّ مِن يَشاءُ ويَهْدِي إلَيْهِ مِن أنابَ﴾ ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهم بِذِكْرِ اللهِ ألا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ القُلُوبُ﴾ ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصالِحاتِ طُوبى لَهم وحُسْنُ مَآبٍ﴾
هَذِهِ صِفَةُ حالَةٍ مُضادَّةٍ لِلْمُتَقَدِّمَةِ، وقالَ ابْنُ جُرَيْجٍ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَيَقْطَعُونَ ما أمَرَ اللهُ بِهِ أنْ يُوصَلَ﴾ أنَّهُ رُوِيَ: « "إذا لَمْ تَمْشِ إلى قَرِيبِكَ بِرِجْلِكَ ولَمْ تُواسِهِ بِمالِكَ فَقَدْ قَطَعْتَهُ"،» وقالَ مُصْعَبُ بْنُ سَعْدٍ: سَألْتُ أبِي عن قَوْلِهِ تَعالى: ﴿هَلْ نُنَبِّئُكم بِالأخْسَرِينَ أعْمالا﴾ [الكهف: ١٠٣] ﴿الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهم في الحَياةِ الدُنْيا﴾ [الكهف: ١٠٤] أهُمُ الحَرُورِيَّةُ؟ قالَ: لا، ولَكِنَّ الحَرُورِيَّةَ هُمُ الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِن بَعْدِ مِيثاقِهِ، وتَلا هَذِهِ الآيَةَ، فَكانَ سَعْدُ بْنُ أبِي وقّاصٍ رَضِيَ اللهُ (p-٢٠٢)عنهُ يَجْعَلُ فِيهِمُ الآيَتَيْنِ. و"اللَعْنَةُ": الإبْعادُ مِن رَحْمَةِ اللهِ ومِنَ الخَيْرِ جُمْلَةً، و﴿سُوءُ الدارِ﴾ ضِدُّ ﴿عُقْبى الدارِ﴾ [الرعد: ٢٤]، والأظْهَرُ في الدارِ هُنا أنَّها دارُ الآخِرَةِ، ويُحْتَمَلُ أنْ تَكُونَ الدُنْيا عَلى ضَعْفٍ.
وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿اللهُ يَبْسُطُ الرِزْقَ﴾ الآيَةُ. لَمّا أخْبَرَ تَعالى عَمَّنْ تَقَدَّمَتْ صِفَتُهُ بِأنَّ لَهُمُ اللَعْنَةُ ولَهم سُوءُ الدارِ أنْحى بَعْدَ ذَلِكَ عَلى أغْنِيائِهِمْ، وحَقَّرَ شَأْنَهم وشَأْنَ أمْوالِهِمْ، والمَعْنى أنَّ هَذا كُلَّهُ بِمَشِيئَةِ اللهِ، يَهَبُ الكافِرُ المالَ لِيُهْلِكَهُ بِهِ، ويَقْدِرُ عَلى المُؤْمِنِ لِيُعْظِمَ بِذَلِكَ أجْرَهُ وذُخْرَهُ. وقَوْلُهُ: "وَيَقْدِرُ" التَقْدِيرُ، فَهو مُناقِضٌ لِـ "يَبْسُطُ"، ثُمَّ اسْتَجْهَلَهم في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَفَرِحُوا بِالحَياةِ الدُنْيا﴾ وهي بِالإضافَةِ إلى الآخِرَةِ مَتاعٌ ذاهِبٌ مُضْمَحِلٌّ، يُسْتَمْتَعُ بِهِ قَلِيلًا ثُمَّ يَفْنى. و"المَتاعُ": ما يُتَمَتَّعُ بِهِ مِمّا لا يَبْقى، وقالَ الشاعِرُ:
؎ تَمَتَّعْ يا مُشَعَّثُ إنَّ شَيْئًا ∗∗∗ سَبَقَتْ بِهِ المَماتَ هو المَتاعُ
وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ الآيَةُ، هَذا رَدٌّ عَلى مُقْتَرَحِي الآياتِ مِن كُفّارِ قُرَيْشٍ، كَسُقُوطِ السَماءِ عَلَيْهِمْ كِسَفًا، ونَحْوِ ذَلِكَ مِن قَوْلِهِمْ: سَيِّرْ عَنّا الأخْشَبَيْنِ، واجْعَلْ لَنا البِطاحَ مَحارِثَ ومُغْتَرَسًا كالأُرْدُنِّ، وأحْيِ لَنا مُضِيًّا وأسْلافَنا، فَلَمّا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ بِحَسْبِ أنَّ آياتِ الِاقْتِراحِ لَمْ تَجْرِ عادَةً الأنْبِياءُ بِالإتْيانِ بِها إلّا إذا أرادَ اللهُ تَعْذِيبَ قَوْمٍ قالُوا هَذِهِ المَقالَةَ، فَرَدَّ اللهُ عَلَيْهِمْ، أيْ أنَّ نُزُولَ الآيَةِ لا تَكُونُ مَعَهُ ضَرُورَةُ إيمانِكم ولا هُداكُمْ، وإنَّما الأمْرُ بِيَدِ اللهِ يُضِلُّ مَن يَشاءُ ويَهْدِي إلى طاعَتِهِ والإيمانِ بِهِ مَن أنابَ إلى الطاعَةِ وآمَنَ بِالآياتِ الدالَّةِ. ويُحْتَمَلُ أنْ يَعُودَ الضَمِيرُ في "إلَيْهِ" عَلى القُرْآنِ الكَرِيمِ، أو عَلى مُحَمَّدٍ ﷺ.
و"الَّذِينَ" بَدَلٌ مِن "مَن" في قَوْلِهِ: ﴿مَن أنابَ﴾، وطُمَأْنِينَةُ القُلُوبِ هي الِاسْتِكانَةُ والسُرُورُ بِذِكْرِ اللهِ والسُكُونُ بِهِ كَمالًا بِهِ، ورِضًى بِالثَوابِ عَلَيْهِ، وجَوْدَةُ اليَقِينِ. ثُمَّ (p-٢٠٣)اسْتَفْتَحَ الإخْبارُ بِأنَّ طُمَأْنِينَةَ القُلُوبِ بِذِكْرِ اللهِ تَعالى، وفي هَذا الإخْبارِ حَضٌّ وتَرْغِيبٌ في الإيمانِ، والمَعْنى: أنَّ بِهَذا تَقَعُ الطُمَأْنِينَةُ لا بِالآياتِ المُقْتَرَحَةِ، بَلْ رُبَّما كُفِرَ بَعْدَها فَنَزَلَ العَذابُ كَما سَلَفَ في بَعْضِ الأُمَمِ.
و"الَّذِينَ" الثانِي ابْتِداءٌ وخَبَرُهُ ﴿طُوبى لَهُمْ﴾، ويَصِحُّ أنْ تَكُونَ "الَّذِينَ" بَدَلًا مِنَ الأُولى. و"طُوبى" ابْتِداءً و"لَهُمْ" خَبَرَهُ. وطُوبى اسْمٌ، يَدُلُّ عَلى ذَلِكَ كَوْنُهُ ابْتِداءً، وهي فُعْلى مَنِ الطِيبِ في قَوْلِ بَعْضِهِمْ، وذَهَبَ سِيبَوَيْهِ بِها مَذْهَبَ الدُعاءِ، وقالَ: هي في مَوْضِعِ رَفْعٍ، ويَدُلُّ عَلى ذَلِكَ رَفْعُ "وَحُسْنُ"، قالَ ثَعْلَبٌ: وقُرِئَ: "وَحُسْنَ" بِالنَصْبِ، فَـ "طُوبى" -عَلى هَذا- مَصْدَرٌ، كَما قالُوا: سَقْيًا لَكَ، ونَظِيرُهُ مِنَ المَصادِرِ: الرُجْعى والعُقْبى. قالَ ابْنُ سِيدَةَ: والطُوبى جَمْعُ طَيِّبَةٍ -عن كُراعٍ-، ونَظِيرُهُ كُوسى في جَمْعِ كَيِّسَةٍ، وصُوفى في جَمْعِ صَيِّفَةٍ.
قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ:
والَّذِي قَرَأ: "وَحُسْنَ" بِالنَصْبِ هو يَحْيى بْنُ يَعْمُرَ، وابْنُ أبِي عَبْلَةَ.
واخْتُلِفَ في مَعْنى "طُوبى" -فَقِيلَ: مَعْناهُ: خَيْرٌ لَهُمْ، وقالَ عِكْرِمَةُ: مَعْناهُ: نِعْمَ لَهُمْ، وقالَ الضَحّاكُ: مَعْناهُ: غِبْطَةٌ لَهُمْ، وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ: طُوبى اسْمُ الجَنَّةِ بِالحَبَشِيَّةِ، وقالَ سَعِيدُ بْنُ مَشْجُوحٍ: اسْمُ الجَنَّةِ طُوبى بِالهِنْدِيَّةِ، وقِيلَ: طُوبى اسْمُ شَجَرَةٍ في الجَنَّةِ، وبِهَذا تَواتَرَتِ الأحادِيثُ، قالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: « "طُوبى شَجَرَةٌ في الجَنَّةِ، يَسِيرُ الراكِبُ المُجِدُّ في ظِلِّها مِائَةَ عامٍ لا يَقْطَعُها، اقْرَؤُوا إنْ شِئْتُمْ: ﴿وَظِلٍّ مَمْدُودٍ﴾ [الواقعة: ٣٠] ".»
وحَكى الطَبَرِيُّ عن أبِي هُرَيْرَةَ وعن مُغِيثِ بْنِ سُمَيِّ، وعَتَبَةَ بْنِ عَبْدٍ يَرْفَعُهُ أخْبارًا (p-٢٠٤)مُقْتَضاها أنَّ هَذِهِ الشَجَرَةَ لَيْسَ دارٌ في الجَنَّةِ دارَ إلّا وفِيها مِن أغْصانِها، وأنَّها تُثْمِرُ بِثِيابِ أهْلِ الجَنَّةِ، وأنَّها تَخْرُجُ مِنها الخَيْلُ بِسُرُجِها ولُجُمِها، ونَحْوُ هَذا مِمّا لَمَّ يَثْبُتْ سَنَدُهُ.
و"المَآبُ": المَرْجِعُ والمالُ، مِن آبَ يَؤُوبُ، ويُقالُ في طُوبى: طِيبى.
{"ayahs_start":25,"ayahs":["وَٱلَّذِینَ یَنقُضُونَ عَهۡدَ ٱللَّهِ مِنۢ بَعۡدِ مِیثَـٰقِهِۦ وَیَقۡطَعُونَ مَاۤ أَمَرَ ٱللَّهُ بِهِۦۤ أَن یُوصَلَ وَیُفۡسِدُونَ فِی ٱلۡأَرۡضِ أُو۟لَـٰۤىِٕكَ لَهُمُ ٱللَّعۡنَةُ وَلَهُمۡ سُوۤءُ ٱلدَّارِ","ٱللَّهُ یَبۡسُطُ ٱلرِّزۡقَ لِمَن یَشَاۤءُ وَیَقۡدِرُۚ وَفَرِحُوا۟ بِٱلۡحَیَوٰةِ ٱلدُّنۡیَا وَمَا ٱلۡحَیَوٰةُ ٱلدُّنۡیَا فِی ٱلۡـَٔاخِرَةِ إِلَّا مَتَـٰعࣱ","وَیَقُولُ ٱلَّذِینَ كَفَرُوا۟ لَوۡلَاۤ أُنزِلَ عَلَیۡهِ ءَایَةࣱ مِّن رَّبِّهِۦۚ قُلۡ إِنَّ ٱللَّهَ یُضِلُّ مَن یَشَاۤءُ وَیَهۡدِیۤ إِلَیۡهِ مَنۡ أَنَابَ","ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ وَتَطۡمَىِٕنُّ قُلُوبُهُم بِذِكۡرِ ٱللَّهِۗ أَلَا بِذِكۡرِ ٱللَّهِ تَطۡمَىِٕنُّ ٱلۡقُلُوبُ","ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ وَعَمِلُوا۟ ٱلصَّـٰلِحَـٰتِ طُوبَىٰ لَهُمۡ وَحُسۡنُ مَـَٔابࣲ"],"ayah":"وَٱلَّذِینَ یَنقُضُونَ عَهۡدَ ٱللَّهِ مِنۢ بَعۡدِ مِیثَـٰقِهِۦ وَیَقۡطَعُونَ مَاۤ أَمَرَ ٱللَّهُ بِهِۦۤ أَن یُوصَلَ وَیُفۡسِدُونَ فِی ٱلۡأَرۡضِ أُو۟لَـٰۤىِٕكَ لَهُمُ ٱللَّعۡنَةُ وَلَهُمۡ سُوۤءُ ٱلدَّارِ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق