سُورَةُ الرَّعْدِ (13)
جاءَ مِن طَرِيقِ مُجاهِدٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ وعَلِيِّ بْنِ أبِي طَلْحَةَ أنَّها مَكِّيَّةٌ ورُوِيَ ذَلِكَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قالَ سَعِيدُ بْنُ مَنصُورٍ في سُنَنِهِ: حَدَّثَنا أبُو عَوانَةَ عَنْ أبِي بِشْرٍ قالَ: سَألْتُ ابْنَ جُبَيْرٍ عَنْ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿ومَن عِنْدَهُ عِلْمُ الكِتابِ﴾ هَلْ هو عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلامٍ فَقالَ: كَيْفَ وهَذِهِ السُّورَةُ مَكِّيَّةٌ وأخْرَجَ مُجاهِدٌ عَنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ وابْنُ مَرْدُوَيْهِ مِن طَرِيقِ العَوْفِيِّ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ ومِن طَرِيقِ ابْنِ جُرَيْجٍ وعُثْمانُ عَنْ عَطاءٍ عَنْهُ وأبُو الشَّيْخِ عَنْ قَتادَةَ أنَّها مَدَنِيَّةٌ إلّا أنَّ في رِوايَةِ الأخِيرِ اسْتِثْناءُ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿ولا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهم بِما صَنَعُوا قارِعَةٌ﴾ الآيَةَ فَإنَّها مَكِّيَّةٌ ورُوِيَ أنَّ أوَّلَها إلى آخِرِ ﴿ولَوْ أنَّ قُرْآنًا﴾ الآيَةَ مَدَنِيٌّ وباقِيها مَكِّيٌّ وفي الإتْقانِ يُؤَيِّدُ القَوْلَ بِأنَّها مَدَنِيَّةٌ ما أخْرَجَهُ الطَّبَرانِيُّ وغَيْرُهُ عَنْ أنَسٍ أنَّ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿اللَّهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى﴾ إلى قَوْلِهِ سُبْحانَهُ: ﴿وهُوَ شَدِيدُ المِحالِ﴾ نَزَلَ في قِصَّةِ أرْبَدَ بْنِ قَيْسٍ وعامِرِ بْنِ الطُّفَيْلِ حِينَ قَدِما المَدِينَةَ عَلى رَسُولِ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ ثُمَّ قالَ: والَّذِي يَجْمَعُ بِهِ بَيْنَ الِاخْتِلافِ أنَّها مَكِّيَّةٌ إلّا آياتٍ مِنها وهي ثَلاثٌ وأرْبَعُونَ آيَةً في الكُوفِيِّ وأرْبَعٌ في المَدَنِيِّ وخَمْسٌ في البَصْرِيِّ وسَبْعٌ في الشّامِيِّ ووَجْهُ مُناسَبَتِها لِما قَبْلَها أنَّهُ سُبْحانَهُ قالَ فِيما تَقَدَّمَ: ﴿وكَأيِّنْ مِن آيَةٍ في السَّماواتِ والأرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها وهم عَنْها مُعْرِضُونَ﴾ فَأجْمَلَ سُبْحانَهُ الآياتِ السَّماوِيَّةَ والأرْضِيَّةَ ثُمَّ فَصَّلَ جَلَّ شَأْنُهُ ذَلِكَ هُنا أتَمَّ تَفْصِيلٍ وأيْضًا أنَّهُ تَعالى قَدْ أتى هُنا مِمّا يَدُلُّ عَلى تَوْحِيدِهِ عَزَّ وجَلَّ ما يَصْلُحُ شَرْحًا لِما حَكاهُ عَنْ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلامُ مِن قَوْلِهِ: ﴿أأرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أمِ اللَّهُ الواحِدُ القَهّارُ﴾ وأيْضًا في كُلٍّ مِنَ السُّورَتَيْنِ ما فِيهِ تَسْلِيَةٌ لَهُ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ هَذا مَعَ اشْتِراكِ آخِرِ تِلْكَ السُّورَةِ وأوَّلِ هَذِهِ فِيما فِيهِ وصْفُ القُرْآنِ كَما لا يَخْفى وجاءَ في فَضْلِها ما أخْرَجَهُ ابْنُ أبِي شَيْبَةَ والمَرُوزِيُّ في الجَنائِزِ أنَّهُ كانَ يَسْتَحِبُّ إذا حَضَرَ المَيِّتُ أنْ يَقْرَأ عِنْدَهُ سُورَةَ الرَّعْدِ فَإنَّ ذَلِكَ يُخَفِّفُ عَنِ المَيِّتِ وأنَّهُ أهْوَنُ لِقَبْضِهِ وأيْسَرُ لِشَأْنِهِ وجاءَ في ذَلِكَ أخْبارٌ أُخَرُ نَصُّوا عَلى وضْعِها واللَّهُ تَعالى أعْلَمُ.
( بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ المر ) أخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وأبُو الشَّيْخِ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ أنَّ مَعْنى ذَلِكَ أنا اللَّهُ أعْلَمُ وأرى وهو أحَدُ أقْوالِ مَشْهُورَةٍ في مِثْلِ ذَلِكَ ﴿تِلْكَ آياتُ الكِتابِ﴾ جَعَلَ غَيْرُ واحِدٍ الكِتابَ بِمَعْنى السُّورَةِ وهو بِمَعْنى المَكْتُوبِ صادِقٌ عَلَيْها مِن غَيْرِ اعْتِبارِ تَجُوُّزٍ والإشارَةُ إلى آياتِها بِاعْتِبارِ أنَّها لِتِلاوَةِ بَعْضِها والبَعْضِ الآخَرِ في مَعْرِضِ التِّلاوَةِ صارَتْ كالحاضِرَةِ أوْ لِثُبُوتِها في اللَّوْحِ أوْ مَعَ المَلِكِ والمَعْنى تِلْكَ الآياتُ السُّورَةُ الكامِلَةُ العَجِيبَةُ في بابِها واسْتُفِيدَ هَذا عَلى ما قِيلَ مِنَ اللّامِ وذَلِكَ أنَّ الإضافَةَ بَيانِيَّةٌ فالمَآلُ ذَلِكَ الكِتابُ والخَبَرُ إذا عُرِّفَ بِلامِ الجِنْسِ أفادَ المُبالَغَةَ وأنَّ هَذا المَحْكُومَ عَلَيْهِ اكْتَسَبَ مِنَ الفَضِيلَةِ ما يُوجِبُ (p-85)جَعْلَهُ نَفْسَ الجِنْسِ وأنَّهُ لَيْسَ نَوْعًا مِن أنْواعِهِ وحَيْثُ أنَّهُ في الظّاهِرِ كالمُمْتَنِعِ أُرِيدَ ذَلِكَ.
وجُوِّزَ أنْ يَكُونَ المُرادُ بِالكِتابِ القُرْآنَ و﴿تِلْكَ﴾ إشارَةٌ إلى آياتِ السُّورَةِ والمَعْنى آياتُ هَذِهِ السُّورَةِ آياتُ القُرْآنِ الَّذِي هو الكِتابُ العَجِيبُ الكامِلُ الغَنِيُّ عَنِ الوَصْفِ بِذَلِكَ المَعْرُوفُ بِهِ مِن بَيْنِ الكُتُبِ الحَقِيقُ بِاخْتِصاصِ اسْمِ الكِتابِ والظّاهِرُ أنَّ المُرادَ جَمِيعُهُ وجُوِّزَ أنْ يُرادَ بِهِ المُنَزَّلُ حِينَئِذٍ ورُجِّحَ إرادَةُ القُرْآنِ بِأنَّهُ المُتَبادَرُ مِن مُطْلَقِ الكِتابِ المُسْتَغْنِي عَنِ النَّعْتِ وبِهِ يَظْهَرُ جَمِيعُ ما أُرِيدَ مِن وصْفِ الآياتِ بِوَصْفِ ما أُضِيفَتْ إلَيْهِ مِن نُعُوتِ الكَمالِ بِخِلافِ ما إذا جُعِلَ عِبارَةً عَنِ السُّورَةِ فَإنَّها لَيْسَتْ بِتِلْكَ المَثابَةِ مِنَ الشُّهْرَةِ في الِاتِّصافِ بِذَلِكَ المُغْنِيَةِ عَنِ التَّصْرِيحِ بِالوَصْفِ وفِيهِ بَحْثٌ وأيًّا ما كانَ فَلا مَحْذُورَ في حَمْلِ آياتِ الكِتابِ عَلى تِلْكَ كَما لا يَخْفى وقِيلَ: الإشارَةُ بِتِلْكَ إلى ما قَصَّ سُبْحانَهُ عَلَيْهِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ مِن أنْباءِ الرُّسُلِ عَلَيْهِمُ السَّلامُ المُشارُ إلَيْها في آخِرِ السُّورَةِ المُتَقَدِّمَةِ بِقَوْلِهِ سُبْحانَهُ: ﴿ذَلِكَ مِن أنْباءِ الغَيْبِ﴾ وجُوِّزَ عَلى هَذا أنْ يُرادَ بِالكِتابِ ما يَشْمَلُ التَّوْراةَ والإنْجِيلَ وأخْرَجَ ذَلِكَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ مُجاهِدٍ وقَتادَةَ.
وجَوَّزَ ابْنُ عَطِيَّةَ هَذا عَلى تَقْدِيرِ أنْ تَكُونَ الإشارَةُ إلى المر مُرادًا بِها حُرُوفُ المُعْجَمِ أيْضًا وجَعْلَ ذَلِكَ مُبْتَدَأً أوَّلًا و﴿تِلْكَ﴾ مُبْتَدَأً ثانِيًا و﴿آياتُ﴾ خَبَرَهُ والجُمْلَةَ خَبَرَ الأوَّلِ والرّابِطَ الإشارَةَ وأمّا قَوْلُهُ سُبْحانَهُ وتَعالى: ﴿والَّذِي أُنْزِلَ إلَيْكَ مِن رَبِّكَ الحَقُّ﴾ فالظّاهِرُ أنَّ المَوْصُولَ فِيهِ مُبْتَدَأٌ وجُمْلَةَ ﴿أُنْزِلَ﴾ مِنَ الفِعْلِ ومَرْفُوعِهِ صِلَتُهُ و﴿مِن رَبِّكَ﴾ مُتَعَلِّقٌ بِأُنْزِلَ و﴿الحَقُّ﴾ خَبَرٌ والمُرادُ بِالمَوْصُولِ عِنْدَ كَثِيرٍ القُرْآنُ كُلُّهُ والكَلامُ اسْتِدْراكٌ عَلى وصْفِ السُّورَةِ فَقَطْ بِالكَمالِ وفي أُسْلُوبِهِ قَوْلُ فاطِمَةَ الأنْمارِيَّةِ وقَدْ قِيلَ لَها: أيُّ بَنِيكِ أفْضَلُ رَبِيعٌ بَلْ عِمارَةُ بَلْ قَيْسٌ بَلْ أنَسٌ ثَكِلْتُهم إنْ كُنْتُ أعْلَمُ أيُّهم أفْضَلُ واللَّهِ إنَّهم كالحَلْقَةِ المُفْرَغَةِ لا يُدْرى أيْنَ طَرَفاها وذَلِكَ كَما أنَّها نَفَتِ التَّفاضُلَ آخِرًا بِإثْباتِ الكَمالِ لِكُلِّ واحِدٍ دَلالَةً عَلى أنَّ كَمالَ كُلٍّ لا يُحِيطُ بِهِ الوَصْفُ وهو إجْمالٌ بَعْدَ التَّفْصِيلِ لِهَذا الغَرَضِ كَذَلِكَ لَمّا أثْبَتَ سُبْحانَهُ لِهَذِهِ السُّورَةِ خُصُوصًا الكَمالَ اسْتَدْرَكَهُ بِأنَّ كُلَّ المُنَزَّلِ كَذَلِكَ لا يَخْتَصُّ بِهِ سُورَةٌ دُونَ أُخْرى لِلدَّلالَةِ المَذْكُورَةِ وهو عَلى ما قِيلَ مَعْنًى بَدِيعٌ ووَجْهٌ بَلِيغٌ ذَكَرَهُ صاحِبُ الكَشّافِ وقِيلَ: إنَّهُ لِتَقْرِيرِ ما قَبْلَهُ والِاسْتِدْلالِ عَلَيْهِ لِأنَّهُ إذا كانَ كُلُّ المُنَزَّلِ عَلَيْهِ حَقًّا فَذَلِكَ المُنَزَّلُ أيْضًا حَقٌّ ضَرُورَةَ أنَّهُ مِن كُلِّ المُنَزَّلِ فَهو كامِلٌ لِأنَّهُ لا أكْمَلَ مِنَ الحَقِّ والصِّدْقِ ولِخَفاءِ أمْرِ الِاسْتِدْلالِ قالَ العَلّامَةُ البَيْضاوِيُّ إنَّهُ كالحُجَّةِ عَلى ما قَبْلَهُ ولَعَلَّ الأوَّلَ أوْلى ومَعَ ذا لا يَخْلُو عَنْ خَفاءٍ أيْضًا ولَوْ قِيلَ: المُرادُ بِالكَمالِ فِيما تَقَدَّمَ الكَمالُ الرّاجِعُ إلى الفَصاحَةِ والبَلاغَةِ ويَكُونُ ذَلِكَ وصْفًا لِلْمُشارِ إلَيْهِ بِالإعْجازِ مِن جِهَةِ ذَلِكَ ويَكُونُ هَذا وصْفًا لَهُ بِخُصُوصِهِ عَلى تَقْدِيرِ أنْ يَكُونَ فِيهِ وضْعُ الظّاهِرِ مَوْضِعَ الضَّمِيرِ أوْ لِما يَشْمَلُهُ وغَيْرُهُ عَلى تَقْدِيرِ أنْ لا يَكُونَ فِيهِ ذَلِكَ بِكَوْنِهِ حَقًّا مُطابِقًا لِلْواقِعِ إذْ لا تَسْتَدْعِي الفَصاحَةُ والبَلاغَةُ الحَقِّيَّةُ كَما يَشْهَدُ بِهِ الرُّجُوعُ إلى المَقاماتِ الحَرِيرِيَّةِ لَمْ يَبْعُدْ كُلَّ البُعْدِ فَتَدَبَّرْ وجَوَّزَ الحُوفِيُّ كَوْنَ ﴿مِن رَبِّكَ﴾ هو الخَبَرُ و﴿الحَقُّ﴾ خَبَرُ مُبْتَدَإٍ مَحْذُوفٍ أيْ هو الحَقُّ أوْ خَبَرٌ بَعْدَ خَبَرٍ أوْ كِلاهُما خَبَرٌ واحِدٌ كَما قِيلَ في: الرُّمّانُ حُلْوٌ حامِضٌ وهو إعْرابٌ مُتَكَلَّفٌ وجُوِّزَ أيْضًا كَوْنُ المَوْصُولِ في مَحَلِّ خَفْضٍ عَطْفًا عَلى ﴿الكِتابِ﴾ و﴿الحَقُّ﴾ حِينَئِذٍ خَبَرُ مُبْتَدَإٍ مَحْذُوفٍ لا غَيْرَ.
قِيلَ: والعَطْفُ مِن عَطْفِ العامِّ عَلى الخاصِّ أوْ إحْدى الصِّفَتَيْنِ عَلى الأُخْرى كَما قالُوا في قَوْلِهِ: (p-86)
؎هُوَ المَلِكُ القَرْمُ وابْنُ الهُمامُ ......
البَيْتَ
وبَعْضُهم يَجْعَلُهُ مِن عَطْفِ الكُلِّ عَلى الجُزْءِ أوْ مِن عَطْفِ أحَدِ المُتَرادِفَيْنِ عَلى الآخَرِ ولِكُلٍّ وِجْهَةٌ وإذا أُرِيدَ بِالكِتابِ ما رُوِيَ عَنْ مُجاهِدٍ وقَتادَةَ فَأمْرُ العَطْفِ ظاهِرٌ وجَوَّزَ أبُو البَقاءِ كَوْنَ ( الَّذِي ) نَعْتًا لِلْكِتابِ بِزِيادَةِ الواوِ في الصِّفَةِ كَما في أتانِي كِتابُ أبِي حَفْصٍ والفارُوقِ والنّازِلِينَ والطَّيِّبِينَ وتُعُقِّبَ بِأنَّ الَّذِي ذُكِرَ في زِيادَةِ الواوِ لِلْإلْصاقِ خَصَّهُ صاحِبُ المُغْنِي بِما إذا كانَ النَّعْتُ جُمْلَةً ولَمْ نَرَ مَن ذَكَرَهُ في المُفْرَدِ.
وأجازَ الحُوفِيُّ أيْضًا كَوْنَ المَوْصُولِ مَعْطُوفًا عَلى ﴿آياتُ﴾ وجَعْلَ ﴿الحَقُّ﴾ نَعْتًا لَهُ وهو كَما تَرى ثُمَّ المَقْصُودُ عَلى تَقْدِيرِ أنْ يَكُونَ ﴿الحَقُّ﴾ خَبَرَ مُبْتَدَأٍ مَذْكُورٍ أوْ مَحْذُوفٍ قَصَرَ الحَقِّيَّةَ عَلى المُنَزَّلِ لِعَراقَتِهِ فِيها ولَيْسَ في ذَلِكَ ما يَدُلُّ عَلى أنَّ ما عَداهُ لَيْسَ بِحَقٍّ أصْلًا عَلى أنَّ حَقِّيَّتَهُ مُسْتَتْبَعَةٌ لِحَقِّيَّةِ سائِرِ الكُتُبِ السَّماوِيَّةِ لِكَوْنِهِ مُصَدِّقًا لِما بَيْنَ يَدَيْهِ ومُهَيْمِنًا عَلَيْهِ وساقَ بَعْضُ نُفاةِ القِياسِ هَذِهِ الآيَةَ بِناءً عَلى تَضَمُّنِها الحَصْرَ في مَعْرِضِ الِاسْتِدْلالِ عَلى نَفْيِ ذَلِكَ فَقالُوا: الحُكْمُ المُسْتَنْبَطُ بِالقِياسِ غَيْرُ مُنَزَّلٍ مِن عِنْدِ اللَّهِ تَعالى وإلّا لَكانَ مَن يَحْكُمُ بِهِ كافِرًا لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿ومَن لَمْ يَحْكم بِما أنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الكافِرُونَ﴾ وكُلُّ ما لَيْسَ مُنَزَّلًا مِن عِنْدِ اللَّهِ تَعالى بِحَقٍّ لِهَذِهِ الآيَةِ لِدَلالَتِها عَلى أنَّ لا حَقَّ إلّا ما أنْزَلَهُ اللَّهُ تَعالى والمُثْبِتُونَ لِذَلِكَ أبْطَلُوا ما ذَكَرُوهُ في المُقَدِّمَةِ الأُولى بِأنَّ المُرادَ بِعَدَمِ الحُكْمِ الإنْكارُ وعَدَمُ التَّصْدِيقِ أوِ المُرادُ مَن لَمْ يَحْكم بِشَيْءٍ أصْلًا مِمّا أنْزَلَهُ اللَّهُ تَعالى ولا شَكَّ أنَّهُ مِن شَأْنِ اِلْكَفَرَةِ أوِ المُرادُ بِما أنْزَلَهُ هُناكَ التَّوْراةُ بِقَرِينَةِ ما قَبْلَهُ ونَحْنُ غَيْرُ مُتَعَبِّدِينَ بِها فَيَخْتَصُّ بِاليَهُودِ ويَكُونُ المُرادُ الحُكْمُ بِكُفْرِهِمْ إذْ لَمْ يَحْكُمُوا بِكِتابِهِمْ ونَحْنُ نَقُولُ بِمُوجِبِهِ كَما بُيِّنَ في شَرْحِ المَواقِفِ وما ذَكَرُوهُ في المُقَدِّمَةِ الثّانِيَةِ بِأنَّ المُرادَ بِالمُنَزَّلِ مِنَ اللَّهِ تَعالى ما يَشْمَلُ الصَّرِيحَ وغَيْرَهُ فَيَدْخُلُ فِيهِ القِياسُ لا نُدْرِجُهُ في حُكْمِ المَقِيسِ عَلَيْهِ المُنَزَّلِ مِن عِنْدِهِ سُبْحانَهُ وقَدْ جاءَ في المُنَزَّلِ صَرِيحًا ﴿فاعْتَبِرُوا يا أُولِي الأبْصارِ﴾ وهو دالٌّ عَلى ما حُقِّقَ في مَحَلِّهِ عَلى حُسْنِ اتِّباعِ القِياسِ عَلى أنَّكَ قَدْ عَلِمْتَ المَقْصُودَ مِنَ الحَصْرِ.
ويُحْتَمَلُ أيْضًا عَلى ما قِيلَ أنْ يَكُونَ المُرادُ هو الحَقُّ لا غَيْرُهُ مِنَ الكُتُبِ الغَيْرِ المُنَزَّلَةِ أوِ المُنَزَّلَةِ إلى غَيْرِهِ بِناءً عَلى تَحْرِيفِها ونَسْخِها وقَدْ يُقالُ: إنَّ دَلِيلَهم مَنقُوضٌ بِالسُّنَّةِ والإجْماعِ والجَوابُ الجَوابُ ولا يَخْفى ما في التَّعْبِيرِ عَنِ القُرْآنِ بِالمَوْصُولِ وإسْنادِ الإنْزالِ إلَيْهِ بِصِيغَةِ ما لَمْ يُسَمَّ فاعِلُهُ والتَّعَرُّضِ لِوَصْفِ الرُّبُوبِيَّةِ مُضافًا إلى ضَمِيرِهِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ مِنَ الدَّلالَةِ عَلى فَخامَةِ المُنَزَّلِ وتَشْرِيفِ المُنَزَّلِ والإيماءِ إلى وجْهِ بِناءِ الخَبَرِ ما لا يَخْفى ﴿ولَكِنَّ أكْثَرَ النّاسِ﴾ قِيلَ هم كُفّارُ مَكَّةَ وقِيلَ: اليَهُودُ والنَّصارى والأوْلى أنْ يُرادَ أكْثَرُهم مُطْلَقًا ﴿لا يُؤْمِنُونَ﴾ . (1) . بِذَلِكَ الحَقِّ المُبِينِ لِإخْلالِهِمْ بِالنَّظَرِ والتَّأمُّلِ فِيهِ فَعَدَمُ إيمانِهِمْ كَما قالَ شَيْخُ الإسْلامِ مُتَعَلِّقٌ بِعُنْوانِ حَقِّيَّتِهِ لِأنَّهُ المَرْجِعُ لِلتَّصْدِيقِ والتَّكْذِيبِ لا بِعُنْوانِ كَوْنِهِ مُنَزَّلًا كَما قِيلَ ولِأنَّهُ وارِدٌ عَلى سَبِيلِ الوَصْفِ دُونَ
{"ayah":"الۤمۤرۚ تِلۡكَ ءَایَـٰتُ ٱلۡكِتَـٰبِۗ وَٱلَّذِیۤ أُنزِلَ إِلَیۡكَ مِن رَّبِّكَ ٱلۡحَقُّ وَلَـٰكِنَّ أَكۡثَرَ ٱلنَّاسِ لَا یُؤۡمِنُونَ"}