الباحث القرآني

(p-١٦٨)بِسْمِ اللهِ الرَحْمَنِ الرَحِيمِ تَفْسِيرُ سُورَةِ الرَعْدِ هَذِهِ السُورَةُ مَكِّيَّةٌ، قالَهُ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وقالَ قَتادَةُ: هي مَدَنِيَّةٌ غَيْرَ آيَتَيْنِ: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ [الرعد: ٣١]، قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَلَوْ أنَّ قُرْآنًا﴾ [الرعد: ٣١] الآيَةَ، حَكاهُ الزَهْراوِيُّ، وحَكى المَهْدَوِيُّ عن قَتادَةَ أنَّ السُورَةَ مَكِّيَّةٌ إلّا قَوْلَهُ تَعالى: ﴿وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهم بِما صَنَعُوا قارِعَةٌ أو تَحُلُّ قَرِيبًا مِن دارِهِمْ﴾ [الرعد: ٣١]، وقَوْلَهُ: ﴿وَمَن عِنْدَهُ عِلْمُ الكِتابِ﴾ [الرعد: ٤٣]، والظاهِرُ عِنْدِي أنَّ المَدَنِيَّ فِيها كَثِيرٌ، وكُلُّ ما نَزَلَ في شَأْنِ عامِرِ بْنِ الطُفَيْلِ، وأرْبَدَ بْنِ رَبِيعَةَ فَهو مَدَنِيٌّ، وقِيلَ: السُورَةُ مَدَنِيَّةٌ، حَكاهُ مُنْذِرُ بْنُ سَعِيدٍ البَلُّوطِيُّ، وذَكَرَهُ مَكِّيُّ بْنُ أبِي طالِبٍ. قوله عزّ وجلّ: ﴿المر تِلْكَ آياتُ الكِتابِ والَّذِي أُنْزِلَ إلَيْكَ مِن رَبِّكَ الحَقُّ ولَكِنَّ أكْثَرَ الناسِ لا يُؤْمِنُونَ﴾ ﴿اللهُ الَّذِي رَفَعَ السَماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها ثُمَّ اسْتَوى عَلى العَرْشِ وسَخَّرَ الشَمْسَ والقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الأمْرَ يُفَصِّلُ الآياتِ لَعَلَّكم بِلِقاءِ رَبِّكم تُوقِنُونَ﴾ تَقَدَّمَ القَوْلُ في فَواتِحِ السُوَرِ وذِكْرِ التَأْوِيلاتِ في ذَلِكَ، إلّا أنَّ الَّذِي يَخُصُّ هَذا المَوْضِعَ مِن ذَلِكَ هو ما قالَ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما: "إنَّ هَذِهِ الحُرُوفَ هي مِن قَوْلِهِ: أنا اللهُ أعْلَمُ وأرى"، ومَن قالَ: "إنَّ حُرُوفَ أوائِلَ السُوَرِ هي مِثالٌ لِحُرُوفِ المُعْجَمِ" قالَ: الإشارَةُ هُنا بِـ "تِلْكَ" هي إلى حُرُوفِ المُعْجَمِ، ويَصِحُّ -عَلى هَذا- أنْ يَكُونَ "الكِتابِ" يُرادُ بِهِ القُرْآنُ، ويَصِحُّ أنْ يُرادَ بِهِ التَوْراةُ والإنْجِيلُ. و"المر"-عَلى هَذا- ابْتِداءٌ، (p-١٦٩)وَ"تِلْكَ" ابْتِداءٌ ثانٍ، و"آياتُ" خَبَرُ الثانِي، والجُمْلَةُ خَبَرُ الأوَّلِ. وعَلى قَوْلِ ابْنِ عَبّاسٍ في "المر" تَكُونُ "تِلْكَ" ابْتِداءً، و"آياتُ" بَدَلٌ مِنهُ، ويَصِحُّ في "الكِتابِ" التَأْوِيلانِ اللَذانِ تَقَدَّما. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿والَّذِي أُنْزِلَ إلَيْكَ مِن رَبِّكَ الحَقُّ﴾. "الَّذِي" رُفِعَ بِالِابْتِداءِ، و"الحَقُّ" خَبَرُهُ، وعَلى هَذا تَأْوِيلُ مَن يَرى ﴿المر تِلْكَ﴾ حُرُوفَ المُعْجَمِ، و"تِلْكَ" و"آياتُ" ابْتِداءٌ وخَبَرٌ، وعَلى قَوْلِ ابْنِ عَبّاسٍ يَكُونُ "الَّذِي" عَطْفًا عَلى "تِلْكَ"، و"الحَقُّ" خَبَرُ "تِلْكَ"، وإذا أُرِيدَ بِـ "الكِتابِ" القُرْآنُ فالمُرادُ بِـ " الَّذِي أُنْزِلَ " جَمِيعُ الشَرِيعَةِ، ما تَضَمَّنَهُ القُرْآنُ مِنها وما لَمْ يَتَضَمَّنْهُ. ويَصِحُّ في "الَّذِي" أنْ يَكُونَ في مَوْضِعِ خَفْضٍ عَطْفًا عَلى "الكِتابِ"، فَإنْ أرَدْتَ -مَعَ ذَلِكَ- بِـ "الكِتابِ" القُرْآنَ كانَتِ الواوُ عَطْفَ صِفَةٍ لِشَيْءٍ واحِدٍ، كَما تَقُولُ: جاءَنِي الظَرِيفُ والعاقِلُ وأنْتَ تُرِيدُ شَخْصًا واحِدًا، ومِن ذَلِكَ قَوْلُ الشاعِرِ: ؎ إلى المَلِكِ القَرْمِ وابْنِ الهُمامِ ∗∗∗ ولَيْثِ الكَتِيبَةِ في المُزْدَحَمْ وإنْ أرَدْتَ -مَعَ ذَلِكَ- بِـ "الكِتابِ" التَوْراةَ والإنْجِيلَ، فَذَلِكَ بَيِّنٌ، فَإنْ تَأوَّلْتَ -مَعَ ذَلِكَ- "المر" حُرُوفَ المُعْجَمِ رَفَعْتَ قَوْلَهُ: "الحَقُّ" عَلى إضْمارِ مُبْتَدَأٍ تَقْدِيرُهُ: هو الحَقُّ، وإنْ تَأوَّلْتَها كَما قالَ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما فَـ "الحَقُّ" خَبَرُ "تِلْكَ". ومَن رَفَعَ "الحَقُّ" بِإضْمارِ ابْتِداءٍ وقَفَ عَلى قَوْلِهِ: ﴿مِن رَبِّكَ﴾ وباقِي الآيَةِ ظاهِرٌ بَيِّنٌ إنْ شاءَ اللهُ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿اللهُ الَّذِي رَفَعَ السَماواتِ﴾ الآيَةَ. لَمّا تَضَمَّنَ قَوْلُهُ: ﴿وَلَكِنَّ أكْثَرَ الناسِ لا يُؤْمِنُونَ﴾ تَوْبِيخَ الكَفَرَةِ عَقَّبَ ذَلِكَ بِذِكْرِ اللهِ تَبارَكَ وتَعالى الَّذِي يَنْبَغِي أنْ يُوقَنَ بِهِ، وبِذِكْرِ الأدِلَّةِ الداعِيَةِ إلى الإيمانِ بِهِ. والضَمِيرُ في قَوْلِهِ: "تَرَوْنَها" قالَتْ فِرْقَةٌ: هو عائِدٌ عَلى "السَماواتِ" فَـ "تَرَوْنَها" -عَلى هَذا- في مَوْضِعِ الحالِ، وقالَ جُمْهُورُ الناسِ: لا عَمَدَ لِلسَّماواتِ، وقالَتْ فِرْقَةٌ: الضَمِيرُ عائِدٌ عَلى "العَمَدِ"، فَـ "تَرَوْنَها" (p-١٧٠)عَلى هَذا- صِفَةٌ لِلْعَمَدِ، وقالَتْ هَذِهِ الفِرْقَةُ: لِلسَّماواتِ عَمَدَ غَيْرُ مَرْئِيَّةٍ، قالَهُ مُجاهِدٌ، وقَتادَةُ. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ: وما يُدْرِيكَ أنَّها بِعَمَدٍ لا تُرى، وحَكى بَعْضُهم أنَّ العَمَدَ جَبَلُ قافٍ المُحِيطُ بِالأرْضِ، والسَماءُ عَلَيْهِ كالقُبَّةِ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: وهَذا كُلُّهُ ضَعِيفٌ، والحَقُّ أنْ لا عَمَدَ جُمْلَةً، إذِ العَمَدُ يَحْتاجُ إلى عَمَدٍ، ويَتَسَلْسَلُ الأمْرُ فَلا بُدَّ مِن وُقُوفِهِ عَلى القُدْرَةِ، وهَذا هو الظاهِرُ مِن قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَيُمْسِكُ السَماءَ أنْ تَقَعَ عَلى الأرْضِ إلا بِإذْنِهِ﴾ [الحج: ٦٥]، ونَحْوِ هَذا مِنَ الآياتِ. وقالَ إياسُ بْنُ مُعاوِيَةَ: السَماءُ مُقَبَّبَةٌ عَلى الأرْضِ مِثْلَ القُبَّةِ. وفي مُصْحَفِ أُبَيٍّ "تَرَوْنَهُ" بِتَذْكِيرِ الضَمِيرِ. و"العَمَدُ" اسْمُ جَمْعِ عَمُودٍ، والبابُ في جَمْعِهِ "عُمُدٌ" بِضَمِّ الحُرُوفِ الثَلاثَةِ، كَرَسُولِ ورُسُلٍ وشِهابِ وشُهُبٍ، وغَيْرِهِ. ومِن هَذِهِ الكَلِمَةِ قَوْلُ النابِغَةِ: ؎ وخَبَّرَ الجِنِّ أنِّي قَدْ أذِنْتُ لَهم ∗∗∗ ∗∗∗ يَبْنُونَ تَدْمُرَ بِالصُفّاحِ والعُمُدِ وقالَ الطَبَرِيُّ: "العَمَدُ (بِفَتْحِ العَيْنِ) جَمْعُ عَمُودٍ، كَما جُمِعَ الأدِيمُ أدَمًا"، ولَيْسَ كَما قالَ. وفي كِتابِ سِيبَوَيْهِ أنَّ الأدَمَ اسْمُ جَمْعٍ، وكَذَلِكَ نَصَّ اللُغَوِيُّونَ عَلى العَمَدِ، ولَكِنَّ أبا عُبَيْدَةَ ذَكَرَ الأمْرَ غَيْرَ مُتَيَقِّنٍ فاتَّبَعَهُ الطَبَرِيُّ. وقَرَأ يَحْيى بْنُ وثّابٍ: "بِغَيْرِ عُمُدٍ" بِضَمِّ العَيْنِ. وقَوْلُهُ: "ثُمَّ" هي هُنا لِعَطْفِ الجُمَلِ لا لِلتَّرْتِيبِ، لِأنَّ الِاسْتِواءَ عَلى العَرْشِ قَبْلَ رَفْعِ السَماواتِ، فَفي الصَحِيحِ عَنِ النَبِيِّ ﷺ أنَّهُ قالَ: « "كانَ اللهُ ولَمْ يَكُنْ شَيْءٌ قَبْلُ، وكانَ عَرْشُهُ عَلى الماءِ، ثُمَّ خَلَقَ السَماواتِ والأرْضَ".» (p-١٧١)وَقَدْ تَقَدَّمَ القَوْلُ في كَلامِ الناسِ في الِاسْتِواءِ، واخْتِصارُهُ أنَّ أبا المَعالِي رَجَّحَ أنَّهُ اسْتَوى بِقَهْرِهِ وغَلَبَتِهِ، وقالَ القاضِي ابْنُ الطَيِّبِ وغَيْرُهُ: "اسْتَوى" في هَذا المَوْضِعِ بِمَعْنى: اسْتَوْلى، والِاسْتِيلاءُ قَدْ يَكُونُ دُونَ قَهْرٍ، فَهَذا فَرْقُ ما بَيْنَ القَوْلَيْنِ، وقالَ سُفْيانُ: فَعَلَ فِعْلًا سَمّاهُ اسْتِواءً، وقالَ الفَرّاءُ: رَسُولُ اللهِ "اسْتَوى" -فِي هَذا المَوْضِعِ- كَما تَقُولُ العَرَبُ: "فَعَلَ زَيْدٌ كَذا ثُمَّ اسْتَوى إلَيَّ يُكَلِّمُنِي"، بِمَعْنى أقْبَلَ وقَصَدَ، وحُكِيَ لِي عن أبِي الفَضْلِ بْنِ النَحْوِيِّ أنَّهُ قالَ: "العَرْشِ" -فِي هَذا المَوْضِعِ- مَصْدَرُ "عَرَشَ"، فَكَأنَّهُ أرادَ جَمِيعَ المَخْلُوقاتِ، وذَكَرَ أبُو مَنصُورٍ عَنِ الخَلِيلِ: أنَّ العَرْشَ: المُلْكُ، وهَذا يُؤَيِّدُ مَنزَعَ أبِي الفَضْلِ بْنِ النَحْوِيِّ إذْ قالَ: "العَرْشُ مَصْدَرٌ"، وهَذا خِلافَ ما مَشى عَلَيْهِ الناسُ مِن أنَّ "العَرْشَ" هو أعْظَمُ المَخْلُوقاتِ، وهو الشَخْصُ الَّذِي كانَ عَلى الماءِ، والَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ الكُرْسِيُّ، وأيْضًا فَيَنْبَغِي النَظَرُ عَلى أبِي الفَضْلِ في مَعْنى الِاسْتِواءِ قَرِيبًا مِمّا هو عَلى قَوْلِ الجَمِيعِ. وفي البُخارِيِّ عن مُجاهِدٍ أنَّهُ قالَ: "المَعْنى: عَلا عَلى العَرْشِ"، وكَذَلِكَ هي عِبارَةُ الطَبَرِيِّ، والنَظَرُ الصَحِيحُ يَدْفَعُ هَذِهِ العِبارَةَ. وقَوْلُهُ: "وَسَخَّرَ" تَنْبِيهٌ عَلى القُدْرَةِ، و﴿الشَمْسَ والقَمَرَ﴾ في ضِمْنِ ذِكْرِهِما ذِكْرُ الكَواكِبِ، ولِذَلِكَ قالَ: ﴿كُلٌّ يَجْرِي﴾، أيْ كُلُّ ما هو في مَعْنى الشَمْسِ والقَمَرِ مِنَ التَسْخِيرِ، و"كُلٌّ" لَفْظَةٌ تَقْتَضِي الإضافَةَ ظاهِرَةً أو مُقَدَّرَةً. والأجَلُ المُسَمّى هو انْقِضاءُ الدُنْيا وفَسادُ هَذِهِ البِنْيَةِ، وقِيلَ: يُرِيدُ بِقَوْلِهِ: " لِأجَلٍ مُسَمى" الحُدُودَ الَّتِي لا تَتَعَدّاها هَذِهِ المَخْلُوقاتُ، أيْ: تَجْرِي عَلى رُسُومٍ مَعْلُومَةٍ. (p-١٧٢)وَقَوْلُهُ: " يُدَبِّرُ" بِمَعْنى: يُبْرِمُ ويُنَفِّذُ، وعَبَّرَ بِالتَدْبِيرِ تَقْرِيبًا لِلْأفْهامِ، إذِ التَدْبِيرُ إنَّما هو النَظَرُ في أدْبارِ الأُمُورِ وعَواقِبِها، وذَلِكَ مِن صِفَةِ البَشَرِ، و"الأمْرَ" عامٌّ في جَمِيعِ الأُمُورِ وما يَنْقَضِي في كُلِّ أوانٍ في السَماواتِ والأرْضِ. وقالَ مُجاهِدٌ: " يُدَبِّرُ الأمْرَ " مَعْناهُ: يَقْضِيهِ وحْدَهُ. وقَرَأ الجُمْهُورُ: "يُفَصِّلُ" وقَرَأ الحَسَنُ بِنُونِ العَظَمَةِ، ورَواها الخَفّافُ وعَبْدُ الوَهّابِ عن أبِي عَمْرٍو، وهُبَيْرَةَ عن حَفْصٍ، قالَ المَهْدَوِيُّ: ولَمْ يَخْتَلِفا في "يُدَبِّرُ"، وقالَ أبُو عَمْرٍو الدانِيُّ: إنَّ الحَسَنَ قَرَأ بِالنُونِ فِيهِما، والنَظَرُ يَقْتَضِي أنَّ قَوْلَهُ: " يُفَصِّلُ الآيّات " لَيْسَ عَلى حَدِّ قَوْلِهِ: "يُدَبِّرُ" مِن تَعْدِيدِ الآياتِ، بَلْ لَمّا تَعَدَّدَتِ الآياتُ وفي جُمْلَتِها يُدَبِّرُ الأمْرَ أخْبَرَ أنَّهُ يُفَصِّلُها لَعَلَّ الكَفَرَةَ يُوقِنُونَ بِالبَعْثِ، و"الآياتِ" هُنا إشارَةٌ إلى ما ذَكَرَ في الآيَةِ وبَعْدَها.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب