الباحث القرآني

بيَّن اللُه أصلَ خِلْقةِ البشَرِ وأنها مِن الماء، وبيَّن أنهم كما تَساوَوْا في أصل خِلْقتِهم فهم متساوُون في فَرعِها وهو التكاثُرُ والتناسُل، ويتضَمَّنُ هذا أنّ الأصلَ في الخَلْقِ التساوي، ولهذا حرَّم اللهُ الكِبرَ ومقَتَ أهلَهُ، ومدَحَ التواضُعَ وأهلَه، وتفاوُتُ الناس وتبايُنُهم في الحقوق عارِضٌ لا أصلِيٌّ. وبهذه الآيةِ استدَلَّ البخاريُّ على مسألة التكافُؤِ وأنه يكون بالدِّين فقط، فقال في صحيحه: (باب الأَكْفاء في الدِّين، قال تعالى: ﴿وهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الماءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وصِهْرًا وكانَ رَبُّكَ قَدِيرًا﴾ [الفرقان: ٥٤])[[«صحيح البخاري» (٧/٧ ط طوق النجاة).]]، وقد ذكَرَ الفَرّاءُ أن النسَبَ: مَن لا يَحِلُّ نِكاحُه، والصِّهْرَ: مَن يَحِلُّ نكاحُه[[«معاني القرآن» للفراء (٢/٢٧٠).]]، وكأن البخاريَّ أخَذَ بعمومِ الآية إلا ما استَثْناهُ الدليل، وهو كفاءةُ الدِّين فقط، وهذا قولُ مالك. عنوان: الكَفاءةُ في النِّكاح: ولا يختلِفُ العلماءُ في أن نِكاحَ المسلِمِ بالمسلمة إذا توافرَتْ شروطُه وانتفَتْ موانعُه أنه نكاحٌ صحيح، سواءٌ اختلَفَ اللِّسانُ بينهما أو اللَّوْنُ أو الخَلْق والخُلُق أو البلَدُ أو النَّسَبُ أو الحَسَب، أو الحِرْفةُ والصَّنْعة، وأنّ تبايُنَ ذلك لا يَجعلُ مِن نكاحِهما بشروطِه زِنًى وفاحِشةً، وإنما خِلافُهم في اعتبار التكافُؤ في إمضاء النِّكاح لا في صِحَّتِه. عنوان: الحِكْمةُ من الكفاءةِ في النِّكاح: واشتراطُهم تكافُؤَ الجِنْسينِ لا يعني تمييزًا بينهما في الإيمان ومَقامِ الولاية، ولكنَّ المرادَ تحقيقُ مصالح النكاحِ باستقامة أمرِ الزوجَيْن وأرحامِهم وذُرِّيّاتِهم مِن بعدِهم، فإن صِلةَ الزوجَيْن بالنكاحِ أوسَعُ مِن الوطء واستقرارِ الزوجين وحْدَهُما، بل يتعدّى ذلك إلى صِلَتِهم بأرحامِهم وعاقِلَتِهم ومنافع ذُرِّيّاتِهم مِن بعدِهم، ولهذا تبايَنَ كلامُ الفقهاء في تحديد أوصافِ التكافُؤِ بين الزوجَيْن بحسَبِ اعتبارِهم لتلك المقاصد، وقد يَتولَّدُ عند بعضِ الفقهاء مِن أوصاف التكافؤِ ما ليس عند السابقِين لتأثير ذلك الوصفِ في جِيلٍ أو بلدٍ دُونَ غيرِه، فبعضُ البُلدانِ يشدِّدُ أهلُها في النَّسَبِ ويتساهَلُون في الصَّنْعةِ والحِرْفة فيكونُ محلُّ التكافؤِ النسبَ لا الصنعةَ والحِرفة، وقد تتبايَنُ الكفاءةُ بين زوجَيْن متقارِبَيْن نسبًا، كما روى النَّسائيُّ أنّ امرأةً جاءت إلى النبيِّ ﷺ وقالت له: إنّ أبي زوَّجَني ابنَ أخيه لِيَرْفَعَ بي خَسِيسَتَه؟ قال: فجعَلَ الأمرَ إليها[[أحمد (٦/١٣٦ رقم ٢٥٠٤٣)، والنسائي في الصغرى (٣٢٦٩).]] وجمهورُ الفقهاء على اعتبار التكافؤِ في النِّكاح بين الزوجَيْن، على اختلافٍ عندَهم في حدودِ التكافؤ، بحسبِ تأثير الوصفِ عندهم على اختلافِ بُلدانِهم وأزمانهم، ومِن هنا اختلَفُوا في اعتبار الكفاءة في النَّسَب: فذهَبَ مالكٌ إلى عدم اعتبارِه، ولأحمدَ روايتانِ في اعتبارِه وعدمِه. والذي عليه أتْباعُ أبي حنيفة والشافعيِّ وجماعةٍ من الأصحاب: أن التكافؤَ في النَّسَبِ حقٌّ للزوجَيْن، والأولياءُ إن رأَوْا إسقاطَهُ سقَطَ[[ينظر: «تبيين الحقائق» (٣/٢٦)، و«حاشية الدسوقي» (٢/٢٤٩)، و«المهذب» (٢/٣٩)، و«الفروع» لابن مفلح (٥/١٤٤)، و«معونة أولي النهى» لابن النجار (٩/٧٨).]] عنوان: تعلُّقُ كفاءةِ النِّكاح بالمصالح: والكفاءةُ تتعلَّقُ بالمصالح والمقاصِدِ الشرعية أكثَرَ مِن تعلُّقها بنَصٍّ، والأدلةُ الدالَّةُ على عدمِ اعتبارها أصرَحُ، والمقاصدُ المتعلِّقةُ بالكفاءة أقوى. ولا حَدَّ محصورٌ لمعنى الكفاءةِ، فقد تكونُ بالدِّين، فإنْ رأى القاضي تبايُنَ الدِّينِ بين الزوجَيْن تبايُنًا واضحًا يُضِرُّ بالصالح أكثَرَ مِنِ انتفاعِ الفاسدِ منهما فسَخَ بينهما، وقد قال أحمدُ بالتفريق بين رجُلٍ يَشرَبُ المُسكِرَ وزوجةٍ صالحة[[«الفروع» (٥/١٤٣).]] والقاضي يقدِّرُ بين مصلحةِ إمضاء النكاح ومصلحةِ فَسْخِه، وإن كان النكاحُ قائمًا قدَّرَ المصالحَ بين بقائِه وبين فَسخِه، وإن كان مفسوخًا لعدمِ التكافؤ قدَّرَ المصالحَ بين إعادتِه وبين بقائه، وذلك مِن جِهاتٍ ثلاثٍ: جهةِ الزوجينِ فيما بينهما. وجهةِ ذُرِّيّاتِهما مِن بعدهما. وجهةِ الأولياءِ والأرحام. وبعضُ الناس يَتوهَّمُون أن مصالحَ النكاحِ ومفاسدَهُ مقتصِرةٌ على استقرار الزوجَيْن ورِضاهُما وعدمِ النظر لأيِّ مصلحةٍ أو مفسدةٍ متعدِّيةٍ، وهذا غيرُ صحيح، ولا اعتبارَ به إلا عندَ بعضِ البيئات التي تَنفَكُّ فيها صِلاتُ الأرحام والبيوتِ في البيئات الغَرْبِيَّة ومَن تأثَّر بها، فإنّ مالكًا وإن لم يعتبِرِ النَّسَبَ في الكفاءة فيمضي النِّكاحُ بدُونِه، فإنه لا يجري على أصولِه إبقاءُ نكاحٍ يتبَعُه قطيعةُ رَحِمٍ وفتنةٌ بين قبيلتَيْن أو قريتَيْن ونحوِ ذلك. وإذا تحقَّقتْ مصالحُ النكاحِ باستقامة حياةِ الزوجينِ والأولياءِ والأولاد، صَحَّ مِن القاضي إمضاءُ النِّكاح ولو لم تتحَقَّقِ الكفاءةُ بينهما نَسَبًا ولا حسَبًا، وقد زوَّجَ النبيُّ ﷺ مَوْلاهُ زيدَ بنَ حارثة بابنةِ عَمَّتِه زينبَ بنتِ جَحْشٍ الأَسَدِية، وأمَرَ النبيُّ ﷺ فاطمةَ بنتَ قَيْسٍ أنْ تَتزوَّجَ أُسامةَ بنَ زيد[[«صحيح مسلم» (١٤٨٠/٣٦).]]، وقد قال النبيُّ ﷺ: (يا بَنِي بَياضَةَ، أنْكِحُوا أبا هِنْدٍ، وانْكِحُوا إلَيْهِ)[[أبو داود (٢١٠٢).]]. وكان أبو هِندٍ حَجّامًا. وقد أنكَرَ أحمدُ هذا الحديثَ[[«المغني» (٧/ ٣٤).]]
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب