الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَهو الَّذِي خَلَقَ مِنَ الماءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وصِهْرًا وكانَ رَبُّكَ قَدِيرًا﴾ . قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ في ”الكَشّافِ“، في تَفْسِيرِ هَذِهِ الآيَةِ الكَرِيمَةِ: فَقَسَّمَ البَشَرَ قِسْمَيْنِ، ذَوَيْ نَسَبٍ، أيْ: ذُكُورًا يُنْسَبُ إلَيْهِمْ، فَيُقالُ: فَلانُ بْنُ فُلانٍ وفُلانَةُ بِنْتُ فُلانٍ، وذَواتِ صِهْرٍ، أيْ: إناثًا يُطاهِرُ بِهِنَّ؛ كَقَوْلِهِ: ﴿فَجَعَلَ مِنهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ والأُنْثى﴾ [القيامة: ٣٩] ﴿وَكانَ رَبُّكَ قَدِيرًا﴾، حَيْثُ خَلَقَ مِنَ النُّطْفَةِ الواحِدَةِ بَشَرًا نَوْعَيْنِ ذَكَرًا وأُنْثى، انْتَهى مِنهُ. (p-٦٧)وَهَذا التَّفْسِيرُ الَّذِي فَسَّرَ بِهِ الآيَةَ، يَدُلُّ لَهُ ما اسْتُدِلَّ عَلَيْهِ بِهِ، وهو قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ألَمْ يَكُ نُطْفَةً مِن مَنِيٍّ يُمْنى﴾ ﴿ثُمَّ كانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوّى﴾ ﴿فَجَعَلَ مِنهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ والأُنْثى﴾ [القيامة: ٣٧ - ٣٩] وهو دَلِيلٌ عَلى أنَّ آيَةَ ”الفُرْقانِ“ هَذِهِ بَيَّنَتْها آيَةُ ”القِيامَةِ“ المَذْكُورَةُ، وفي هَذِهِ الآيَةِ الكَرِيمَةِ أقْوالٌ أُخَرُ غَيْرُ ما ذَكَرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ. مِنها ما ذَكَرَ ابْنُ كَثِيرٍ، قالَ: ﴿فَجَعَلَهُ نَسَبًا وصِهْرًا﴾، فَهو في ابْتِداءِ أمْرِهِ ولَدُ نَسِيبٍ ثُمَّ يَتَزَوَّجُ فَيَصْهِرُ صِهْرًا، وانْظُرْ بَقِيَّةَ الأقْوالِ في الآيَةِ في تَفْسِيرِ القُرْطُبِيِّ و ”الدَّرِّ المَنثُورِ“ لِلسُّيُوطِيِّ. * * * مَسْألَةٌ. اسْتَنْبَطَ بَعْضُ العُلَماءِ مِن هَذِهِ الآيَةِ الكَرِيمَةِ أنَّ بِنْتَ الرَّجُلِ مِنَ الزِّنى، لا يَحْرُمُ عَلَيْهِ نِكاحُها. قالَ ابْنُ العَرَبِيِّ المالِكِيُّ في هَذِهِ الآيَةِ: والنَّسَبُ عِبارَةٌ عَنْ خَلْطِ الماءِ بَيْنَ الذَّكَرِ والأُنْثى، عَلى وجْهِ الشَّرْعِ، فَإنْ كانَ بِمَعْصِيَةٍ كانَ خَلْقًا مُطْلَقًا، ولَمْ يَكُنْ نَسَبًا مُحَقَّقًا، ولِذَلِكَ لَمْ يَدْخُلْ تَحْتَ قَوْلِهِ: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكم أُمَّهاتُكم وبَناتُكُمْ﴾ [النساء: ٢٣] بِنْتُهُ مِنَ الزِّنى؛ لِأنَّها لَيْسَتْ بِبِنْتٍ لَهُ في أصَحِّ القَوْلَيْنِ لِعُلَمائِنا، وأصَحِّ القَوْلَيْنِ في الدِّينِ، وإذا لَمْ يَكُنْ نَسَبٌ شَرْعًا فَلا صِهْرَ شَرْعًا، فَلا يُحَرِّمُ الزِّنى بِنْتَ أُمٍّ، ولا أُمَّ بِنْتٍ، وما يُحَرَّمُ مِنَ الحَلالِ، لا يُحَرَّمُ مِنَ الحَرامِ؛ لِأنَّ اللَّهَ امْتَنَّ بِالنَّسَبِ والصِّهْرِ عَلى عِبادِهِ ورَفَعَ قَدْرَهُما، وعَلَّقَ الأحْكامَ في الحِلِّ والحُرْمَةِ عَلَيْهِما، فَلا يَلْحَقُ الباطِلُ بِهِما، ولا يُساوِيهِما، انْتَهى مِنهُ بِواسِطَةِ نَقْلِ القُرْطُبِيِّ عَنْهُ. وَقالَ القُرْطُبِيُّ: اخْتَلَفَ الفُقَهاءُ في نِكاحِ الرَّجُلِ ابْنَتَهُ مِن زِنًى، أوْ أُخْتَهُ، أوْ بِنْتَ ابْنِهِ مِن زِنًى فَحَرَّمَ ذَلِكَ قَوْمٌ، مِنهُمُ: ابْنُ القاسِمِ وهو قَوْلُ أبِي حَنِيفَةَ وأصْحابِهِ، وأجازَ ذَلِكَ آخَرُونَ، مِنهم: عَبْدُ المَلِكِ بْنُ الماجِشُونِ، وهو قَوْلُ الشّافِعِيِّ، وقَدْ مَضى هَذا في ”النِّساءِ“ مُجَوَّدًا، انْتَهى مِنهُ. قالَ مُقَيِّدُهُ عَفا اللَّهُ عَنْهُ وغَفَرَ لَهُ: الخِلافُ في هَذِهِ المَسْألَةِ مَشْهُورٌ مَعْرُوفٌ، وأرْجَحُ القَوْلَيْنِ دَلِيلًا فِيما يَظْهَرُ أنَّ الزِّنى لا يُحَرَّمُ بِهِ حَلالٌ، فَبِنْتُهُ مِنَ الزِّنى لَيْسَتْ بِنْتًا لَهُ شَرْعًا، وقَدْ أجْمَعَ أهْلُ العِلْمِ أنَّها لا تَدْخُلُ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿يُوصِيكُمُ اللَّهُ في أوْلادِكم لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ﴾ [النساء: ١١] فالإجْماعُ عَلى أنَّها لا تَرِثُ، ولا تَدْخُلُ في آياتِ (p-٦٨)المَوارِيثِ، دَلِيلٌ صَرِيحٌ عَلى أنَّها أجْنَبِيَّةٌ مِنهُ، ولَيْسَتْ بِنْتًا شَرْعًا، ولَكِنَّ الَّذِي يَظْهَرُ لَنا أنَّهُ لا يَنْبَغِي لَهُ أنْ يَتَزَوَّجَها بِحالٍ، وذَلِكَ لِأمْرَيْنِ: الأوَّلُ: أنَّ كَوْنَها مَخْلُوقَةً مِن مائِهِ، يَجْعَلُها شَبِيهَةً شَبَهًا صُورِيًّا بِابْنَتِهِ شَرْعًا، وهَذا الشَّبَهُ القَوِيُّ بَيْنَهُما يَنْبَغِي أنْ يَزَعَهُ عَنْ تَزْوِيجِها. الأمْرُ الثّانِي: أنَّهُ لا يَنْبَغِي لَهُ أنْ يَتَلَذَّذَ بِشَيْءٍ سَبَبُ وُجُودِهِ مَعْصِيَتُهُ لِخالِقِهِ جَلَّ وعَلا، فالنَّدَمُ عَلى فِعْلِ الذَّنْبِ الَّذِي هو رُكْنٌ مِن أرْكانِ التَّوْبَةِ، لا يُلائِمُ التَّلَذُّذَ بِما هو ناشِئٌ عَنْ نَفْسِ الذَّنْبِ، وما ذَكَرَهُ عَنِ الشّافِعِيِّ مِن أنَّهُ يَقُولُ: إنَّ البِنْتَ مِنَ الزِّنى لا تَحْرُمُ، هو مُرادُ الزَّمَخْشَرِيِّ بِقَوْلِهِ: ؎وَإنْ شافِعِيًّا قُلْتُ قالُوا بِأنَّنِي أُبِيحُ نِكاحَ البِنْتِ والبِنْتُ تَحْرُمُ * * * تَنْبِيهٌ. اعْلَمْ أنَّ ما ذَكَرَهُ صاحِبُ ”الدُّرِّ المَنثُورِ“ عَنْ قَتادَةَ مِمّا يَقْتَضِي أنَّهُ اسْتَنْبَطَ مِن قَوْلِهِ تَعالى في هَذِهِ الآيَةِ: ﴿فَجَعَلَهُ نَسَبًا وصِهْرًا﴾، أنَّ الصِّهْرَ كالنَّسَبِ في التَّحْرِيمِ، وأنْ كُلَّ واحِدٍ مِنهُما تَحْرُمُ بِهِ سَبْعُ نِساءٍ لَمْ يَظْهَرْ لِي وجْهُهُ، ومِمّا يَزِيدُهُ عَدَمَ ظُهُورٍ ضَعْفُ دَلالَةِ الِاقْتِرانِ عِنْدَ أهْلِ الأُصُولِ؛ كَما تَقَدَّمَ إيضاحُهُ مِرارًا، والعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعالى.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب