الباحث القرآني

﴿وهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الماءِ بَشَرًا﴾ هو الماءُ الَّذِي خَمَّرَ بِهِ طِينَةَ آدَمَ - عَلَيْهِ السَّلامُ - وجَعَلَهُ جُزْءًا مِن مادَّةِ البَشَرِ؛ لِتَجْتَمِعَ وتَسْلَسَ وتَسْتَعِدَّ لِقَبُولِ الأشْكالِ والهَيْئاتِ، فالمُرادُ بِالماءِ الماءُ المَعْرُوفُ، وتَعْرِيفُهُ لِلْجِنْسِ، والمُرادُ بِالبَشَرِ آدَمُ - عَلَيْهِ السَّلامُ - وتَنْوِينُهُ لِلتَّعْظِيمِ، أوْ جِنْسُ البَشَرِ الصّادِقِ عَلَيْهِ - عَلَيْهِ السَّلامُ - وعَلى ذُرِّيَّتِهِ، و(مِنَ) (p-36)ابْتِدائِيَّةٌ، ويَجُوزُ أنْ يُرادَ بِالماءِ النُّطْفَةُ، وحِينَئِذٍ يَتَعَيَّنُ حَمْلُ البَشَرِ عَلى أوْلادِ آدَمَ، عَلَيْهِ السَّلامُ. ﴿فَجَعَلَهُ نَسَبًا وصِهْرًا﴾ أيْ: قَسَمَهُ قِسْمَيْنِ ذَوِي نَسَبٍ، أيْ: ذُكُورًا يُنْسَبُ إلَيْهِمْ، وذَواتِ صِهْرٍ أيْ: إناثًا يُصاهَرُ بِهِنَّ، فَهو كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَجَعَلَ مِنهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ والأُنْثى﴾ فالواوُ لِلتَّقْسِيمِ، والكَلامُ عَلى تَقْدِيرِ مُضافٍ حُذِفَ لِيَدُلَّ عَلى المُبالَغَةِ ظاهِرًا، وعُدِلَ عَنْ ذِكْرِ وأُنْثى لِيُؤْذِنَ بِالِانْشِعابِ نَصًّا، وهَذا الجَعْلُ والتَّقْسِيمُ مِمّا لا خَفاءَ فِيهِ عَلى تَقْدِيرِ أنْ يُرادَ بِالبَشَرِ الجِنْسُ، وأمّا عَلى تَقْدِيرِ أنْ يُرادَ بِهِ آدَمُ - عَلَيْهِ السَّلامُ - فَقِيلَ: هو بِاعْتِبارِ الجِنْسِ، وفي الكَلامِ ما هو مِن قَبِيلِ الِاسْتِخْدامِ، نَظِيرُ ما في قَوْلِكَ: عِنْدِي دِرْهَمٌ ونِصْفُهُ، وقِيلَ: لا حاجَةَ إلى اعْتِبارِ ذَلِكَ، والكَلامُ مِن بابِ الحَذْفِ والإيصالِ، أيْ: جَعَلَ مِنهُ، وقَدْ جِيءَ بِهِ عَلى الأصْلِ في نَظِيرِ هَذِهِ الآيَةِ وهو ما سَمِعْتَهُ آنِفًا، وقِيلَ: المَعْنى: جَعَلَ آدَمَ نَسَبًا وصِهْرًا خَلَقَ حَوّاءَ مِنهُ، وإبْقاؤُهُ عَلى ما كانَ عَلَيْهِ مِنَ الذُّكُورَةِ. وتَعْقِيبُ جَعْلِ الجِنْسِ قِسْمَيْنِ خَلْقَ آدَمَ أوِ الجِنْسِ بِاعْتِبارِ خَلْقِهِ، أوْ جَعْلِ قِسْمَيْنِ مِن آدَمَ خَلْقَهُ - عَلَيْهِ السَّلامُ - كَما - تُؤْذِنُ بِهِ الفاءُ - ظاهِرٌ، ورُبَّما يُتَوَهَّمُ أنَّ الضَّمِيرَ المَنصُوبَ في (جَعَلَهُ) عائِدٌ عَلى الماءِ والفاءِ مِثْلُها في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿ونادى نُوحٌ رَبَّهُ فَقالَ رَبِّ﴾ إلَخْ، وقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وكَمْ مِن قَرْيَةٍ أهْلَكْناها فَجاءَها بَأْسُنا بَياتًا أوْ هم قائِلُونَ﴾ ولَيْسَ بِشَيْءٍ. وعَنْ عَلِيٍّ - كَرَّمَ اللَّهُ تَعالى وجْهَهُ - أنَّ النَّسَبَ ما لا يَحِلُّ نِكاحُهُ، والصِّهْرَ ما يَحِلُّ نِكاحُهُ، وفي رِوايَةٍ أُخْرى عَنْهُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ -: النَّسَبُ ما لا يَحِلُّ نِكاحُهُ والصِّهْرُ قَرابَةُ الرَّضاعِ، وتَفْسِيرُ الصِّهْرِ بِذَلِكَ مَرْوِيٌّ عَنِ الضَّحّاكِ أيْضًا. ﴿وكانَ رَبُّكَ قَدِيرًا﴾ مُبالِغًا في القُدْرَةِ، حَيْثُ قَدَرَ عَلى أنْ يَخْلُقَ مِن مادَّةٍ واحِدَةٍ بَشَرًا ذا أعْضاءٍ مُخْتَلِفَةٍ وطِباعٍ مُتَباعِدَةٍ، وجَعَلَهُ قِسْمَيْنِ مُتَقابِلَيْنِ وكانَ في مِثْلِ هَذا المَوْضِعِ لِلِاسْتِمْرارِ، وإذا قُلْنا بِأنَّ الجُمْلَةَ الِاسْمِيَّةَ نَفْسَها تُفِيدُ ذَلِكَ أيْضًا أفادَ الكَلامُ اسْتِمْرارًا عَلى اسْتِمْرارٍ، ورُبَّما أشْعَرَ ذَلِكَ بِأنَّ القُدْرَةَ البالِغَةَ مِن مُقْتَضَياتِ ذاتِهِ جَلَّ وعَلا، ومِنَ العَجَبِ ما زَعَمَهُ بَعْضُ مَن يَدَّعِي التَّفَرُّدَ بِالتَّحْقِيقِ مِمَّنْ صَحِبْناهُ مِن عُلَماءِ العَصْرِ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعالى عَلَيْهِ - أنَّ ( كانَ ) في مِثْلِهِ لِلِاسْتِمْرارِ فِيما لَمْ يَزَلْ، والجُمْلَةَ الِاسْمِيَّةَ لِلِاسْتِمْرارِ فِيما لا يَزالُ، فَيُفِيدُ جَمْعُهُما اسْتِمْرارَ ثُبُوتِ الخَبَرِ لِلْمُبْتَدَأِ أزَلًا وأبَدًا، ويُعْلَمُ مِنهُ مَبْلَغُ الرَّجُلِ في العِلْمِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب