الباحث القرآني
قال تعالى: ﴿إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا ويَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ والمَسْجِدِ الحَرامِ الَّذِي جَعَلْناهُ لِلنّاسِ سَواءً العاكِفُ فِيهِ والبادِ ومَن يُرِدْ فِيهِ بِإلْحادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِن عَذابٍ ألِيمٍ ﴾ [الحج: ٢٥].
في هذه الآيةِ: تعظيمُ المسجِدِ الحرامِ وتعظيمُ الصَّدِّ عنه، فقد جعَلَهُ اللهُ لكلِّ متعبِّدٍ موحِّدٍ، لا يجوزُ صَدُّ مَن يَقصِدُه، ولا أحدَ أحَقُّ به مِن أحدٍ، فهو لهم جميعًا، وذلك ظاهرُ قولِه تعالى: ﴿سَواءً العاكِفُ فِيهِ والبادِ﴾، فيَستوي فيه المقيمُ فيه، وهو ﴿العاكِفُ﴾، أو الغريبُ القادمُ إليه، وهو ﴿البادِ﴾، وبهذا فسَّرَهُ غيرُ واحدٍ مِن السلفِ، كابنِ عبّاسٍ ومجاهدٍ وقتادةَ[[«تفسير الطبري» (١٦ /٥٠٢).]]، وقد عَدَّ بعضُ العلماءِ هذه الآيةَ مدنيَّةً، لذِكْرِ الصَّدِّ فيها[[«تفسير ابن كثير» (٥ /٤٠٩).]].
حُكْمُ بيعِ رِباعِ مَكَّةَ ودُورِها:
لا يختلِفُ السلفُ على أنّ أماكنَ المَناسِكِ الخاصَّةَ لا يجوزُ بيعُها، كالمَطافِ والمَسْعى ومَرْمى الجِمارِ، وقد حكى الإجماعَ غيرُ واحدٍ، كابنِ عقيلٍ[[«المغني» لابن قدامة (٦ /٣٦٧).]] وابنِ تيميَّةَ مِن أصحابِنا، وكذلك: فإنّ مزارعَ مكَّةَ يجوزُ بيعُها، وبه قال الجماهيرُ، وقد حكى ابنُ تيميَّةَ الإجماعَ على ذلك[[«مجموع الفتاوى» (٢٩ /٢١١).]]، ولكنَّ الفقهاءَ اختلَفوا في دُورِ مكَّةَ ومَساكنِها ورِباعِها: هل يجوزُ بيعُها؟ على أقوالٍ ثلاثةٍ، هي ثلاثةُ أقوالٍ عن مالكٍ:
الأولُ: ذهَبَ الشافعيُّ: إلى جوازِ تملُّكِها وبيعِها، وذلك لِما ثبَتَ في «الصحيحَيْنِ»، عن أسامةَ بنِ زيدٍ، أنّه قال: قلتُ: يا رَسُولَ اللهِ، أتَنْزِلُ فِي دارِكَ بِمَكَّةَ؟ فَقالَ: (وهَلْ تَرَكَ لَنا عَقِيلٌ مِن رِباعٍ، أوْ دُورٍ؟)، «وكانَ عَقِيلٌ ورِثَ أبا طالِبٍ هُوَ وطالِبٌ، ولَمْ يَرِثْهُ جَعْفَرٌ ولا عَلِيٌّ شَيْئًا، لأَنَّهُما كانا مُسْلِمَيْنِ، وكانَ عَقِيلٌ وطالِبٌ كافِرَيْنِ» [[أخرجه البخاري (١٥٨٨)، ومسلم (١٣٥١).]].
وقد جاء عن بعضِ الصحابةِ أنّهم اشتَرَوْا مِن أرضِ مَكَّةَ، كما اشترى عمرُ بنُ الخطّابِ مِن صَفْوانَ بنِ أميَّةَ دارَهُ بمَكَّةَ، فجعَلَها سِجْنًا بأربعةِ آلافِ درهمٍ[[أخرجه البخاري معلقًا قبل حديث (٢٤٢٣)، والبيهقي في «السنن الكبرى» (٦ /٣٤).]].
ورُوِيَ عن عمرَ خلافُ ذلك، وفيه نظرٌ.
وقد قال بهذا القولِ طاوسٌ وعمرُو بنُ دينارٍ.
الثاني: مذهبُ جماعةٍ مِن السلفِ، كعطاءٍ ومجاهدٍ، وبه قال أبو حنيفةَ وإسحاقُ: أنّها لا تُباعُ، وعلى هذا مشهورُ مذهبِ الحنابلةِ، واستُدِلَّ لذلك بما رواهُ ابنُ ماجَهْ، مِن حديثِ علقمةَ بنِ نَضْلَةَ، قال: «تُوُفِّيَ رَسُولُ اللهِ ﷺ وأَبُو بَكْرٍ، وعُمَرُ، وما تُدْعى رِباعُ مَكَّةَ إلاَّ السَّوائِبَ، مَنِ احْتاجَ سَكَنَ، ومَنِ اسْتَغْنى أسْكَنَ»[[أخرجه ابن ماجه (٣١٠٧).]].
وهو مرسَلٌ ضعيفٌ.
وبما روى عبدُ اللهِ بنُ عمرٍو رضي الله عنهما، قال: قال رسولُ اللهِ ﷺ: (مَكَّةُ مُناخٌ، لا تُباعُ رِباعُها، ولا تُؤاجَرُ بُيُوتُها)، أخرَجَهُ الدارقطنيُّ[[أخرجه الدارقطني في «سننه» (٣ /٥٨).]]، وفيه جهالةٌ، وروى نحوَهُ عن عبدِ اللهِ بنِ عمرٍو، ولا يصحُّ رفعُهُ[[أخرجه الدارقطني في «سننه» (٣ /٥٧).]].
وأمّا ما رواهُ أحمدُ وأهلُ «السُّننِ»، مِن حديثِ عائشةَ، قالتْ: قُلْتُ: يا رَسُولَ اللهِ، ألا نَبْنِي لَكَ بِمِنًى بَيْتًا أوْ بِناءً يُظِلُّكَ مِنَ الشَّمْسِ؟ فَقالَ: (لا، إنَّما هُوَ مُناخُ مَن سَبَقَ إلَيْهِ) [[أخرجه أحمد (٦ /١٨٧)، وأبو داود (٢٠١٩)، والترمذي (٨٨١)، وابن ماجه (٣٠٠٦) و(٣٠٠٧).]]، فهو في أماكنِ المَناسِكِ، فمِنًى مِن مواضعِ النُّسُكِ كعَرَفةَ ومُزْدَلِفَةَ والمَسْعى ومَرْمى الجِمارِ: لا تُملَكُ، وإنّما كلامُ الفقهاءِ عامَّتُهُ في رِباعِ مكَّةَ، لا في مَناسِكِها.
الثالثُ: مذهبُ أحمدَ: أنّها تُملَكُ وتُوَرَّثُ وتُباعُ، لكنَّها لا تُؤجَّرُ، فمَن استغنى عنها أسكَنَها، وبهذا قال ابنُ تيميَّةَ.
وقال قومٌ بالكراهةِ، فأجازوا البيعَ على كراهةٍ فيه، وهذا مرويٌّ عن مالكٍ وغيرِه.
والأظهَرُ: جوازُ بيعِ دُورِ مكَّةَ ورِباعِها وإجارَتِها، وقد كان الصحابةُ ومَن بعدَهم يَبْنُونَ دُورًا ويَبيعونَها ويُؤْجِرونَها، ولو كان النهيُ صريحًا لجميعِ رِباعِ مَكَّةَ، لكان واردًا بنصٍّ قطعيٍّ يجري عليه عملُ الصحابةِ ولا يَختلِفونَ فيه، فقد كان بمكَّةَ جماعةٌ مِن الصحابةِ، ولم يثبُتْ عنهم القطعُ بذلك، ثمَّ إنّ البيعَ كالمِيراثِ، وثبَتَ أنّ أهلَ مكَّةَ يَتوارَثونَ، والإرثُ انتقالُ المِلْكِ مِن شخصٍ لشخصٍ، والبيعُ مِثلُهُ ولكنْ باختلافِ السببِ، وفي المنعِ مِن بيعِ دُورِ مكَّةَ ورِباعِها مِن الضِّيقِ والحرَجِ ما اللهُ به عليمٌ.
والناسُ يَتوارَثونَ ويَتبايَعونَ مَساكنَ مكَّةَ ودُورَها إلى اليومِ، وعملُهم الشائعُ في كلِّ القرونِ عليه.
وقد بيَّن اللهُ عَظَمَةَ الصَّدِّ عن المسجدِ الحرامِ في مواضعَ، منها قولُه تعالى: ﴿وما لَهُمْ ألاَّ يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ المَسْجِدِ الحَرامِ وما كانُوا أوْلِياءَهُ إنْ أوْلِياؤُهُ إلاَّ المُتَّقُونَ ولَكِنَّ أكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ ﴾ [الأنفال: ٣٤].
وتقدَّم الكلامُ على تعظيمِ المسجدِ الحرامِ، وحُرْمةِ الصدِّ عنه وقطعِ الطريقِ إليه، في مواضعَ، منها عندَ قولِهِ تعالى: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الحَرامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وكُفْرٌ بِهِ والمَسْجِدِ الحَرامِ وإخْراجُ أهْلِهِ مِنهُ أكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ﴾ [البقرة: ٢١٧].
وقولُه تعالى: ﴿ومَن يُرِدْ فِيهِ بِإلْحادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِن عَذابٍ ألِيمٍ ﴾ لِعَظَمةِ البيتِ جعَلَ اللهُ مَن هَمَّ بظُلْمٍ فيه مستحِقًّا للعقوبةِ ولو لم يَفعَلْ، وقد فسَّر بعضُ السلفِ ـ كابنِ عبّاسٍ ومجاهدٍ ـ الظُّلمَ في الآيةِ: بالشِّرْكِ[[«تفسير الطبري» (١٦ /٥٠٧).]].
وقد تقدَّمَ الكلامُ على أمانِ مكَّةَ وحُرْمتِها، وما وقَعَ فيها مِن شدائدَ وقتلٍ، وما يقَعُ فيها بعدَ ذلك، عندَ قولِهِ تعالى: ﴿وإذْ جَعَلْنا البَيْتَ مَثابَةً لِلنّاسِ وأَمْنًا﴾ [البقرة: ١٢٥].
{"ayah":"إِنَّ ٱلَّذِینَ كَفَرُوا۟ وَیَصُدُّونَ عَن سَبِیلِ ٱللَّهِ وَٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡحَرَامِ ٱلَّذِی جَعَلۡنَـٰهُ لِلنَّاسِ سَوَاۤءً ٱلۡعَـٰكِفُ فِیهِ وَٱلۡبَادِۚ وَمَن یُرِدۡ فِیهِ بِإِلۡحَادِۭ بِظُلۡمࣲ نُّذِقۡهُ مِنۡ عَذَابٍ أَلِیمࣲ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق