الباحث القرآني
قال تعالى: ﴿وإذْ أخَذْنا مِيثاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ ولا تُخْرِجُونَ أنْفُسَكُمْ مِن دِيارِكُمْ ثُمَّ أقْرَرْتُمْ وأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ ثُمَّ أنْتُمْ هَؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أنْفُسَكُمْ وتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنكُمْ مِن دِيارِهِمْ تَظاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالإثْمِ والعُدْوانِ وإنْ يَأْتُوكُمْ أُسارى تُفادُوهُمْ وهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إخْراجُهُمْ﴾ [البقرة: ٨٤ ـ ٨٥].
أخَذَ اللهُ عهدَهُ على بني إسرائيلَ ألاَّ يتظالَمُوا فيَبْغِيَ أحدُهم على الآخَرِ بالقتلِ أو الجراحاتِ، أو إخراجِهِ مِن دارِهِ بغيرِ حقٍّ.
الأخوَّةُ الإيمانيَّةُ:
وقولُهُ تعالى: ﴿ولا تُخْرِجُونَ أنْفُسَكُمْ﴾، يعني: لا تُخرِجُونَ إخوانَكم ممَّن استحَقُّوا منكم الأُخُوَّةَ، وهذا يدُلُّ على أنّ مَن لا يستحِقُّ الأخوَّةَ الإيمانيَّةَ، فليس بأخٍ، فإذا ارتكَبَ موجِبًا لقتلِهِ أو إخراجِهِ، قُتِلَ أو أُخرِجَ، فمَن يُصِيبُ حَدًّا أو خروجًا عن دينِه، فليس هو مِن أنفُسِكم.
روى ابنُ جريرٍ، مِن حديثِ سعيدٍ، عن قتادةَ، قولَهُ: ﴿وإذْ أخَذْنا مِيثاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ﴾، أيْ: لا يقتُلُ بعضُكم بعضًا، ﴿ولا تُخْرِجُونَ أنْفُسَكُمْ مِن دِيارِكُمْ﴾، ونَفْسُكَ يا ابنَ آدَمَ أهلُ مِلَّتِكَ[[«تفسير الطبري» (٢ /٢٠٢).]].
حِلْفُ اليهودِ الأوسَ والخزرجَ:
وقد كان اليهودُ في المدينةِ ولا قرارَ للنَّصارى فيها، وكان بينَ اليهودِ والأَوْسِ والخَزْرَجِ بالمدينةِ حِلْفٌ، فكان إذا وقَعَ بينَ الأوسِ أو الخزرجِ وبينَ اليهودِ قتالٌ، ساعَدَ كلُّ فريقٍ مِن اليهودِ حِلفَهُ مِن الأوسِ والخزرجِ على عدوِّهم فقاتَلُوهم معهم، وأخرَجُوهُمْ معهم مِن ديارِهم، وخرَّبُوا بيوتَهُمْ بعدَهم، بعدَ أنْ حُرِّمَ عليهم ذلك في التوراةِ، وأقَرُّوا به وشَهِدوا بذلك، فاللهُ يخاطِبُ يهودَ المدينةِ ويعاتِبُهم بتقصيرِهم وتفريطِهم في ميثاقِ اللهِ، مع أنّهم يَقْرَؤونه في تَوْراتِهم عندَ نزولِ القرآنِ.
روى الطبريُّ، عن أسْباطٍ، عن السُّدِّيِّ: ﴿وإذْ أخَذْنا مِيثاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ ولا تُخْرِجُونَ أنْفُسَكُمْ مِن دِيارِكُمْ ثُمَّ أقْرَرْتُمْ وأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ ﴾، قال: إنّ اللهَ أخَذَ على بَني إسرائيلَ في التوراةِ: ألا يقتُلَ بعضُهمْ بعضًا، وأيُّما عبدٍ أو أمَةٍ وجَدتُّمُوهُ مِن بَني إسرائيلَ، فاشتَرُوهُ بما قام ثَمَنَهُ، فأَعْتِقُوهُ، فكانتْ قُرَيْظةُ حلفاءَ الأوسِ، والنَّضِيرُ حلفاءَ الخزرجِ، فكانوا يَقْتَتِلُونَ في حربِ سُمَيْرٍ ـ وهي حربٌ في الجاهليةِ بينَ الأوسِ والخزرجِ ـ فيُقاتِلُ بنو قريظةَ مع حلفائِها النضيرَ وحلفاءَها، وكانتِ النضيرُ تُقاتِلُ قريظةَ وحلفاءَها، فيَغْلِبُونَهم، فيُخْرِبُونَ بيوتَهم، ويُخْرِجُونَهم منها، فإذا أُسِرَ الرجلُ مِن الفريقَيْنِ كلَيْهِما، جمَعُوا له حتى يَفْدُوهُ، فتُعَيِّرُهم العربُ بذلك، ويقولون: كيف تُقاتِلُونَهم وتَفْدُونَهم؟! قالوا: إنّا أُمِرْنا أنْ نَفْدِيَهم، وحُرِّمَ علينا قِتالُهم، قالوا: فلِمَ تُقاتِلُونَهم؟! قالوا: إنّا نستَحْيِي أنْ تُسْتَذَلَّ حلفاؤُنا، فذلك حينَ عَيَّرَهم عزّ وجل، فقال: ﴿ثُمَّ أنْتُمْ هَؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أنْفُسَكُمْ وتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنكُمْ مِن دِيارِهِمْ تَظاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالإثْمِ والعُدْوانِ﴾ [[«تفسير الطبري» (٢ /٢٠٨).]].
تأكيدُ المواثيق:
وفي الآيةِ دليلٌ على أنّه يُشرَعُ التأكيدُ على المواثيقِ العظيمةِ، بالإقرارِ والتعاهُدِ، فاللهُ تعالى أخَذَ عليهم الميثاقَ، ثمَّ سُئِلُوا الإقرارَ به بعدُ، فأقَرُّوا، أيْ: إنّ تعاهُدَ الميثاقِ العظيمِ بعدَ أخْذِهِ مطلبٌ، وذلك بحسَبِ قوةِ الميثاقِ وأثرِ إبطالِهِ على الناسِ.
وميثاقُ الأعراضِ أعظَمُ مِن ميثاقِ النَّفْسِ، لقولِ اللهِ تعالى: ﴿وأَخَذْنَ مِنكُمْ مِيثاقًا غَلِيظًا ﴾ [النساء: ٢١].
ثمَّ ذَكَرَ اللهُ مُخالفتَهُمْ للأمرِ في قولِه: ﴿ثُمَّ أنْتُمْ هَؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أنْفُسَكُمْ وتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنكُمْ مِن دِيارِهِمْ﴾، أيْ: بعدَ كلِّ ما أُخِذَ عليكم، وأقَرَّ به مَن سبَقَكم، وشَهِدتُّمُوهُ في كتابِكم.
وفي الآيةِ: دليلٌ على حُرمةِ قتلِ النفسِ، ويأتي تفصيلُه ـ بإذنِ اللهِ ـ في هذه السورةِ.
عقوبةُ النفي:
وفيها: تحريمُ إخراجِ الإنسانِ مِن ديارِهِ وأرضِهِ وتغريبِهِ بغيرِ حقٍّ، والإخراجُ مِن البلدِ عقوبةٌ شرعيَّةٌ يجبُ ألاَّ تَنْزِلَ إلا بسببٍ شرعيٍّ، قال تعالى: ﴿إنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ ورَسُولَهُ ويَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسادًا أنْ يُقَتَّلُوا أوْ يُصَلَّبُوا أوْ تُقَطَّعَ أيْدِيهِمْ وأَرْجُلُهُمْ مِن خِلافٍ أوْ يُنْفَوْا مِنَ الأَرْضِ﴾ [المائدة: ٣٣]، فجعَلَ اللهُ سببَ الإخراجِ مِن البلدِ: محاربةَ اللهِ ورسولِه، وإنزالُ العقوبةِ لمجرَّدِ مخالَفَةِ المحكومِ للحاكمِ في رأيِهِ ـ الذي لا يخرُجُ عن حدِّ النقلِ والعقلِ ـ غيرُ جائزٍ.
ولمّا جعَلَ اللهُ النفيَ عقوبةً، دلَّ هذا على أنّ بقاءَ الإنسانِ في بلدِهِ حقٌّ مشروعٌ له، يجبُ أنْ يُحفَظَ ويُصانَ، ومِن واجباتِ وليِّ الأمرِ حِفظُهُ، وليس نَزْعَهُ، وهذا كما أنّ قطعَ اليدِ في السرقةِ دليلٌ على أنّ بقاءَها بلا موجِبٍ للقطعِ واجبٌ يجبُ أنْ يُصانَ ويُحفَظَ.
وعقوبةُ الإخراجِ مِن الأرضِ والبلدِ عقوبةٌ شديدةٌ يُقِرُّ بقسوتِها جميعُ الشرائعِ، المؤمنةِ والكافرةِ، قال تعالى: ﴿وقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِن أرْضِنا أوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنِا فَأَوْحى إلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظّالِمِينَ ﴾ [إبراهيم: ١٣]، فسمّى اللهُ الإخراجَ مِن الأرضِ ظُلْمًا.
والإخراجُ مِن الأرضِ شُرِعَ لإبعادِ المنفيِّ مِن نشرِ فسادِه في بلدِه.
وينبغي للحاكمِ الذي يُرِيدُ إخراجَ أحدٍ مِن بلدِهِ: أنْ يَعرِفَ قدْرَ أثرِ الإخراجِ على صاحِبِه، فهو ظلمٌ شديدٌ، ولا ينبغي أنْ يَنْزِلَ إلا في حالِ العجزِ عن كفِّ الأذى والردعِ إلا به، ولا بُدَّ من معرفةِ قدرِ الفسادِ اللازمِ مِن إخراجِهِ عليه وعلى ذريَّتِهِ مِن بعدِه، ومقارنتِهِ بالسببِ الموجِبِ لإخراجِهِ، والحكمُ في ذلك لتقديرِ اللهِ في كتابِهِ وسُنَّةِ نبيِّه بنظرِ عالمٍ عارفٍ، لا بالهوى والتشهِّي.
{"ayahs_start":84,"ayahs":["وَإِذۡ أَخَذۡنَا مِیثَـٰقَكُمۡ لَا تَسۡفِكُونَ دِمَاۤءَكُمۡ وَلَا تُخۡرِجُونَ أَنفُسَكُم مِّن دِیَـٰرِكُمۡ ثُمَّ أَقۡرَرۡتُمۡ وَأَنتُمۡ تَشۡهَدُونَ","ثُمَّ أَنتُمۡ هَـٰۤؤُلَاۤءِ تَقۡتُلُونَ أَنفُسَكُمۡ وَتُخۡرِجُونَ فَرِیقࣰا مِّنكُم مِّن دِیَـٰرِهِمۡ تَظَـٰهَرُونَ عَلَیۡهِم بِٱلۡإِثۡمِ وَٱلۡعُدۡوَ ٰنِ وَإِن یَأۡتُوكُمۡ أُسَـٰرَىٰ تُفَـٰدُوهُمۡ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَیۡكُمۡ إِخۡرَاجُهُمۡۚ أَفَتُؤۡمِنُونَ بِبَعۡضِ ٱلۡكِتَـٰبِ وَتَكۡفُرُونَ بِبَعۡضࣲۚ فَمَا جَزَاۤءُ مَن یَفۡعَلُ ذَ ٰلِكَ مِنكُمۡ إِلَّا خِزۡیࣱ فِی ٱلۡحَیَوٰةِ ٱلدُّنۡیَاۖ وَیَوۡمَ ٱلۡقِیَـٰمَةِ یُرَدُّونَ إِلَىٰۤ أَشَدِّ ٱلۡعَذَابِۗ وَمَا ٱللَّهُ بِغَـٰفِلٍ عَمَّا تَعۡمَلُونَ"],"ayah":"ثُمَّ أَنتُمۡ هَـٰۤؤُلَاۤءِ تَقۡتُلُونَ أَنفُسَكُمۡ وَتُخۡرِجُونَ فَرِیقࣰا مِّنكُم مِّن دِیَـٰرِهِمۡ تَظَـٰهَرُونَ عَلَیۡهِم بِٱلۡإِثۡمِ وَٱلۡعُدۡوَ ٰنِ وَإِن یَأۡتُوكُمۡ أُسَـٰرَىٰ تُفَـٰدُوهُمۡ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَیۡكُمۡ إِخۡرَاجُهُمۡۚ أَفَتُؤۡمِنُونَ بِبَعۡضِ ٱلۡكِتَـٰبِ وَتَكۡفُرُونَ بِبَعۡضࣲۚ فَمَا جَزَاۤءُ مَن یَفۡعَلُ ذَ ٰلِكَ مِنكُمۡ إِلَّا خِزۡیࣱ فِی ٱلۡحَیَوٰةِ ٱلدُّنۡیَاۖ وَیَوۡمَ ٱلۡقِیَـٰمَةِ یُرَدُّونَ إِلَىٰۤ أَشَدِّ ٱلۡعَذَابِۗ وَمَا ٱللَّهُ بِغَـٰفِلٍ عَمَّا تَعۡمَلُونَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق