الباحث القرآني
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿هو اللَّهُ الَّذِي لا إلَهَ إلّا هو عالِمُ الغَيْبِ والشَّهادَةِ هو الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ﴾ ﴿هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إلَهَ إلّا هو المَلِكُ القُدُّوسُ السَّلامُ المُؤْمِنُ المُهَيْمِنُ العَزِيزُ الجَبّارُ المُتَكَبِّرُ سُبْحانَ اللَّهِ عَمّا يُشْرِكُونَ﴾ ﴿هُوَ اللَّهُ الخالِقُ البارِئُ المُصَوِّرُ لَهُ الأسْماءُ الحُسْنى يُسَبِّحُ لَهُ ما في السَّماواتِ والأرْضِ وهو العَزِيزُ الحَكِيمُ﴾ .
جاءَتْ في هَذِهِ الآياتِ الثَّلاثِ: ذِكْرُ كَلِمَةِ التَّوْحِيدِ مَرَّتَيْنِ، كَما ذُكِرَ فِيها أيْضًا تَسْبِيحُ اللَّهِ مَرَّتَيْنِ، وذُكِرَ مَعَهُما العَدِيدُ مِن أسْماءِ اللَّهِ الحُسْنى وصِفاتِهِ العُلْيا، فَكانَتْ بِذَلِكَ مُشْتَمِلَةً عَلى ثَلاثِ قَضايا أهَمِّ قَضايا الأدْيانِ كُلِّها مَعَ جَمِيعِ الأُمَمِ ورُسُلِهِمْ؛ لِأنَّ دَعْوَةَ الرُّسُلِ كُلَّها في تَوْحِيدِ اللَّهِ تَعالى في ذاتِهِ وأسْمائِهِ وصِفاتِهِ وتَنْزِيهِهِ، والرَّدِّ عَلى مُفْتَرَياتِ الأُمَمِ عَلى اللَّهِ تَعالى.
فاليَهُودُ قالُوا: ﴿عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ﴾ [ ٩ ] .
والنَّصارى قالُوا: ﴿المَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ﴾ [ ٩ ] .
والمُشْرِكُونَ قالُوا: ﴿اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ ولَدًا﴾ [الأنبياء: ٢٦]، ﴿وَجَعَلُوا المَلائِكَةَ الَّذِينَ هم عِبادُ الرَّحْمَنِ إناثًا﴾ [الزخرف: ١٩]، وقالُوا: ﴿أجَعَلَ الآلِهَةَ إلَهًا واحِدًا إنَّ هَذا لَشَيْءٌ عُجابٌ﴾ (p-٦٨)[ص: ٥] .
فَكُلُّهُمُ ادَّعى الشَّرِيكَ مَعَ اللَّهِ، وقالُوا: ﴿ثالِثُ ثَلاثَةٍ﴾ [المائدة: ٧٣] وغَيْرَ ذَلِكَ.
وَكَذَلِكَ في قَضِيَّةِ التَّنْزِيِهِ، فاليَهُودُ قالُوا: ﴿إنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ ونَحْنُ أغْنِياءُ﴾ [آل عمران: ١٨١]، وقالُوا: ﴿يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أيْدِيهِمْ﴾ [المائدة: ٦٤] .
والمُشْرِكُونَ قالُوا: ﴿وَما الرَّحْمَنُ أنَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا وزادَهم نُفُورًا﴾، ونَسَبُوا لِلَّهِ ما لا يَرْضاهُ أحَدُهم لِنَفْسِهِ، ﴿وَجَعَلُوا المَلائِكَةَ الَّذِينَ هم عِبادُ الرَّحْمَنِ إناثًا﴾، في الوَقْتِ الَّذِي ﴿وَإذا بُشِّرَ أحَدُهم بِالأُنْثى ظَلَّ وجْهُهُ مُسْوَدًّا وهو كَظِيمٌ﴾ [النحل: ٥٨] .
وَهَذا كَما تَراهُ أعْظَمُ افْتِراءٍ عَلى اللَّهِ تَعالى، وقَدْ سَجَّلَهُ عَلَيْهِمُ القُرْآنُ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ ولَدًا﴾ ﴿ما لَهم بِهِ مِن عِلْمٍ ولا لِآبائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِن أفْواهِهِمْ إنْ يَقُولُونَ إلّا كَذِبًا﴾ [الكهف: ٤] وكَما قالَ تَعالى: ﴿ألا إنَّهم مِن إفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ ولَدَ اللَّهُ وإنَّهم لَكاذِبُونَ﴾ [الصافات: ١٥١ - ١٥٢]، وقالَ مُبَيِّنًا جُرْمَ مَقالَتِهِمْ: ﴿وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ ولَدًا﴾ ﴿لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إدًّا﴾ ﴿تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنهُ وتَنْشَقُّ الأرْضُ وتَخِرُّ الجِبالُ هَدًّا﴾ ﴿أنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ ولَدًا﴾ ﴿وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أنْ يَتَّخِذَ ولَدًا﴾ [مريم: ٨٨ - ٩٢] .
فَكانَتْ تِلْكَ الآياتُ الثَّلاثُ عِلاجًا في الجُمْلَةِ لِتِلْكَ القَضايا الثَّلاثِ، تَوْحِيدِ الأُلُوهِيَّةِ، وتَوْحِيدِ الأسْماءِ والصِّفاتِ، وتَنْزِيهِ اللَّهِ سُبْحانَهُ وتَعالى مَعَ إقامَةِ الأدِلَّةِ عَلَيْها.
وَقَدِ اجْتَمَعَتْ مَعًا لِأنَّهُ لا يَتِمُّ أحَدُها إلّا بِالآخَرَيْنِ، لِيَتِمَّ الكَمالُ لِلَّهِ تَعالى.
قالَ أبُو السُّعُودِ: إنَّ الكَمالاتِ كُلَّها مَعَ كَثْرَتِها وتَشَعُّبِها راجِعَةٌ إلى الكَمالِ في القُدْرَةِ والعِلْمِ. ا هـ.
وَهَذا كُلُّهُ مُتَوَفِّرٌ في هَذا السِّياقِ، وقَدْ بَدَأ بِكَلِمَةِ التَّوْحِيدِ؛ لِأنَّها الأصْلُ، لِأنَّ مَن آمَنَ بِاللَّهِ وحْدَهُ آمَنَ بِكُلِّ ما جاءَ عَنِ اللَّهِ، و آمَنَ بِاللَّهِ عَلى ما هو لَهُ أهْلٌ، ونَزَّهَهُ عَمّا لَيْسَ لَهُ بِأهْلٍ قالَ تَعالى: ﴿هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إلَهَ إلّا هُوَ﴾ ثُمَّ أعْقَبَهُ بِالدَّلِيلِ عَلى إفْرادِهِ تَعالى بِالأُلُوهِيَّةِ بِما لا يُشارِكُهُ غَيْرُهُ فِيهِ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿عالِمُ الغَيْبِ والشَّهادَةِ﴾ .
وَهَذا الدَّلِيلُ نَصٌّ عَلَيْهِ عَلى أنَّهُ دَلِيلٌ لِوَحْدانِيَّةِ اللَّهِ تَعالى في مَواضِعَ أُخْرى مِنها قَوْلُهُ (p-٦٩)تَعالى: ﴿إنَّما إلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لا إلَهَ إلّا هو وسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا﴾ [طه: ٩٨] ووَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ هُنا تُساوِي عالِمَ الغَيْبِ والشَّهادَةِ، ومِنها قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ألّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الخَبْءَ في السَّماواتِ والأرْضِ ويَعْلَمُ ما تُخْفُونَ وما تُعْلِنُونَ﴾ ﴿اللَّهُ لا إلَهَ إلّا هو رَبُّ العَرْشِ العَظِيمِ﴾ [النمل: ٢٥]، وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿اللَّهُ لا إلَهَ إلّا هو الحَيُّ القَيُّومُ﴾ إلى قَوْلِهِ: ﴿يَعْلَمُ ما بَيْنَ أيْدِيهِمْ وما خَلْفَهم ولا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِن عِلْمِهِ إلّا بِما شاءَ﴾ [البقرة: ٢٥٥] .
وَهَذا قَطْعًا لا يُشارِكُهُ فِيهِ غَيْرُهُ، كَما قالَ تَعالى: ﴿وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الغَيْبِ لا يَعْلَمُها إلّا هُوَ﴾ [الأنعام: ٥٩] فَكانَ مِن حَقِّهِ عَلى خَلْقِهِ أنْ يَعْبُدُوهُ وحْدَهُ لا إلَهَ إلّا هو، وجاءَ بِدَلِيلٍ ثانٍ، وهو قَوْلُهُ تَعالى: ﴿هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ﴾ [الحشر: ٢٢] وقَدْ نَصَّ عَلَيْهِ صَراحَةً أيْضًا كَدَلِيلٍ عَلى الوَحْدانِيَّةِ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَإلَهُكم إلَهٌ واحِدٌ لا إلَهَ إلّا هو الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ﴾ [البقرة: ١٦٣] فَهو رَحْمانُ الدُّنْيا ورَحِيمُ الآخِرَةِ.
وَمِن رَحْمَتِهِ الَّتِي اخْتَصَّ بِها في الدُّنْيا قَوْلُهُ: ﴿وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الغَيْثَ مِن بَعْدِ ما قَنَطُوا ويَنْشُرُ رَحْمَتَهُ﴾ [الشورى: ٢٨]، وقَوْلُهُ: ﴿فانْظُرْ إلى آثارِ رَحْمَةِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِها﴾ [الروم: ٥٠] أيْ: بِإنْزالِهِ الغَيْثَ وإنْباتِ النَّباتِ مِمّا لا يَقْدِرُ عَلَيْهِ إلّا هو فَكانَ حَقُّهُ عَلى خَلْقِهِ أنْ يَعْبُدُوهُ وحْدَهُ لا إلَهَ إلّا هو.
وَقَدْ جَمَعَ الدَّلِيلَيْنِ العِلْمَ والرَّحْمَةَ مَعًا في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿رَبَّنا وسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وعِلْمًا﴾ [غافر: ٧] .
ثُمَّ جاءَتْ كَلِمَةُ التَّوْحِيدِ مَرَّةً أُخْرى: ﴿هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إلَهَ إلّا هُوَ﴾، وجاءَ بَعْدَها مِنَ الصِّفاتِ الجامِعَةِ قَوْلُهُ: ﴿المَلِكُ القُدُّوسُ السَّلامُ المُؤْمِنُ المُهَيْمِنُ العَزِيزُ الجَبّارُ المُتَكَبِّرُ﴾، وهَذا الدَّلِيلُ عَلى وحْدانِيَّتِهِ تَعالى نَصَّ عَلَيْهِ في مَوْضِعٍ آخَرَ صَرِيحًا في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿قُلْ ياأيُّها النّاسُ إنِّي رَسُولُ اللَّهِ إلَيْكم جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ والأرْضِ لا إلَهَ إلّا هو يُحْيِي ويُمِيتُ﴾ [الأعراف: ١٥٨] فالَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ والأرْضِ هو المَلِكُ الحَقُّ الكامِلُ المُلْكِ، وهو الَّذِي يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ في مُلْكِهِ كَما يَشاءُ بِالإحْياءِ والإماتَةِ وحْدَهُ، كَما قالَ تَعالى: ﴿تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ المُلْكُ وهو عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ ﴿الَّذِي خَلَقَ المَوْتَ والحَياةَ﴾ [الملك: ١ - ٢] وهو القُدُّوسُ السَّلامُ المُؤْمِنُ المُهَيْمِنُ عَلى مُلْكِهِ كَما في قَوْلِهِ أيْضًا: ﴿اللَّهُ لا إلَهَ إلّا هو الحَيُّ القَيُّومُ﴾ [البقرة: ٢٥٥] فالقَيُّومُ هو المُهَيْمِنُ والقائِمُ بِكُلِّ (p-٧٠)نَفْسٍ، العَزِيزُ الجَبّارُ المُتَكَبِّرُ سُبْحانَ اللَّهِ عَمّا يُشْرِكُونَ، ثُمَّ جاءَ بِالدَّلِيلِ الأعْظَمِ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿هُوَ اللَّهُ الخالِقُ البارِئُ المُصَوِّرُ﴾ فَهو وحْدَهُ المُتَفَرِّدُ بِالخَلْقِ والإيجادِ، والإبْداعِ والتَّصْوِيرِ، وقَدْ نَصَّ عَلى هَذا الدَّلِيلِ في أكْثَرَ مِن مَوْضِعٍ كَما في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿بَدِيعُ السَّماواتِ والأرْضِ أنّى يَكُونُ لَهُ ولَدٌ ولَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ وخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وهو بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ [الأنعام: ١٠١] ثُمَّ قالَ: ﴿ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكم لا إلَهَ إلّا هو خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فاعْبُدُوهُ وهو عَلى كُلِّ شَيْءٍ وكِيلٌ﴾ [الأنعام: ١٠٢] .
وَذَكَرَ أيْضًا الخَلْقَ مُفَصَّلًا والمُلْكَ مُجْمَلًا في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿خَلَقَكم مِن نَفْسٍ واحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنها زَوْجَها وأنْزَلَ لَكم مِنَ الأنْعامِ ثَمانِيَةَ أزْواجٍ يَخْلُقُكم في بُطُونِ أُمَّهاتِكم خَلْقًا مِن بَعْدِ خَلْقٍ في ظُلُماتٍ ثَلاثٍ﴾ [الزمر: ٦] ثُمَّ قالَ: ﴿ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكم لَهُ المُلْكُ لا إلَهَ إلّا هو فَأنّى تُصْرَفُونَ﴾ [الزمر: ٦]، وقالَ: ﴿ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكم خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ﴾ [غافر: ٦٢]، ثُمَّ قالَ: ﴿لا إلَهَ إلّا هو فَأنّى تُؤْفَكُونَ﴾ [فاطر: ٣] وجَمَعَ المُلْكَ والخَلْقَ مَعًا في قَوْلِهِ: ﴿الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ والأرْضِ ولَمْ يَتَّخِذْ ولَدًا ولَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ في المُلْكِ وخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا﴾ [الفرقان: ٢] إلى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الآياتِ في هَذا المَعْنى.
* * *
وَمَن تَأمَّلَ بَراهِينَ القُرْآنِ عَلى وحْدانِيَّةِ اللَّهِ تَعالى، وعَلى قُدْرَتِهِ، عَلى البَعْثِ وهُما أهَمُّ القَضايا العَقائِدِيَّةِ يَجِدُ أهَمَّها وأوْضَحَها وأكْثَرَها، هو هَذا الدَّلِيلَ، أعْنِي دَلِيلَ الخَلْقِ والتَّصْوِيرِ.
وَقَدْ جاءَ هَذا الدَّلِيلُ في القُرْآنِ جُمْلَةً وتَفْصِيلًا، فَمِنَ الإجْمالِ ما جاءَ في أصْلِ المَخْلُوقاتِ جَمِيعًا: ﴿اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ﴾ [الرعد: ١٦] وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ المُلْكُ وهو عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [الملك: ١]، وقالَ: ﴿إنَّما أمْرُهُ إذا أرادَ شَيْئًا أنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ [يس: ٨٢] ثُمَّ قالَ: ﴿فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ﴾ [يس: ٨٣]، وقالَ: ﴿تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ المُلْكُ وهو عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ ﴿الَّذِي خَلَقَ المَوْتَ والحَياةَ﴾ [الملك: ١ - ٢] أيْ: خالِقُ الإيجادِ والعَدَمِ، وخَلْقُ العَدَمِ يُساوِي في الدَّلالَةِ عَلى القُدْرَةِ خَلْقَ الإيجادِ؛ لِأنَّهُ إذا لَمْ يَقْدِرْ عَلى إعْدامِ ما أوْجَدَ يَكُونُ المَوْجُودُ مُسْتَعْصِيًا عَلَيْهِ، فَيَكُونُ عَجْزًا في المُوجِدِ لَهُ، كَمَن يُوجِدُ اليَوْمَ سِلاحًا ولا يَقْدِرُ عَلى إعْدامِهِ، وإبْطالِ مَفْعُولِهِ، فَقَدْ يَكُونُ سَبَبًا في إهْلاكِهِ، ولا تَكْتَمِلُ القُدْرَةُ حَقًّا إلّا بِالخَلْقِ والإعْدامِ مَعًا، وقالَ في خَلْقِ (p-٧١)السَّماواتِ والأرْضِ: ﴿الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ والأرْضَ وجَعَلَ الظُّلُماتِ والنُّورَ﴾ [الأنعام: ١] .
وَقالَ في خَلْقِ الأفْلاكِ وتَنْظِيمِها: ﴿وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ والنَّهارَ والشَّمْسَ والقَمَرَ﴾ [الأنبياء: ٣٣] .
ثُمَّ في أُصُولِ المَوْجُوداتِ في الأرْضِ بِقَوْلِهِ: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكم ما في الأرْضِ جَمِيعًا﴾ [البقرة: ٢٩] .
وَفِي أُصُولِ الأجْناسِ: الماءُ والنّارُ والنَّباتُ والإنْسانُ، قالَ: ﴿أفَرَأيْتُمْ ما تُمْنُونَ﴾ أأنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أمْ نَحْنُ الخالِقُونَ [الواقعة: ٥٨ - ٥٩] .
وَذَكَرَ مَعَهُ القُدْرَةَ عَلى الإعْدامِ: ﴿نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ المَوْتَ وما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ﴾ [الواقعة: ٦٠] .
وَفِي أُصُولِ النَّباتِ: ﴿أفَرَأيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ﴾ ﴿أأنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أمْ نَحْنُ الزّارِعُونَ﴾ [الواقعة: ٦٣، ٦٤] .
وَفِي أُصُولِ الماءِ: ﴿أفَرَأيْتُمُ الماءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ﴾ ﴿أأنْتُمْ أنْزَلْتُمُوهُ مِنَ المُزْنِ أمْ نَحْنُ المُنْزِلُونَ﴾ [الواقعة: ٦٨ - ٦٩] .
وَفِي أُصُولِ تَطْوِيرِ الحَياةِ: ﴿أفَرَأيْتُمُ النّارَ الَّتِي تُورُونَ﴾ ﴿أأنْتُمْ أنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها أمْ نَحْنُ المُنْشِئُونَ﴾ [الواقعة: ٧١ - ٧٢] .
وَفِي جانِبِ الحَيَوانِ ﴿أفَلا يَنْظُرُونَ إلى الإبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ﴾ الآيَةَ [الغاشية: ١٧] .
وَلِهَذا فَقَدْ تَمَدَّحَ تَعالى بِهَذِهِ الصِّفَةِ صِفَةِ الخَلْقِ وصِفَةِ آلِهَةِ المُشْرِكِينَ بِالعَجْزِ، كَما قالَ تَعالى: ﴿خَلَقَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها وألْقى في الأرْضِ رَواسِيَ أنْ تَمِيدَ بِكم وبَثَّ فِيها مِن كُلِّ دابَّةٍ وأنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأنْبَتْنا فِيها مِن كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ﴾ [لقمان: ١٠]، ثُمَّ قالَ: ﴿هَذا خَلْقُ اللَّهِ فَأرُونِي ماذا خَلَقَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ بَلِ الظّالِمُونَ في ضَلالٍ مُبِينٍ﴾ [لقمان: ١١] .
وَمَعْلُومٌ أنَّها لَمْ تَخْلُقْ شَيْئًا كَما قالَ تَعالى مُوَبِّخًا لَهم: ﴿أيُشْرِكُونَ ما لا يَخْلُقُ شَيْئًا وهم يُخْلَقُونَ﴾ [الأعراف: ١٩١]، وبَيَّنَ أنَّهُما لا يَسْتَوِيانِ في قَوْلِهِ: ﴿أفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لا يَخْلُقُ أفَلا تَذَكَّرُونَ﴾ [النحل: ١٧]، ثُمَّ بَيَّنَ نِهايَةَ ضَعْفِها وعَجْزِها في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿واتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وهم يُخْلَقُونَ ولا يَمْلِكُونَ لِأنْفُسِهِمْ ضَرًّا ولا نَفْعًا ولا يَمْلِكُونَ مَوْتًا ولا حَياةً ولا نُشُورًا﴾ [الفرقان: ٣] (p-٧٢)وَهَذا غايَةُ العَجْزِ، كَما ضَرَبَ لِذَلِكَ المَثَلَ بِقَوْلِهِ: ﴿إنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبابًا ولَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وإنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئًا لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنهُ ضَعُفَ الطّالِبُ والمَطْلُوبُ﴾ [الحج: ٧٣] فَهم حَقًّا لا يَمْلِكُونَ لِأنْفُسِهِمْ نَفْعًا، ولا ضَرًّا ولَوْ بِقَدْرِ الذُّبابَةِ وهَكَذا تَرى صِفَةَ الخَلْقِ المُتَّصِفِ بِها سُبْحانَهُ وتَعالى أعْظَمَ دَلِيلٍ عَلى وحْدانِيَّةِ اللَّهِ تَعالى، وهي مُتَضَمِّنَةٌ صِفَةَ التَّصْوِيرِ والعِلْمِ لِأنَّ لِكُلِّ مَخْلُوقٍ صُورَةً تَخُصُّهُ، ولا يَكُونُ ذَلِكَ إلّا عَنْ عِلْمٍ بِالغَيْبِ والشَّهادَةِ، كَما تَقَدَّمَ.
وَهَكَذا أيْضًا كانَ هَذا الدَّلِيلُ أقْوى الأدِلَّةِ عَلى البَعْثِ، كَما قالَ تَعالى: ﴿أوَلَمْ يَرَ الإنْسانُ أنّا خَلَقْناهُ مِن نُطْفَةٍ فَإذا هو خَصِيمٌ مُبِينٌ﴾ ﴿وَضَرَبَ لَنا مَثَلًا ونَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَن يُحْيِي العِظامَ وهي رَمِيمٌ﴾ ﴿قُلْ يُحْيِيها الَّذِي أنْشَأها أوَّلَ مَرَّةٍ وهو بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ﴾ [يس: ٧٧ - ٨٣] إلى آخِرِ السُّورَةِ.
وَكَذَلِكَ في قَوْلِهِ تَعالى صَرِيحًا في ذَلِكَ ونَصًّا عَلَيْهِ: ﴿ياأيُّها النّاسُ إنْ كُنْتُمْ في رَيْبٍ مِنَ البَعْثِ فَإنّا خَلَقْناكم مِن تُرابٍ ثُمَّ مِن نُطْفَةٍ ثُمَّ مِن عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكم ونُقِرُّ في الأرْحامِ ما نَشاءُ إلى أجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكم طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أشُدَّكم ومِنكم مَن يُتَوَفّى ومِنكم مَن يُرَدُّ إلى أرْذَلِ العُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وتَرى الأرْضَ هامِدَةً فَإذا أنْزَلْنا عَلَيْها الماءَ اهْتَزَّتْ ورَبَتْ وأنْبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ﴾ [الحج: ٥] ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿ذَلِكَ بِأنَّ اللَّهَ هو الحَقُّ وأنَّهُ يُحْيِي المَوْتى وأنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ ﴿وَأنَّ السّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وأنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَن في القُبُورِ﴾ [الحج: ٦ - ٧] .
ثُمَّ بَيَّنَ تَعالى أنَّ جاحِدَ هَذا الدَّلِيلِ إنَّما هو مُكابِرٌ جاهِلٌ، ضالٌّ مُضِلٌّ، وذَلِكَ في قَوْلِهِ بَعْدَهُ مُباشَرَةً: ﴿وَمِنَ النّاسِ مَن يُجادِلُ في اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ ولا هُدًى ولا كِتابٍ مُنِيرٍ﴾ ﴿ثانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ في الدُّنْيا خِزْيٌ ونُذِيقُهُ يَوْمَ القِيامَةِ عَذابَ الحَرِيقِ﴾ ﴿ذَلِكَ بِما قَدَّمَتْ يَداكَ وأنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلّامٍ لِلْعَبِيدِ﴾ [الحج: ٨ - ١٠] .
وَمِن هُنا كانَ أوَّلُ نِداءٍ في المُصْحَفِ يُوَجَّهُ إلى النّاسِ جَمِيعًا بِعِبادَةِ اللَّهِ كانَ لِاسْتِحْقاقِهِ عِبادَتَهُ وحْدَهُ، لِأنَّهُ مُتَّصِفٌ بِصِفَةِ الخَلْقِ كَما قالَ تَعالى: ﴿ياأيُّها النّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكم والَّذِينَ مِن قَبْلِكم لَعَلَّكم تَتَّقُونَ﴾ ﴿الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ فِراشًا والسَّماءَ بِناءً وأنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقًا لَكم فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أنْدادًا وأنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ (p-٧٣)[البقرة: ٢١ - ٢٢] أيْ: لِأنَّهم لَيْسُوا لَهُ بِأنْدادٍ فِيما اتَّصَفَ بِهِ سُبْحانَهُ فَلا تُشْرِكُوهم مَعَ اللَّهِ في عِبادَتِهِ.
فَكانَتْ هَذِهِ الصِّفاتُ لِلَّهِ تَعالى في آخِرِ هَذِهِ السُّورَةِ حَقًّا أدِلَّةً عَلى إثْباتِ وحْدانِيَّةِ اللَّهِ تَعالى في ذاتِهِ وأسْمائِهِ وصِفاتِهِ، وأنَّهُ المُسْتَحَقُّ لِأنْ يُعْبَدَ وحْدَهُ لا إلَهَ إلّا هو.
والواجِبُ عَلى الخَلْقِ تَنْزِيهُهُ عَمّا لا يَلِيقُ بِجَلالِهِ سُبْحانَهُ وتَعالى عَمّا يُشْرِكُونَ، يُسَبِّحُ لَهُ ما في السَّماواتِ والأرْضِ؛ لِأنَّها مِن مَخْلُوقاتِهِ وهو العَزِيزُ الحَكِيمُ، وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿لَهُ الأسْماءُ الحُسْنى﴾ [طه: ٨] لَمْ يُبَيِّنْ هُنا المُرادَ مِن أنَّهُ سُبْحانَهُ لَهُ الأسْماءُ الحُسْنى، وقَدْ بَيَّنَ في سُورَةِ الأعْرافِ المُرادَ بِذَلِكَ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَلِلَّهِ الأسْماءُ الحُسْنى فادْعُوهُ بِها﴾ [الأعراف: ١٨٠] .
قالَ القُرْطُبِيُّ: سَمّى اللَّهُ سُبْحانَهُ أسْماءَهُ بِالحُسْنى؛ لِأنَّها حَسَنَةٌ في الأسْماعِ والقُلُوبِ، فَإنَّها تَدُلُّ عَلى تَوْحِيدِهِ وكَرَمِهِ وجُودِهِ وإفْضالِهِ، ومَجِيءُ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿لَهُ الأسْماءُ الحُسْنى﴾ بَعْدَ تَعْدادِ أرْبَعَةَ عَشَرَ اسْمًا مِن أسْمائِهِ سُبْحانَهُ يَدُلُّ عَلى أنَّ لَهُ أكْثَرَ مِن ذَلِكَ، ولَمْ يَأْتِ حَصْرُها ولا عَدُّها في آيَةٍ مِن كِتابِ اللَّهِ.
وَقَدْ جاءَ في الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنَّهُ ﷺ قالَ: «إنَّ لِلَّهِ تِسْعَةً وتِسْعِينَ اسْمًا مِائَةً إلّا واحِدًا مَن أحْصاها دَخَلَ الجَنَّةَ وهو وتْرٌ يُحِبُّ الوَتْرَ» .
وَسَرَدَ ابْنُ كَثِيرٍ عَدَدَ المِائَةِ مَعَ اخْتِلافٍ في الرِّواياتِ.
وَذَكَرَ عَنْ آيَةِ ”الأعْرافِ“ أنَّها لَيْسَتْ مَحْصُورَةً في هَذا العَدَدِ لِحَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ في مُسْنَدِ أحْمَدَ أنَّهُ ﷺ قالَ: «ما أصابَ أحَدًا قَطُّ هَمٌّ ولا حَزَنٌ فَقالَ: اللَّهُمَّ إنِّي عَبْدُكَ، ابْنُ عَبْدِكَ، ابْنُ أمَتِكَ، ناصِيَتِي بِيَدِكَ، ماضٍ فِيَّ حُكْمُكَ، عَدْلٌ فِيَّ قَضاؤُكَ أسْألُكَ بِكُلِّ اسْمٍ هو لَكَ سَمَّيْتَ بِهِ نَفْسَكَ أوْ أنْزَلْتَهُ في كِتابِكَ أوْ عَلَّمْتَهُ أحَدًا مِن خَلْقِكَ أوِ اسْتَأْثَرْتَ بِهِ في عِلْمِ الغَيْبِ عِنْدَكَ أنْ تَجْعَلَ القُرْآنَ الكَرِيمَ رَبِيعَ قَلْبِي، ونُورَ صَدْرِي، وجَلاءَ حُزْنِي، وذَهابَ هَمِّي إلّا أذْهَبَ اللَّهُ حُزْنَهُ وهَمَّهُ» الحَدِيثَ ا هـ.
وَمَحَلُّ الشّاهِدِ مِنهُ ظاهِرٌ في أنَّ لِلَّهِ أسْماءً أنْزَلَها في كُتُبِهِ، وأسْماءً خَصَّ بِها بَعْضَ خَلْقِهِ كَما خَصَّ الخِضْرَ بِعِلْمٍ مِن لَدُنْهُ، وأسْماءً اسْتَأْثَرَ بِها في عِلْمِ الغَيْبِ عِنْدَهُ، كَما يَدُلُّ (p-٧٤)حَدِيثُ الشَّفاعَةِ: «فَيُلْهِمُنِي رَبِّي بِمَحامِدَ لَمْ أكُنْ أعْرِفُها مِن قَبْلُ»، والواقِعُ أنَّهُ لا تَعارُضَ بَيْنَ الحَدِيثَيْنِ.
لِأنَّ الأوَّلَ: يَتَعَلَّقُ بِعَدَدٍ مُعَيَّنٍ، وبِما يَتَرَتَّبُ عَلَيْها مِنَ الجَزاءِ.
والحَدِيثُ الثّانِي: يَتَعَلَّقُ بِبَيانِ أقْسامِ أسْمائِهِ تَعالى، مِن حَيْثُ العِلْمُ بِها وتَعْلِيمُها وما أُنْزِلُ مِنها.
وَقَدْ ذَكَرَ هَذا الجَمْعَ ابْنُ حَجَرٍ في الفَتْحِ في كِتابِ الدَّعَواتِ عِنْدَ بابِ: لِلَّهِ مِائَةُ اسْمٍ غَيْرَ واحِدٍ.
وَقَدْ حاوَلَ بَعْضُ العُلَماءِ اسْتِخْراجَ المِائَةِ اسْمٍ مِنَ القُرْآنِ فَزادُوا ونَقَصُوا؛ لِاعْتِباراتٍ مُخْتَلِفَةٍ، وقَدْ أطالَ في الفَتْحِ بَحْثَ هَذا المَوْضُوعِ في أرْبَعَ عَشْرَةَ صَحِيفَةً مِمّا لا غِنى عَنْهُ ولا يُمْكِنُ نَقْلُهُ، ولا يَصْلُحُ تَلْخِيصُهُ.
وَقَدْ ذَكَرَ مَن أفْرَدَها بِالتَّأْلِيفِ.
كَما أنَّ القُرْطُبِيَّ ذَكَرَ أنَّهُ ألَّفَ فِيها، وأساسُ البَحْثِ يَدُورُ عَلى نُقْطَتَيْنِ:
الأُولى: تَعْيِينُ المِائَةِ اسْمٍ المُرادَةِ.
والثّانِيَةُ: مَعْنى أحْصاها، وفي رِوايَةٍ حَفِظَها.
وَقَدْ حَضَرْتُ مَجْلِسًا لِلشَّيْخِ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعالى عَلَيْهِ - في بَيْتِهِ مَعَ الشَّيْخِ عَبْدِ العَزِيزِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بازٍ وسَألَهُ عَنِ الصَّحِيحِ في ذَلِكَ، فَكانَ حاصِلُ ما ذَكَرَ في ذَلِكَ المَجْلِسِ أنَّ التَّعْيِينَ لَمْ يَأْتِ فِيهِ نَصٌّ صَحِيحٌ، وأنَّ الإحْصاءَ أوِ الحِفْظَ لا يَنْبَغِي حَمْلُهُ عَلى مُجَرَّدِ الحِفْظِ لِلْألْفاظِ غَيْبًا، ولَكِنْ يُحْمَلُ عَلى أحْصى مَعانِيها وحَفِظَها مِنَ التَّحْرِيفِ فِيها والتَّبْدِيلِ والتَّعْطِيلِ، وحاوَلَ التَّخَلُّقَ بِحُسْنِ صِفاتِها كالحِلْمِ والعَفْوِ والرَّأْفَةِ والرَّحْمَةِ والكَرَمِ، ونَحْوِ ذَلِكَ، والحَذَرِ مِن مِثْلِ الجَبّارِ والقَهّارِ، ومُراقَبَةِ مِثْلِ: الحَسِيبِ الرَّقِيبِ، وكَذَلِكَ التَّعَرُّضُ لِمِثْلِ التَّوّابِ والغَفُورِ بِالتَّوْبَةِ وطَلَبِ المَغْفِرَةِ، والهادِي والرَّزّاقِ بِطَلَبِ الهِدايَةِ والرِّزْقِ ونَحْوِ ذَلِكَ.
وَنَقَلَ القُرْطُبِيُّ عَنِ ابْنِ العَرَبِيِّ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿فادْعُوهُ بِها﴾ [الأعراف: ١٨٠] أيْ: اطْلُبُوا مِنهُ بِأسْمائِهِ، فَيُطْلَبُ بِكُلِّ اسْمٍ ما يَلِيقُ بِهِ تَقُولُ: يا رَحْمانُ ارْحَمْنِي، يا رَزّاقُ (p-٧٥)ارْزُقْنِي، يا هادِي اهْدِنِي، يا تَوّابُ تُبْ عَلَيَّ، وهَكَذا رَتِّبْ دُعاءَكَ تَكُنْ مِنَ المُخْلِصِينَ ا هـ.
* * *
* مَسْألَةٌ
يُؤْخَذُ مِن كَلامِ ابْنِ العَرَبِيِّ هَذا ما يَقُولُهُ الفُقَهاءُ في ذِكْرِ اسْمِ اللَّهِ عِنْدَ الذَّبْحِ أنْ يَقْتَصِرَ عَلى قَوْلِهِ: بِسْمِ اللَّهِ، ولا يَقُولُ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ؛ لِأنَّ اسْمَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ يَقْتَضِي الرَّحْمَةَ، وهي لا يَتَناسَبُ مَعَها الذَّبْحُ ورَسُولُ الرُّوحِ.
وَيُؤَيِّدُ هَذا ما ذَكَرَهُ ابْنُ قُدامَةَ أنَّهُ ثَبَتَ عَنْهُ ﷺ أنَّهُ «كانَ إذا ذَبَحَ قالَ: ”بِسْمِ اللَّهِ، واللَّهُ أكْبَرُ“» أيْ: أكْبَرُ وأقْدَرَكَ عَلَيْها، وهو أكْبَرُ مِنكَ عَلَيْكَ مِنها.
فَإذا فَقِهَ الإنْسانُ أسْماءَ اللَّهِ الحُسْنى عَلى هَذا النَّحْوِ، كانَ حَقًّا قَدْ أحْصاها وحَفِظَها في اسْتِعْمالِها في مَعانِيها، فَكانَ حَقًّا مِن أهْلِ الجَنَّةِ، والعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعالى.
وَلَقَدِ اسْتَوْقَفَنِي طَوِيلًا مَجِيءُ هَذِهِ الآياتِ في نِهايَةِ هَذِهِ السُّورَةِ تَذْيِيلًا لَها وخِتامًا وبِأُسْلُوبِ الإجْمالِ والتَّفْصِيلِ لِقَضايا التَّوْحِيدِ، وإقامَةِ الدَّلِيلِ، وإلْزامِ أهْلِ الإلْحادِ والتَّعْطِيلِ، فَمَكَثْتُ طَوِيلًا أتَطَلَّبُ رَبْطَها بِما قَبْلَها، فَلَمْ أجِدْ في كُلِّ ما عَثَرْتُ عَلَيْهِ مِنَ التَّفْسِيرِ أكْثَرَ مِن شَرْحِ المُفْرَداتِ، وإيرادِ بَعْضِ التَّنْبِيهاتِ مِمّا لا يَنْفُذُ إلى أعْماقِ المَوْضُوعِ، ولا يَشْفِي عَلِيلًا في مُجْتَمَعاتِنا الحَدِيثَةِ، أوْ يُذْهِبُ شُبَهَ المَدَنِيَّةِ المادِّيَّةِ، فَرَجَعْتُ إلى السُّورَةِ بِكامِلِها أتَأمَّلُ مَوْضُوعَها فَإذا بِها تَبْدَأُ أوَّلًا بِتَسْبِيحِ العَوالِمِ كُلِّها لِلَّهِ العَزِيزِ الحَكِيمِ، وهَذا أمْرٌ فَوْقَ مُسْتَوى الإدْراكِ الإنْسانِيِّ، ثُمَّ تَسُوقُ أعْظَمَ حَدَثٍ تَشْهَدُهُ المَدِينَةُ بَعْدَ الهِجْرَةِ مِن إخْراجِ اليَهُودِ، ولَمْ يَكُنْ مَظْنُونًا إخْراجُهم، فَأتاهُمُ اللَّهُ مِن حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا فَكانُوا مَوْضِعَ العِبْرَةِ والمَوْعِظَةِ.
ثُمَّ تَأْتِي لِمَوْقِفِ فَرِيقَيْنِ مُتَقابِلَيْنِ فَرِيقِ المُؤْمِنِينَ، والكافِرِينَ.
يَتَمَثَّلُ الفَرِيقُ الأوَّلُ في المُهاجِرِينَ والأنْصارِ وما كانُوا عَلَيْهِ مِن أُخُوَّةٍ، ومَوَدَّةٍ، ورَحْمَةٍ، وعَطاءٍ، وإيثارٍ عَلى النَّفْسِ.
وَيَتَمَثَّلُ الفَرِيقُ الآخَرُ في المُنافِقِينَ، واليَهُودِ، وما كانَ بَيْنَهم مِن مُواعَدَةٍ، وإغْراءٍ، وتَحْرِيضٍ، ثُمَّ تَخَلٍّ عَنْهم وخِذْلانٍ لَهم.
(p-٧٦)فَكانَ في ذَلِكَ تَصْوِيرٌ لِحِزْبَيْنِ مُتَقابِلَيْنِ مُتَناقِضَيْنِ حِزْبُ الرَّحْمَنِ، وحِزْبُ الشَّيْطانِ، وهي صُورَةُ المُجْتَمَعِ في المَدِينَةِ آنَذاكَ.
ثُمَّ تَأْتِي إلى مُقارَنَةٍ أُخْرى بَيْنَ نَتائِجِ هَذَيْنِ الحِزْبَيْنِ ومُنْتَهاهُما وعَدَمِ اسْتِوائِهِما، وفي ذَلِكَ تَقْرِيرُ المَصِيرِ: ﴿لا يَسْتَوِي أصْحابُ النّارِ وأصْحابُ الجَنَّةِ أصْحابُ الجَنَّةِ هُمُ الفائِزُونَ﴾ [الحشر: ٢٠] .
وَهَذِهِ أخْطَرُ قَضِيَّةٍ في كُلِّ أُمَّةٍ أيْ: تَقْرِيرُ مَصِيرِها، ثُمَّ بَيانُ حَقِيقَةِ تَأْثِيرِ القُرْآنِ وفَعالِيَّتِهِ في المَخْلُوقاتِ، ولَوْ كانَتْ جَبَلًا أشَمَّ أوْ حَجَرًا أصَمَّ لَوْ أُنْزِلَ عَلَيْهِ لَرَأيْتُهُ خاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِن خَشْيَةِ اللَّهِ، فَإذا بِها قَدِ اشْتَمَلَتْ عَلى مَوْضُوعِ الخَلْقِ والخالِقِ، والأُمَّةِ والرِّسالَةِ، والبَدْءِ والنِّهايَةِ، وصِراعِ الحَقِّ مَعَ الباطِلِ، والكُفْرِ والإيمانِ، والنُّفُوسِ في الشُّحِّ والإحْسانِ، وكُلُّها مَواقِفُ عَمَلِيَّةٌ ومَناهِجُ واقِعِيَّةٌ وأمْثِلَةٌ بَيانِيَّةٌ.
﴿وَتِلْكَ الأمْثالُ نَضْرِبُها لِلنّاسِ لَعَلَّهم يَتَفَكَّرُونَ﴾ .
فَإذا ما تَوَجَّهَ الفِكْرُ في هَذا العَرْضِ، وتَنَقَّلَ مِن مَوْقِفٍ إلى مَوْقِفٍ، وتَأمَّلَ صُنْعَ اللَّهِ وقُدْرَتَهُ وآياتِهِ، نَطَقَ بِتَسْبِيحِهِ، وعَلِمَ أنَّهُ سُبْحانَهُ هو اللَّهُ الَّذِي لا إلَهَ إلّا هو عالِمُ الغَيْبِ والشَّهادَةِ، عَلِمَ ما سَيَكُونُ عَلَيْهِ العالَمُ قَبْلَ وُجُودِهِ، فَأوْجَدَهُ عَلى مُقْتَضى عِلْمِهِ بِهِ، وسَيَّرَهُ عَلى النَّحْوِ الَّذِي أوْجَدَهُ عَلَيْهِ، عَلِمَ خِذْلانَ المُنافِقِينَ لِلْيَهُودِ قَبْلَ أنْ يُحَرِّضُوهم، فَكانَ كَما عَلِمَ سُبْحانَهُ وحَذَّرَ مِن مُشابَهَتِهِمْ، وعَلِمَ أنَّهُ لَوْ أُنْزِلَ القُرْآنُ عَلى جَبَلٍ ماذا يَكُونُ حالُهُ، فَحَثَّ العِبادَ بِالأخْذِ بِهِ، ولِعِلْمِهِ هَذا بِالغَيْبِ والشَّهادَةِ، كانَ حَقًّا هو اللَّهُ وحْدَهُ.
ثُمَّ مَرَّةً أُخْرى: ﴿هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إلَهَ إلّا هو المَلِكُ القُدُّوسُ السَّلامُ المُؤْمِنُ المُهَيْمِنُ العَزِيزُ الجَبّارُ المُتَكَبِّرُ﴾، بُرْهانٌ آخَرُ في صُوَرٍ مُتَعَدِّدَةٍ، وبَراهِينَ مُتَنَوِّعَةٍ عَلى وحْدانِيَّتِهِ سُبْحانَهُ المَلِكُ القُدُّوسُ، المَلِكُ المُهَيْمِنُ عَلى مُلْكِهِ القُدُّوسُ، المُسَلَّمُ مِن كُلِّ نَقْصٍ، المُسَيْطِرُ عَلى ما في مُلْكِهِ كُلِّهِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ، كَما قالَ تَعالى: ﴿تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ المُلْكُ وهو عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [الملك: ١] .
وَهُنا وقْفَةٌ لِتَأمُّلِ اجْتِماعِ تِلْكَ الصِّفاتِ مَعًا عالِمِ الغَيْبِ والشَّهادَةِ، والمَلِكِ القُدُّوسِ والسَّلامِ المُهَيْمِنِ، فَنَجِدُهاِ مُتَرابِطَةً مُتَلازِمَةً؛ لِأنَّ العالِمَ إذا لَمْ يَمْلِكِ التَّصَرُّفَ ولَمْ يُهَيْمِن عَلى شَيْءٍ فَلا فَعالِيَّةَ لِعِلْمِهِ.
(p-٧٧)والمَلِكُ الَّذِي لا يَعْلَمُ ولَمْ يَتَقَدَّسْ عَنِ النَّقْصِ لا هَيْمَنَةَ لَهُ عَلى مُلْكِهِ، فَإذا اجْتَمَعَ كُلُّ ذَلِكَ وتِلْكَ الصِّفاتُ: العِلْمُ والمُلْكُ والتَّقْدِيسُ والهَيْمَنَةُ، حَصَلَ الكَمالُ والجَلالُ، ولا يَكُونُ ذَلِكَ إلّا لِلَّهِ وحْدَهُ العَزِيزِ الجَبّارِ المُتَكَبِّرِ، ولا يُشْرِكُهُ أحَدٌ في شَيْءٍ مِن ذَلِكَ سُبْحانَهُ وتَعالى عَمّا يُشْرِكُونَ ﴿هُوَ اللَّهُ الخالِقُ البارِئُ المُصَوِّرُ لَهُ الأسْماءُ الحُسْنى﴾، وهُنا، في نِهايَةِ هَذا السِّياقِ يَقِفُ المُؤْمِنُ وقْفَةَ إجْلالٍ وتَعْظِيمٍ لِلَّهِ فالخالِقُ هو المُقَدِّرُ قَبْلَ الإيجادِ.
وَ (البارِئُ) المُوجِدُ مِنَ العَدَمِ عَلى مُقْتَضى الخَلْقِ والتَّقْدِيرِ، ولَيْسَ كُلُّ مَن قَدَّرَ شَيْئًا أوْجَدَهُ إلّا اللَّهُ.
وَ (المُصَوِّرُ) المُشَكِّلُ لِكُلِّ مَوْجُودٍ عَلى الصُّورَةِ الَّتِي أوْجَدَهُ عَلَيْها، ولَمْ يُفْرِدْ كُلَّ فَرْدٍ مِن مَوْجُوداتِهِ عَلى صُورَةٍ تَخْتَصُّ بِهِ إلّا اللَّهُ سُبْحانَهُ وتَعالى، كَما هو مَوْجُودٌ في خَلْقِ اللَّهِ لِلْإنْسانِ والحَيَوانِ والنَّباتِ كُلٍّ في صُورَةٍ تَخُصُّهُ.
وَبِالرُّجُوعِ مَرَّةً أُخْرى إلى أوَّلِ السِّياقِ، فَإنَّ الخَلْقَ والتَّقْدِيرَ لابُدَّ أنْ يَكُونَ بِمُوجَبِ العِلْمِ سَواءٌ كانَ في الحاضِرِ المُشاهَدِ أوْ لِلْمُسْتَقْبَلِ الغائِبِ، وهَذا لا يَكُونُ إلّا لِلَّهِ وحْدَهُ عالِمِ الغَيْبِ والشَّهادَةِ، فَكانَ تَقْدِيرُهُ بِمُوجَبِ عِلْمِهِ والمَلِكُ القُدُّوسُ القادِرُ عَلى التَّصَرُّفِ في مُلْكِهِ يُوجِدُ ما يُقَدِّرُهُ.
وَ (المُهَيْمِنُ): يُسَيِّرُ ما يُوجِدُهُ عَلى مُقْتَضى ما يُقَدِّرُهُ.
والَّذِي قَدَّرَ فَهَدى، العَزِيزُ الَّذِي لا يُقْهَرُ الجَبّارُ الَّذِي يَقْهَرُ كُلَّ شَيْءٍ لِإرادَتِهِ، وتَقْدِيرِهِ، ويُخْضِعُهُ لِهَيْمَنَتِهِ.
(المُتَكَبِّرُ) الَّذِي لا يَتَطاوَلُ لِكِبْرِيائِهِ مَخْلُوقٌ، وأكْبَرُ مِن أنْ يُشارِكَهُ غَيْرُهُ في صِفاتِهِ، تَكَبَّرَ عَنْ أنْ يُماثِلَهُ غَيْرُهُ أوْ يُشارِكَهُ أحَدٌ فِيما اخْتَصَّ بِهِ سُبْحانَ اللَّهِ عَمّا يُشْرِكُونَ.
وَفِي نِهايَةِ السِّياقِ إقامَةُ البُرْهانِ المُلْزِمِ وانْتِزاعُ الِاعْتِرافِ والتَّسْلِيمِ: ﴿هُوَ اللَّهُ الخالِقُ البارِئُ المُصَوِّرُ﴾ وهو أعْظَمُ دَلِيلٍ كَما تَقَدَّمَ، وهو كَما قالَ: دَلِيلُ الإلْزامِ؛ لِأنَّ الخَلْقَ لابُدَّ لَهم مِن خالِقٍ، وهَذِهِ قَضِيَّةٌ مَنطِقِيَّةٌ مُسَلَّمَةٌ، وهي أنَّ كُلَّ مَوْجُودٍ لابُدَّ لَهُ مِن مُوجِدٍ، وقَدْ ألْزَمَهم في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿أمْ خُلِقُوا مِن غَيْرِ شَيْءٍ أمْ هُمُ الخالِقُونَ﴾ [الطور: ٣٥]، وهَذا بِالسَّيْرِ والتَّقْسِيمِ أنْ يُقالَ: إمّا خُلِقُوا مِن غَيْرِ شَيْءٍ خَلَقَهم أيْ: مِنَ العَدَمِ، ومَعْلُومٌ أنَّ (p-٧٨)العَدَمَ لا يَخْلُقُ شَيْئًا؛ لِأنَّ فاقِدَ الشَّيْءِ لا يُعْطِيهِ، والعَدَمُ لَيْسَ أمْرًا وُجُودِيًّا حَتّى يُمْكِنَ لَهُ أنْ يُوجِدَ مَوْجُودًا.
أمْ هُمُ الخالِقُونَ ؟
وَهم أيْضًا يَعْلَمُونَ مِن أنْفُسِهِمْ أنَّهم لَمْ يَخْلُقُوا أنْفُسَهم، فَيَبْقى المَخْلُوقُ لابُدَّ لَهُ مِن خالِقٍ، وهو اللَّهُ تَعالى: الخالِقُ البارِئُ.
وَلَوْ قِيلَ مِن جانِبِ المُنْكِرِ: إنَّ ما نُشاهِدُهُ مِن وُجُودِ المَوْجُودِ كالإنْسانِ والحَيَوانِ والنَّباتِ يَتَوَقَّفُ وُجُودُهُ عَلى أسْبابٍ نُشاهِدُها، كالأبَوَيْنِ لِلْحَيَوانِ، وكالحَرْثِ والسَّقْيِ لِلنَّباتِ. . . إلَخْ، فَجاءَ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿المُصَوِّرُ﴾، فَهَلِ الأبَوانِ يَمْلِكانِ تَصْوِيرَ الجَنِينِ مِن جِنْسِ الذُّكُورَةِ أوِ الأُنُوثَةِ، أوْ مِن جِنْسِ اللَّوْنِ، والطُّولِ والقِصَرِ والشَّبَهِ ؟
الجَوابُ: لا وكَلّا، بَلْ ذَلِكَ لِلَّهِ وحْدَهُ، هو الَّذِي يُصَوِّرُكم في الأرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ، كَما قالَ تَعالى: ﴿لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ والأرْضِ يَخْلُقُ ما يَشاءُ يَهَبُ لِمَن يَشاءُ إناثًا ويَهَبُ لِمَن يَشاءُ الذُّكُورَ﴾ ﴿أوْ يُزَوِّجُهم ذُكْرانًا وإناثًا ويَجْعَلُ مَن يَشاءُ عَقِيمًا إنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ﴾ [الشورى: ٤٩] .
وَكَذَلِكَ في النَّباتِ تُوضَعُ الحَبَّةُ وتُسْقى بِالماءِ، فالتُّرْبَةُ واحِدَةٌ، والماءُ واحِدٌ، فَمَنِ الَّذِي يُصَوِّرُ شَكْلَ النَّباتِ هَذا نَجْمٌ عَلى وجْهِ الأرْضِ، وذاكَ نَبْتٌ عَلى ساقٍ، وهَذا كَرْمٌ عَلى عَرْشٍ، وذاكَ نَخْلٌ باسِقاتٌ، فَإذا طَلَعَتِ الثَّمَرَةُ في أوَّلِ طَوْرِها فَمَنِ الَّذِي يُصَوِّرُها في شَكْلِها، مِنِ اسْتِدارَتِها أوِ اسْتِطالَتِها أوْ غَيْرِ ذَلِكَ ؟ وإذا تَطَوَّرَتْ إلى النُّضْجِ فَمَنِ الَّذِي صَوَّرَها في لَوْنِها الأحْمَرِ أوِ الأصْفَرِ أوِ الأسْوَدِ أوِ الأخْضَرِ أوِ الأبْيَضِ ؟ هَلْ هي التُّرْبَةُ أوِ الماءُ أوْ هُما مَعًا، لا وكَلّا. إنَّهُ هو اللَّهُ الخالِقُ البارِئُ المُصَوِّرُ، سُبْحانَهُ لَهُ الأسْماءُ الحُسْنى يُسَبِّحُ لَهُ ما في السَّماواتِ والأرْضِ طَوْعًا وكَرْهًا.
وَهُنا عَوْدٌ عَلى بَدْءٍ يَخْتِمُ السُّورَةَ بِما بَدَأتْ بِهِ مَعَ بَيانِ مُوجِباتِهِ واسْتِحْقاقِهِ، وآياتِ وحْدانِيَّتِهِ، سُبْحانَهُ لا إلَهَ إلّا هو العَزِيزُ الحَكِيمُ.
{"ayah":"هُوَ ٱللَّهُ ٱلَّذِی لَاۤ إِلَـٰهَ إِلَّا هُوَۖ عَـٰلِمُ ٱلۡغَیۡبِ وَٱلشَّهَـٰدَةِۖ هُوَ ٱلرَّحۡمَـٰنُ ٱلرَّحِیمُ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق