الباحث القرآني

القَوْلُ في تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعالى: [٢٢ - ٢٤] ﴿هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إلَهَ إلا هو عالِمُ الغَيْبِ والشَّهادَةِ هو الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ﴾ ﴿هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إلَهَ إلا هو المَلِكُ القُدُّوسُ السَّلامُ المُؤْمِنُ المُهَيْمِنُ العَزِيزُ الجَبّارُ المُتَكَبِّرُ سُبْحانَ اللَّهِ عَمّا يُشْرِكُونَ﴾ [الحشر: ٢٣] ﴿هُوَ اللَّهُ الخالِقُ البارِئُ المُصَوِّرُ لَهُ الأسْماءُ الحُسْنى يُسَبِّحُ لَهُ ما في السَّماواتِ والأرْضِ وهو العَزِيزُ الحَكِيمُ﴾ [الحشر: ٢٤] ﴿هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إلَهَ إلا هُوَ﴾ أيِ: المَعْبُودُ الَّذِي لا تَنْبَغِي العِبادَةُ والأُلُوهِيَّةُ إلّا لَهُ ﴿عالِمُ الغَيْبِ والشَّهادَةِ﴾ أيْ: ما غابَ عَنِ الحِسِّ وشُوهِدَ ﴿هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ﴾ أيِ: المُنْعِمُ بِالنِّعَمِ العامَّةِ والخاصَّةِ. ومَن كانَ مُطَّلِعًا عَلى الأسْرارِ يُحِبُّ أنْ يَخْشَعَ لَهُ ويَخْشى مِنهُ، لاسِيَّما مِن حَيْثُ كَوْنُهُ مُنْعِمًا؛ إذْ حَقُّ المُنْعِمِ أنْ يُخْشَعَ لَهُ، ويُخْشى أنْ تُسْلَبَ نِعَمُهُ. ﴿هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إلَهَ إلا هو المَلِكُ﴾ [الحشر: ٢٣] أيِ: الغَنِيُّ المُطْلَقُ، الَّذِي يَحْتاجُ إلَيْهِ كُلُّ شَيْءٍ، المُدَبِّرُ لِلْكُلِّ في تَرْتِيبِ نِظامٍ لا أكْمَلَ مِنهُ ﴿القُدُّوسُ﴾ [الحشر: ٢٣] أيِ: المُنَزَّهُ عَمّا لا يَلِيقُ بِجَلالِهِ، تَنَزُّهًا بَلِيغًا ﴿السَّلامُ﴾ [الحشر: ٢٣] أيِ: الَّذِي يَسْلَمُ خَلْقُهُ مِن ظُلْمِهِ أوِ المُبَرَّأُ عَنِ النَّقائِصِ كالعَجْزِ ﴿المُؤْمِنُ﴾ [الحشر: ٢٣] أيْ: لِأهْلِ اليَقِينِ بِإنْزالِ السَّكِينَةِ، ومِن فَزَعِ الآخِرَةِ ﴿المُهَيْمِنُ﴾ [الحشر: ٢٣] أيِ: الرَّقِيبُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ بِاطِّلاعِهِ واسْتِيلائِهِ وحِفْظِهِ ﴿العَزِيزُ﴾ [الحشر: ٢٣] أيِ: القَوِيُّ الَّذِي يَغْلِبُ ولا يُغْلَبُ ﴿الجَبّارُ﴾ [الحشر: ٢٣] أيِ: الَّذِي تَنْفُذُ مَشِيئَتُهُ عَلى سَبِيلِ الإجْبارِ في كُلِّ أحَدٍ، ولا تَنْفُذُ فِيهِ مَشِيئَةُ أحَدٍ، والَّذِي لا يَخْرُجُ أحَدٌ عَنْ قَبْضَتِهِ، قالَهُ الغَزالِيُّ في "المَقْصِدِ الأسْنى". وقالَ الإمامُ ابْنُ القَيِّمِ في "الكافِيَةِ الشّافِيَةِ": ؎وكَذَلِكَ الجَبّارُ مِن أوْصافِهِ والجَبْرُ في أوْصافِهِ قِسْمانِ(p-٥٧٥٤) ؎جَبْرُ الضَّعِيفِ وكُلِّ قَلْبٍ قَدْ غَدا ∗∗∗ ذا كَسْرَةٍ فالجَبْرُ مِنهُ دانِي ؎والثّانِ جَبْرُ القَهْرِ بِالعِزِّ الَّذِي ∗∗∗ لا يَنْبَغِي لِسِواهُ مِن إنْسانِ ؎ولَهُ مُسَمًّى ثالِثٌ وهو العُلُ ∗∗∗ وُّ فَلَيْسَ يَدْنُو مِنهُ مِن إنْسانِ ؎مِن قَوْلِهِمْ جَبّارَةٌ لِلنَّخْلَةِ ال ∗∗∗ عُلْيا الَّتِي فاتَتْ بِكُلِّ بَنانِ ﴿المُتَكَبِّرُ﴾ [الحشر: ٢٣] أيِ: الَّذِي يَرى الكُلَّ حَقِيرًا بِالإضافَةِ إلى ذاتِهِ، ولا يَرى العَظَمَةَ والكِبْرِياءَ إلّا لِنَفْسِهِ، فَيَنْظُرُ إلى غَيْرِهِ نَظَرَ المُلُوكِ إلى العَبِيدِ ﴿سُبْحانَ اللَّهِ عَمّا يُشْرِكُونَ﴾ [الحشر: ٢٣] أيْ: مِنَ الأوْثانِ والشُّفَعاءِ. ﴿هُوَ اللَّهُ الخالِقُ﴾ [الحشر: ٢٤] أيِ: المُقَدِّرُ لِلْأشْياءِ عَلى مُقْتَضى حِكْمَتِهِ ﴿البارِئُ﴾ [الحشر: ٢٤] أيِ: المُوجِدُ لَها بَعْدَ العَدَمِ ﴿المُصَوِّرُ﴾ [الحشر: ٢٤] أيِ: الكائِناتِ كَما شاءَ. ﴿لَهُ الأسْماءُ الحُسْنى﴾ [الحشر: ٢٤] أيِ: الدّالَّةُ عَلى مَحاسِنِ المَعانِي، وأحاسِنِ المَمادِحِ. ﴿يُسَبِّحُ لَهُ ما في السَّماواتِ والأرْضِ وهو العَزِيزُ الحَكِيمُ﴾ [الحشر: ٢٤] أيْ: في تَدْبِيرِهِ خَلْقَهُ. وصَرْفِهِمْ فِيما فِيهِ صَلاحُهم وسَعادَتُهم. تَنْبِيهاتٌ: الأوَّلُ: قالَ السَّيِّدُ ابْنُ المُرْتَضى في "إيثارِ الحَقِّ": مَقامُ مَعْرِفَةِ كَمالِ الرَّبِّ الكَرِيمِ، وما يَجِبُ لَهُ مِن نُعُوتِهِ وأسْمائِهِ الحُسْنى، مِن تَمامِ التَّوْحِيدِ الَّذِي لا بُدَّ مِنهُ؛ لِأنَّ كَمالَ الذّاتِ بِأسْمائِهِ الحُسْنى، ونُعُوتِها الشَّرِيفَةِ، ولا كَمالَ لِذاتٍ لا نَعْتَ لَها ولا اسْمَ، ولِذَلِكَ عُدَّ مَذْهَبُ المَلاحِدَةِ في مَدْحِ الرَّبِّ بِنَفْيِها، مِن أعْظَمِ مَكايِدِهِمْ لِلْإسْلامِ، فَإنَّهم عَكَسُوا المَعْلُومَ عَقْلًا وسَمْعًا فَذَمُّوا الأمْرَ المَحْمُودَ، ومَدَحُوا الأمْرَ المَذْمُومَ، القائِمَ مَقامَ النَّفْيِ، والجَحْدِ المَحْضِ، وضادُّوا كِتابَ اللَّهِ ونُصُوصَهُ السّاطِعَةَ، قالَ اللَّهُ جَلَّ جَلالُهُ: ﴿ولِلَّهِ الأسْماءُ الحُسْنى فادْعُوهُ بِها وذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ في أسْمائِهِ﴾ [الأعراف: ١٨٠] وقالَ سُبْحانَهُ وتَعالى: ﴿قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الأسْماءُ الحُسْنى﴾ [الإسراء: ١١٠] فَما كانَ مِنها مَنصُوصًا في كِتابِ اللَّهِ (p-٥٧٥٥)وجَبَ الإيمانُ بِهِ عَلى الجَمِيعِ، والإنْكارُ عَلى مَن جَحَدَهُ، أوْ زَعَمَ أنَّ ظاهِرَهُ اسْمُ ذَمٍّ لِلَّهِ سُبْحانَهُ. وما كانَ في الحَدِيثِ وجَبَ الإيمانُ بِهِ عَلى مَن عَرَفَ صِحَّتَهُ. وما نَزَلَ عَنْ هَذِهِ المَرْتَبَةِ، أوْ كانَ مُخْتَلِفًا في صِحَّتِهِ، لَمْ يَصِحَّ اسْتِعْمالُهُ، فَإنَّ اللَّهَ أجَلُّ مِن أنْ يُسَمّى باسِمٍ لَمْ يَتَحَقَّقْ أنَّهُ تَسَمّى بِهِ. ثُمَّ قالَ: وعادَةُ بَعْضِ المُحَدِّثِينَ أنْ يُورِدُوا جَمِيعَ ما ورَدَ في الحَدِيثِ المَشْهُورِ في تَعْدادِها، مَعَ الِاخْتِلافِ الشَّهِيرِ في صِحَّتِهِ. وحَسْبُكَ أنَّ البُخارِيَّ ومُسْلِمًا تَرَكا تَخْرِيجَهُ مَعَ رِوايَةِ أوَّلِهِ. واتِّفاقِهِما عَلى ذَلِكَ يُشْعِرُ بِقُوَّةِ العِلَّةِ فِيهِ. ولَكِنَّ الأكْثَرِينَ اعْتَمَدُوا ذَلِكَ تَعَرُّضًا لِفَضْلِ اللَّهِ العَظِيمِ في وعْدِهِ مَن أحْصاها بِالجَنَّةِ، كَما اتُّفِقَ عَلى صِحَّتِهِ. ولَيْسَ يُسْتَيْقَنُ إحْصاؤُها بِذَلِكَ إلّا لَوْ لَمْ يَكُنْ لِلَّهِ سُبْحانَهُ اسْمٌ غَيْرُ تِلْكَ الأسْماءِ، فَأمّا إذا كانَتْ أسْماؤُهُ سُبْحانَهُ أكْثَرَ مِن أنْ تُحْصى، بَطَلَ اليَقِينُ بِذَلِكَ، وكانَ الأحْسَنُ الِاقْتِصارَ عَلى ما في كِتابِ اللَّهِ، وما اتُّفِقَ عَلى صِحَّتِهِ بَعْدَ ذَلِكَ، وهو النّادِرُ، وقَدْ ثَبَتَ أنَّ أسْماءَ اللَّهِ تَعالى أكْثَرُ مِن ذَلِكَ المَرْوِيِّ بِالضَّرُورَةِ والنَّصِّ. ثُمَّ أطالَ رَحِمَهُ اللَّهُ في ذَلِكَ وأطابَ. فَلْيَرْجِعْ إلَيْهِ النَّهِمُ بِالتَّحْقِيقاتِ. الثّانِي: قالَ الغَزالِيُّ في "المَقْصِدِ الأسْنى" - وهو مِن أنْفَسِ ما أُلِّفَ في مَعانِي الأسْماءِ الحُسْنى-: هَلِ الصِّفاتُ والأسامِي المُطْلَقَةُ عَلى اللَّهِ تَعالى تَقِفُ عَلى التَّوْقِيفِ، أوْ تَجُوزُ بِطَرِيقِ العَقْلِ؟ والَّذِي مالَ إلَيْهِ القاضِي أبُو بَكْرٍ الباقِلّانِيُّ أنَّ ذَلِكَ جائِزٌ، إلّا ما مَنَعَ مِنهُ الشَّرْعُ، أوْ أشْعَرَ بِما يَسْتَحِيلُ مَعْناهُ عَلى اللَّهِ تَعالى. فَأمّا ما لا مانِعَ فِيهِ فَإنَّهُ جائِزٌ. والَّذِي ذَهَبَ إلَيْهِ الشَّيْخُ أبُو الحَسَنِ الأشْعَرِيُّ -رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ- أنَّ ذَلِكَ مَوْقُوفٌ عَلى التَّوْقِيفِ، فَلا يَجُوزُ أنْ يُطْلَقَ في حَقِّ اللَّهِ تَعالى، إلّا إذا أذِنَ فِيهِ. والمُخْتارُ عِنْدَنا أنْ نُفَصِّلَ ونَقُولَ: كُلُّ ما يَرْجِعُ إلى الِاسْمِ، فَذَلِكَ مَوْقُوفٌ عَلى الإذْنِ، وما يَرْجِعُ إلى الوَصْفِ، فَذَلِكَ لا يَقِفُ عَلى الإذْنِ، بَلِ الصّادِقُ مِنهُ مُباحٌ دُونَ الكاذِبِ. ثُمَّ جَوَّدَ رَحِمَهُ اللَّهُ البَيانَ بِما لا غايَةَ بَعْدَهُ. (p-٥٧٥٦)الثّالِثُ: قالَ السَّيِّدُ المُرْتَضى في "إيثارِ الحَقِّ": قَدْ تَكَلَّمَ عَلى مَعانِيها جَماعَةٌ مِن أهْلِ العِلْمِ والتَّفْسِيرِ، وأكْثَرُها واضِحٌ. والعِصْمَةُ فِيها عَدَمُ التَّشْبِيهِ، واعْتِقادُ أنَّ المُرادَ بِها أكْمَلُ مَعانِيها، الكَمالُ الَّذِي لا يُحِيطُ بِحَقِيقَتِهِ إلّا اللَّهُ تَعالى. ثُمَّ قالَ: ولا بُدَّ مِنَ الإشارَةِ هُنا إلى أمْرٍ جُمَلِيٍّ، وهو أصْلٌ عَظِيمٌ، وذَلِكَ تَفْسِيرُ الحُسْنى جُمْلَةً: فاعْلَمْ أنَّها جَمْعُ الأحْسَنِ لا جَمْعُ الحَسَنِ، وتَحْتَ هَذا سِرٌّ نَفِيسٌ: وذَلِكَ أنَّ الحَسَنَ مِن صِفاتِ الألْفاظِ، ومِن صِفاتِ المَعانِي، فَكُلُّ لَفْظٍ لَهُ مَعْنَيانِ: حَسَنٌ وأحْسَنُ، فالمُرادُ الأحْسَنُ مِنهُما حَتّى يَصِحَّ جَمْعُهُ حُسْنى، ولا يُفَسَّرَ بِالحُسْنِ مِنهُما إلّا الأحْسَنُ بِهَذا الوَجْهِ. ثُمَّ بَيَّنَ مِثالِ ذَلِكَ فانْظُرْهُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب