﴿فَكُلِی وَٱشۡرَبِی وَقَرِّی عَیۡنࣰاۖ فَإِمَّا تَرَیِنَّ مِنَ ٱلۡبَشَرِ أَحَدࣰا فَقُولِیۤ إِنِّی نَذَرۡتُ لِلرَّحۡمَـٰنِ صَوۡمࣰا فَلَنۡ أُكَلِّمَ ٱلۡیَوۡمَ إِنسِیࣰّا﴾ [مريم ٢٦]
قَوْلُهُ تَعالى:
﴿فَإمّا تَرَيِنَّ مِنَ البَشَرِ أحَدًا فَقُولِي إنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ اليَوْمَ إنْسِيًّا﴾، قائِلُ هَذا الكَلامِ لِمَرْيَمَ: هو الَّذِي ناداها مِن تَحْتِها ألّا تَحْزَنِي، وقَدْ قَدَّمْنا الخِلافَ فِيهِ؛ هَلْ هو عِيسى أوْ جِبْرِيلُ، وما يَظْهَرُ رُجْحانُهُ عِنْدَنا مِن ذَلِكَ.
وَقَوْلُهُ في هَذِهِ الآيَةِ الكَرِيمَةِ:
﴿فَقُولِي إنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا﴾ [مريم: ٢١]، قِيلَ أُمِرَتْ أنْ تَقُولَ ذَلِكَ بِاللَّفْظِ، وقِيلَ أُمِرَتْ أنْ تَقُولَهُ بِالإشارَةِ، وكَوْنُها أُمِرَتْ أنْ تَقُولَهُ بِاللَّفْظِ هو مَذْهَبُ الجُمْهُورِ؛ كَما قالَهُ القُرْطُبِيُّ وأبُو حَيّانَ، وهو ظاهِرُ الآيَةِ الكَرِيمَةِ؛ لِأنَّ ظاهِرَ القَوْلِ في قَوْلِهِ تَعالى:
﴿فَقُولِي إنِّي نَذَرْتُ﴾ الآيَةَ، أنَّهُ قَوْلٌ بِاللِّسانِ، واسْتَدَلَّ مَن قالَ: إنَّها أُمِرَتْ أنْ تَقُولَ ذَلِكَ بِالإشارَةِ بِأنَّها لَوْ قالَتْهُ بِاللَّفْظِ أفْسَدَتْ نَذْرَها الَّذِي نَذَرَتْهُ ألّا تُكَلِّمَ اليَوْمَ إنْسِيًّا، فَإذا قالَتْ لِإنْسِيٍّ بِلِسانِها: إنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا، فَقَدْ كَلَّمَتْ ذَلِكَ الإنْسِيَّ فَأفْسَدَتْ نَذْرَها، واخْتارَ هَذا القَوْلَ الأخِيرَ لِدَلالَةِ الآيَةِ عَلَيْهِ ابْنُ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ، قالَ في تَفْسِيرِ هَذِهِ الآيَةِ:
﴿فَقُولِي إنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ اليَوْمَ إنْسِيًّا﴾، المُرادُ بِهَذا القَوْلِ الإشارَةُ إلَيْهِ بِذَلِكَ لا أنَّ المُرادَ القَوْلُ اللَّفْظِيُّ لِئَلّا يُنافِيَ
﴿فَلَنْ أُكَلِّمَ اليَوْمَ إنْسِيًّا﴾، وأجابَ المُخالِفُونَ عَنْ هَذا بِأنَّ المَعْنى
﴿فَلَنْ أُكَلِّمَ اليَوْمَ إنْسِيًّا﴾ بَعْدَ قَوْلِي:
﴿إنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا﴾ فَقَدْ رَأيْتَ كَلامَ العُلَماءِ في الآيَةِ، وأنَّ القَوْلَ الأوَّلَ يَدُلُّ عَلَيْهِ ظاهِرُ السِّياقِ، وأنَّ الثّانِيَ يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ:
﴿فَلَنْ أُكَلِّمَ اليَوْمَ إنْسِيًّا﴾ لِأنَّهُ يَدُلُّ عَلى نَفْيِ الكَلامِ لِلْإنْسِيِّ مُطْلَقًا، قالَ أبُو حَيّانَ في البَحْرِ: وقَوْلُهُ ”إنْسِيًّا“ لِأنَّها كانَتْ تُكَلِّمُ المَلائِكَةَ، ومَعْنى كَلامِهِ أنَّ قَوْلَهُ ”إنْسِيًّا“ لَهُ مَفْهُومُ مُخالَفَةٍ، أيْ: بِخِلافِ غَيْرِ الإنْسِيِّ كالمَلائِكَةِ فَإنِّي أُكَلِّمُهُ، والَّذِي يَظْهَرُ لِي أنَّهُ لَمْ يُرِدْ في الكَلامِ إخْراجَ المَفْهُومِ عَنْ حُكْمِ المَنطُوقِ، وإنَّما المُرادُ شُمُولُ نَفْيِ الكَلامِ لِكُلِّ إنْسانٍ كائِنًا مَن كانَ.
* * *مَسْألَةٌ.
اعْلَمْ أنَّهُ عَلى هَذا القَوْلِ الَّذِي اخْتارَهُ ابْنُ كَثِيرٍ أنَّ المُرادَ بِقَوْلِهِ:
﴿فَقُولِي إنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا﴾، أيْ: قُولِي ذَلِكَ بِالإشارَةِ - يَدُلُّ عَلى أنَّ الإشارَةَ تَنْزِلُ مَنزِلَةَ الكَلامِ؛ لِأنَّها في هَذِهِ الآيَةِ سُمِّيَتْ قَوْلًا عَلى هَذا الوَجْهِ مِنَ التَّفْسِيرِ، وسُمِعَ في كَلامِ العَرَبِ كَثِيرًا إطْلاقُ الكَلامِ عَلى الإشارَةِ، كَقَوْلِهِ:
إذا كَلَّمَتْنِي بِالعُيُونِ الفَواتِرِ رَدَدْتُ عَلَيْها بِالدُّمُوعِ البَوادِرِ
وَسَنَذْكُرُ هُنا إنْ شاءَ اللَّهُ تَعالى ما يَدُلُّ مِنَ النُّصُوصِ عَلى أنَّ الإشارَةَ المُفْهِمَةَ تَنْزِلُ مَنزِلَةَ الكَلامِ، وما يَدُلُّ مِنَ النُّصُوصِ عَلى أنَّها لَيْسَتْ كالكَلامِ، وأقْوالَ العُلَماءِ في ذَلِكَ.
اعْلَمْ أنَّهُ دَلَّتْ أدِلَّةٌ عَلى قِيامِ الإشارَةِ المُفْهِمَةِ مَقامَ الكَلامِ، وجاءَتْ أدِلَّةٌ أُخْرى يُفْهَمُ مِنها خِلافُ ذَلِكَ، فَمِنَ الأدِلَّةِ الدّالَّةِ عَلى قِيامِ الإشارَةِ مَقامَ الكَلامِ قِصَّةُ الأمَةِ السَّوْداءِ الَّتِي قالَ لَها رَسُولُ اللَّهِ ﷺ:
«أيْنَ اللَّهُ ”؟ فَأشارَتْ إلى السَّماءِ، فَقالَ ﷺ:“ أعْتِقْها فَإنَّها مُؤْمِنَةٌ» فَجَعَلَ إشارَتَها كَنُطْقِها في الإيمانِ الَّذِي هو أصْلُ الدِّياناتِ، وهو الَّذِي يُعْصَمُ بِهِ الدَّمُ والمالُ، وتُسْتَحَقُّ بِهِ الجَنَّةُ، ويُنَجّى بِهِ مِنَ النّارِ، والقِصَّةُ مَشْهُورَةٌ مَرْوِيَّةٌ عَنْ جَماعَةٍ مِنَ الصَّحابَةِ، مِنهم أبُو هُرَيْرَةَ، وابْنُ عَبّاسٍ، ومُعاوِيَةُ بْنُ الحَكَمِ السُّلَمِيُّ، والشَّرِيدُ بْنُ سُوَيْدٍ الثَّقَفِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم، وفي بَعْضِ رِواياتِهِمْ أنَّها أشارَتْ إلى السَّماءِ، قالَ أبُو داوُدَ في سُنَنِهِ: حَدَّثَنا إبْراهِيمُ بْنُ يَعْقُوبَ الجُوزَجانِيُّ، ثَنا يَزِيدُ بْنُ هارُونَ، قالَ أخْبَرَنِي المَسْعُودِيُّ عَنْ عَوْنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ، عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ:
«أنَّ رَجُلًا أتى النَّبِيَّ ﷺ بِجارِيَةٍ سَوْداءَ فَقالَ: يا رَسُولَ اللَّهِ، إنَّ عَلَيَّ رَقَبَةً مُؤْمِنَةً. فَقالَ لَها: ”أيْنَ اللَّهُ فَأشارَتْ إلى السَّماءِ بِإصْبَعِها فَقالَ لَها:“ فَمَن أنا ”؟ فَأشارَتْ إلى النَّبِيِّ ﷺ وإلى السَّماءِ، يَعْنِي أنْتَ رَسُولُ اللَّهِ، فَقالَ:“ أعْتِقْها فَإنَّها مُؤْمِنَةٌ ”»، والظّاهِرُ حَمْلُ الرِّواياتِ الَّتِي فِيها أنَّهُ لَمّا قالَ لَها أيْنَ اللَّهُ قالَتْ في السَّماءِ مِن غَيْرِ ذِكْرِ الإشارَةِ، عَلى أنَّها قالَتْ ذَلِكَ بِالإشارَةِ؛ لِأنَّ القِصَّةَ واحِدَةٌ، والرِّواياتُ يُفَسِّرُ بَعْضُها بَعْضًا. قالَ أبُو عَبْدِ اللَّهِ القُرْطُبِيُّ في تَفْسِيرِهِ في سُورَةِ“ آلِ عِمْرانَ ”في الكَلامِ عَلى قَوْلِهِ تَعالى:
﴿قالَ آيَتُكَ ألّا تُكَلِّمَ النّاسَ ثَلاثَةَ أيّامٍ إلّا رَمْزًا﴾ [آل عمران: ٤١]، ما نَصُّهُ: في هَذِهِ الآيَةِ دَلِيلٌ عَلى أنَّ الإشارَةَ تَنْزِلُ مَنزِلَةَ الكَلامِ، وذَلِكَ مَوْجُودٌ في كَثِيرٍ مِنَ السُّنَّةِ، وآكَدُ الإشاراتِ ما حَكَمَ بِهِ النَّبِيُّ ﷺ مِن
«أمْرِ السَّوْداءِ حِينَ قالَ لَها:“ أيْنَ اللَّهُ ”؟ فَأشارَتْ بِرَأْسِها إلى السَّماءِ، فَقالَ:“ أعْتِقْها فَإنَّها مُؤْمِنَةٌ» " فَأجازَ الإسْلامَ بِالإشارَةِ الَّذِي هو أصْلُ الدِّينِ الَّذِي يُحْرَزُ بِهِ الدَّمُ والمالُ، وتُسْتَحَقُّ بِهِ الجَنَّةُ ويُنَجّى بِهِ مِنَ النّارِ، وحَكَمَ بِإيمانِها كَما يَحْكُمُ بِنُطْقِ مَن يَقُولُ ذَلِكَ، فَيَجِبُ أنْ تَكُونَ الإشارَةُ عامِلَةً في سائِرِ الدِّيانَةِ، وهو قَوْلُ عامَّةِ الفُقَهاءِ.
وَرَوى ابْنُ القاسِمِ عَنْ مالِكٍ: أنَّ الأخْرَسَ إذا أشارَ بِالطَّلاقِ أنَّهُ يَلْزَمُهُ، وقالَ الشّافِعِيُّ في الرَّجُلِ يَمْرَضُ فَيَخْتَلُّ لِسانُهُ: فَهو كالأخْرَسِ في الرَّجْعَةِ والطَّلاقِ، وقالَ أبُو حَنِيفَةَ: ذَلِكَ جائِزٌ إذا كانَتْ إشارَتُهُ تَعْرَفُ، وإنْ شُكَّ فِيها فَهَذا باطِلٌ، ولَيْسَ ذَلِكَ بِقِياسٍ، وإنَّما هو اسْتِحْسانٌ، والقِياسُ في هَذا كُلِّهِ أنَّهُ باطِلٌ؛ لِأنَّهُ لا يَتَكَلَّمُ ولا تُعْقَلُ إشارَتُهُ. انْتَهى مَحِلُّ الغَرَضِ مِن كَلامِ القُرْطُبِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَقَدْ جاءَتْ أحادِيثُ كَثِيرَةٌ صَحِيحَةٌ تَدُلُّ عَلى قِيامِ الإشارَةِ مَقامَ الكَلامِ في أشْياءَ مُتَعَدِّدَةٍ، فَمِن ذَلِكَ ما رَواهُ مُسْلِمٌ في صَحِيحِهِ مِن حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما،
«أنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ ذَكَرَ رَمَضانَ فَضَرَبَ بِيَدَيْهِ فَقالَ: ”الشَّهْرُ هَكَذا وهَكَذا وهَكَذا - ثُمَّ عَقَدَ إبْهامَهُ في الثّالِثَةِ - فَصُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وأفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ، فَإنْ أُغْمِيَ عَلَيْكم فاقْدُرُوا لَهُ ثَلاثِينَ“» هَذا لَفْظُ مُسْلِمٍ في صَحِيحِهِ وهو صَرِيحٌ في أنَّهُ ﷺ نَزَّلَ إشارَتَهُ بِأصابِعِهِ إلى أنَّ الشَّهْرَ قَدْ يَكُونُ تِسْعَةً وعِشْرِينَ يَوْمًا، وقَدْ يَكُونُ ثَلاثِينَ مَنزِلَةَ نُطْقِهِ بِذَلِكَ، وقالَ النَّوَوِيُّ في شَرْحِ مُسْلِمٍ في الكَلامِ عَلى هَذا الحَدِيثِ: وفي هَذا الحَدِيثِ جَوازُ اعْتِمادِ الإشارَةِ المُفْهِمَةِ في مِثْلِ هَذا، وحَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ هَذا أوْرَدَهُ البُخارِيُّ في بابٍ ) اللِّعانِ (مُسْتَدِلًّا بِهِ عَلى أنَّ الإشارَةَ كاللَّفْظِ، وقَدْ ذَكَرَ البُخارِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ في صَحِيحِهِ أحادِيثَ كَثِيرَةً تَدُلُّ عَلى جَعْلِ الإشارَةِ كالنُّطْقِ، قالَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعالى:) بابُ الإشارَةِ في الطَّلاقِ والأُمُورِ (وقالَ ابْنُ عُمَرَ قالَ النَّبِيُّ ﷺ،
«لا يُعَذِّبُ اللَّهُ بِدَمْعِ العَيْنِ ولَكِنْ يُعَذِّبُ بِهَذا ”فَأشارَ إلى لِسانِهِ»،
«وَقالَ كَعْبُ بْنُ مالِكٍ: أشارَ النَّبِيُّ ﷺ إلَيَّ، أيْ: خُذِ النِّصْفَ»،
«وَقالَتْ أسْماءُ: صَلّى النَّبِيُّ ﷺ في الكُسُوفِ، فَقُلْتُ لِعائِشَةَ: ما شَأْنُ النّاسِ ؟ وهي تُصَلِّي، فَأوْمَأتْ بِرَأْسِها إلى الشَّمْسِ، فَقُلْتُ: آيَةٌ ؟ فَأوْمَأتْ بِرَأْسِها أنْ نَعَمْ»، وقالَ أنَسٌ:
«أوْمَأ النَّبِيُّ ﷺ بِيَدِهِ إلى أبِي بَكْرٍ أنْ يَتَقَدَّمَ»، وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ:
«أوْمَأ النَّبِيُّ ﷺ بِيَدِهِ لا حَرَجَ»، وقالَ أبُو قَتادَةَ:
«قالَ النَّبِيُّ ﷺ في الصَّيْدِ لِلْمُحْرِمِ:“ أحَدُكم أمَرَهُ أنْ يَحْمِلَ عَلَيْها أوْ أشارَ إلَيْها ؟ ”قالُوا لا، قالَ:“ فَكُلُوا» حَدَّثَنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنا أبُو عامِرٍ عَبْدُ المَلِكِ بْنُ عَمْرٍو، حَدَّثَنا إبْراهِيمُ، عَنْ خالِدٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ قالَ:
«طافَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَلى بَعِيرٍ، وكانَ كُلَّما أتى عَلى الرُّكْنِ أشارَ إلَيْهِ وكَبَّرَ»، وقالَتْ زَيْنَبُ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ:
«”فُتِحَ مِن رَدْمِ يَأْجُوجَ ومَأْجُوجَ مِثْلُ هَذِهِ وهَذِهِ“ وعَقَدَ تِسْعِينَ.»حَدَّثَنا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنا بِشْرُ بْنُ المُفَضَّلِ، حَدَّثَنا سَلَمَةُ بْنُ عَلْقَمَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ قالَ: قالَ أبُو القاسِمِ ﷺ:
«في الجُمُعَةِ ساعَةٌ لا يُوافِقُها مُسْلِمٌ قائِمٌ يُصَلِّي يَسْألُ اللَّهَ خَيْرًا إلّا أعْطاهُ ”وَقالَ بِيَدِهِ، ووَضَعَ أُنْمُلَتَهُ عَلى بَطْنِ الوُسْطى والخِنْصَرِ، قُلْنا: يُزَهِّدُها.» وقالَ الأُوَيْسِيُّ: حَدَّثَنا إبْراهِيمُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ شُعْبَةَ بْنِ الحَجّاجِ عَنْ هِشامِ بْنِ يَزِيدَ عَنْ أنَسِ بْنِ مالِكٍ قالَ:
«عَدا يَهُودِيٌّ في عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ عَلى جارِيَةٍ فَأخَذَ أوْضاحًا كانَتْ عَلَيْها، ورَضَخَ رَأْسَها، فَأتى بِهِ أهْلُها رَسُولَ اللَّهِ ﷺ وهي في آخِرِ رَمَقٍ وقَدْ أُصْمِتَتْ، فَقالَ لَها رَسُولُ اللَّهِ ﷺ:“ مَن قَتَلَكِ، فُلانٌ ؟ ”لِغَيْرِ الَّذِي قَتَلَها، فَأشارَتْ بِرَأْسِها أنْ لا، قالَ: فَقالَ لِرَجُلٍ آخَرَ غَيْرِ الَّذِي قَتَلَها، فَأشارَتْ أنْ لا، فَقالَ:“ فُلانٌ ؟ ”لِقاتِلِها، فَأشارَتْ أنْ نَعَمْ، فَأمَرَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فَرُضِخَ رَأْسُهُ بَيْنَ حَجَرَيْنِ»، حَدَّثَنا قَبِيصَةُ، حَدَّثَنا سُفْيانُ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينارٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما قالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ ﷺ يَقُولُ:
«“ الفِتْنَةُ مِن هُنا ”وَأشارَ إلى المَشْرِقِ»، حَدَّثَنا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنا جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ الحَمِيدِ، عَنْ أبِي إسْحاقَ الشَّيْبانِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أبِي أوْفى قالَ:
«كُنّا في سَفَرٍ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ“ فَلَمّا غَرَبَتِ الشَّمْسُ قالَ لِرَجُلٍ: ”انْزِلْ فاجْدَحْ لِي“ قالَ: يا رَسُولَ اللَّهِ، لَوْ أمْسَيْتَ. ثُمَّ قالَ: انْزِلْ فاجْدَحْ ”قالَ: يا رَسُولَ اللَّهِ ﷺ، لَوْ أمْسَيْتَ إنَّ عَلَيْكَ نَهارًا، ثُمَّ قالَ:“ انْزِلْ فاجْدَحْ ”فَنَزَلَ فَجَدَحَ لَهُ في الثّالِثَةِ فَشَرِبَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، ثُمَّ أوْمَأ بِيَدِهِ إلى المَشْرِقِ فَقالَ:“ إذا رَأيْتُمْ اللَّيْلَ قَدْ أقْبَلَ مِن هاهُنا فَقَدْ أفْطَرَ الصّائِمُ»، حَدَّثَنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ حَدَّثْنا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، عَنْ سُلَيْمانَ التَّيْمِيِّ عَنْ أبِي عُثْمانَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قالَ: قالَ النَّبِيُّ ﷺ:
«”لا يَمْنَعَنَّ أحَدًا مِنكم نِداءُ بِلالٍ - أوْ قالَ: أذانُهُ مِن سُحُورِهِ - فَإنَّما يُنادِي - أوْ قالَ: يُؤَذِّنُ - لِيَرْجِعَ قائِمُكم ولَيْسَ أنْ يَقُولَ. كَأنَّهُ يَعْنِي الصُّبْحَ أوِ الفَجْرَ. وأظْهَرَ يَزِيدُ يَدَيْهِ ثُمَّ مَدَّ إحْداهُما مِنَ الأُخْرى»، وقالَ اللَّيْثُ: حَدَّثَنِي جَعْفَرُ بْنُ رَبِيعَةَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ هُرْمُزٍ، سَمِعْتُ أبا هُرَيْرَةَ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ:
«“ مَثَلُ البَخِيلِ والمُنْفِقِ كَمَثَلِ رَجُلَيْنِ عَلَيْهِما جُبَّتانِ مِن حَدِيدٍ مِن لَدُنْ ثَدْيَيْهِما إلى تَراقِيهِما، فَأمّا المُنْفِقُ فَلا يُنْفِقُ شَيْئًا إلّا مادَتْ عَلى جِلْدِهِ حَتّى تَجُنَّ بَنانَهُ وتَعْفُوَ أثَرَهُ، وأمّا البَخِيلُ فَلا يُرِيدُ يُنْفِقُ إلّا لَزِمَتْ كُلُّ حَلْقَةٍ مَوْضِعَها، فَهو يُوَسِّعُها فَلا تَتَّسِعُ "، ويُشِيرُ بِأُصْبُعِهِ إلى حَلْقِهِ»، انْتَهى مِن صَحِيحِ البُخارِيِّ.
فَهَذِهِ أحادِيثُ دالَّةٌ عَلى قِيامِ الإشارَةِ مَقامَ النُّطْقِ في أُمُورٍ مُتَعَدِّدَةٍ، وقالَ ابْنُ حَجَرٍ في الفَتْحِ في هَذا البابِ: ذَكَرَ فِيهِ عِدَّةَ أحادِيثَ مُعَلَّقَةٍ ومَوْصُولَةٍ أوَّلُها قَوْلُهُ: وقالَ ابْنُ عُمَرَ. هو طَرَفٌ مِن حَدِيثِ تَقَدَّمَ مَوْصُولًا في الجَنائِزِ، وفِيهِ قِصَّةٌ لِسَعْدِ بْنِ عُبادَةَ، وفِيها:
«”وَلَكِنَّ اللَّهَ يُعَذِّبُ بِهَذا“ وأشارَ إلى لِسانِهِ» .
ثانِيها: وقالَ كَعْبُ بْنُ مالِكٍ. هو أيْضًا طَرَفٌ مِن حَدِيثِ تَقَدَّمَ مَوْصُولًا في المُلازَمَةِ. وفِيها وأشارَ إلَيَ أنْ خُذِ النِّصْفَ. ثالِثُها: وقالَتْ أسْماءُ هي بِنْتُ أبِي بَكْرٍ: صَلّى النَّبِيُّ ﷺ في الكُسُوفِ، الحَدِيثُ تَقَدَّمَ مَوْصُولًا في كِتابِ الإيمانِ بِلَفْظِ: فَأشارَتْ إلى السَّماءِ، وفِيهِ: فَأشارَتْ بِرَأْسِها، أيْ: نَعَمْ، وفي صَلاةِ الكُسُوفِ بِمَعْناهُ، وفي صَلاةِ السَّهْوِ بِاخْتِصارٍ. إلى آخِرِ كَلامِهِ، وبِالجُمْلَةِ فَجَمِيعُ الأحادِيثِ الَّتِي ذَكَرَها البُخارِيُّ في البابِ المَذْكُورِ كُلُّها ثابِتَةٌ في الصَّحِيحِ مَوْصُولَةٌ، أمّا ما جاءَ مِنها مَوْصُولًا في البابِ المَذْكُورِ فَأمْرُهُ واضِحٌ، وأمّا ما جاءَ مِنها مُعَلَّقًا في البابِ المَذْكُورِ فَقَدْ جاءَ مَوْصُولًا في مَحِلٍّ آخَرَ مِن البُخارِيِّ.
والحَدِيثُ الأوَّلُ دَلَّ عَلى أنَّ النَّبِيَّ ﷺ جَعَلَ إشارَتَهُ إلى اللِّسانِ أنَّ اللَّهَ يُعَذِّبُ بِهِ كَنُطْقِهِ بِذَلِكَ.
والحَدِيثُ الثّانِي جَعَلَ فِيهِ النَّبِيُّ ﷺ إشارَتَهُ إلى كَعْبِ بْنِ مالِكٍ أنْ يُسْقِطَ نِصْفَ دِيَتِهِ عَنِ ابْنِ أبِي حَدْرَدٍ ويَأْخُذَ النِّصْفَ الباقِيَ مِنهُ كَنُطْقِهِ بِذَلِكَ.
والحَدِيثُ الثّالِثُ جَعَلَتْ فِيهِ عائِشَةُ إشارَتَها لِأُخْتِها أنَّ الكُسُوفَ آيَةٌ مِن آياتِ اللَّهِ هي السَّبَبُ في صَلاةِ النَّبِيِّ ﷺ، كَنُطْقِها بِذَلِكَ.
والحَدِيثُ الرّابِعُ: جَعَلَ فِيهِ النَّبِيُّ ﷺ إشارَتَهُ إلى أبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أنْ يَتَقَدَّمَ كَنُطْقِهِ لَهُ بِذَلِكَ، وإيضاحُ ذَلِكَ هو ما رَواهُ البُخارِيُّ عَنْ أنَسٍ في بابِ) أهْلُ العِلْمِ والفَضْلِ أحَقُّ بِالإمامَةِ ) .
قالَ أنَسٌ:
«لَمْ يَخْرُجِ النَّبِيُّ ﷺ ثَلاثًا، فَأُقِيمَتِ الصَّلاةُ فَذَهَبَ أبُو بَكْرٍ يَتَقَدَّمُ، فَقالَ نَبِيُّ اللَّهِ ﷺ بِالحِجابِ فَرَفَعَهُ فَلَمّا وضَحَ وجْهُ النَّبِيِّ ﷺ ما نَظَرْنا مَنظَرًا كانَ أعْجَبَ إلَيْنا مِن وجْهِ النَّبِيِّ ﷺ حِينَ وضَحَ لَنا، فَأوْمَأ النَّبِيُّ ﷺ بِيَدِهِ إلى أبِي بَكْرٍ أنْ يَتَقَدَّمَ، وأرْخى النَّبِيُّ ﷺ الحِجابَ فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهِ حَتّى ماتَ» . اهـ. هَذا لَفْظُ البُخارِيِّ.
وَقَدْ جَعَلَ النَّبِيُّ ﷺ في هَذا الحَدِيثِ في مَرَضِ مَوْتِهِ وقَبْلَ وفاتِهِ ﷺ بِقَلِيلٍ إشارَتَهُ إلى أبِي بَكْرٍ أنْ يَتَقَدَّمَ لِيُصَلِّيَ بِالنّاسِ كَنُطْقِهِ لَهُ بِذَلِكَ؛ لِأنَّ أبا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمّا رَأى النَّبِيَّ ﷺ كَشَفَ الحِجابِ نَكَصَ عَلى عَقِبَيْهِ لِيَصِلَ الصَّفَّ، وظَنَّ أنَّ النَّبِيَّ ﷺ خارِجٌ إلى الصَّلاةِ كَما ثَبَتَ في صَحِيحِ البُخارِيِّ في البابِ المَذْكُورِ آنِفًا مِن حَدِيثِ أنَسٍ، فَأشارَ إلَيْهِ أنْ يَتَقَدَّمَ، وقامَتِ الإشارَةُ مَقامَ النُّطْقِ.
والحَدِيثُ الخامِسُ جَعَلَ فِيهِ النَّبِيُّ ﷺ الفُتْيا بِإشارَةِ اليَدِ كالفُتْيا بِالنُّطْقِ، وإيضاحُهُ هو ما رَواهُ البُخارِيُّ في كِتابِ العِلْمِ ) في بابِ مَن أجابَ الفُتْيا بِإشارَةِ اليَدِ والرَّأْسِ (حَدَّثَنا مُوسى بْنُ إسْماعِيلَ، قالَ حَدَّثَنا وُهَيْبٌ، قالَ حَدَّثَنا أيُّوبُ، عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ:
«أنَّ النَّبِيَّ ﷺ سُئِلَ في حَجَّتِهِ فَقالَ: ”ذَبَحْتُ قَبْلَ أنْ أرْمِيَ فَأوْمَأ بِيَدِهِ قالَ: ولا حَرَجَ، قالَ: حَلَقْتُ قَبْلَ أنْ أذْبَحَ، فَأوْمَأ بِيَدِهِ ولا حَرَجَ“»، ومِن أمْثِلَةِ الفُتْيا بِإشارَةِ اليَدِ ما رَواهُ البُخارِيُّ في هَذا البابِ المَذْكُورِ آنِفًا مِن حَدِيثٍ أبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قالَ:
«”يُقْبَضُ العِلْمُ ويَظْهَرُ الجَهْلُ والفِتَنُ، ويَكْثُرُ الهَرْجُ“ قِيلَ: يا رَسُولَ اللَّهِ، وما الهَرْجُ ! فَقالَ هَكَذا بِيَدِهِ، فَحَرَّفَها كَأنَّهُ يُرِيدُ القَتْلَ» . اهـ.
فَجَعَلَ ﷺ إشارَتَهُ بِيَدِهِ كَنُطْقِهِ، بِأنَّ المُرادَ بِالهَرْجِ القَتْلُ.
والحَدِيثُ السّادِسُ جَعَلَ فِيهِ النَّبِيُّ ﷺ إشارَةَ المُحْرِمِ إلى الصَّيْدِ لِيُنَبِّهَ إلَيْهِ المُحِلَّ كَأمْرِهِ لَهُ بِاصْطِيادِهِ بِالنُّطْقِ، وقَدْ قَدَّمْنا هَذا الحَدِيثَ في سُورَةِ ”المائِدَةِ“ .
والحَدِيثُ السّابِعُ جَعَلَ فِيهِ النَّبِيُّ ﷺ الإشارَةَ إلى الرُّكْنِ في طَوافِهِ كاسْتِلامِهِ وتَقْبِيلِهِ بِالفِعْلِ.
والحَدِيثُ الثّامِنُ جَعَلَ فِيهِ النَّبِيُّ ﷺ إشارَتَهُ بِأصابِعِهِ كَعَقْدِ التِّسْعِينَ لِبَيانِ القَدْرِ الَّذِي فُتِحَ مِن رَدْمِ يَأْجُوجَ ومَأْجُوجَ كالنُّطْقِ بِذَلِكَ.
والحَدِيثُ التّاسِعُ فِيهِ أنَّهُ جَعَلَ وضْعَ أُنْمُلَتِهِ عَلى بَطْنِ الوُسْطى والخِنْصَرِ، مُشِيرًا بِذَلِكَ لِقِلَّةِ زَمَنِ السّاعَةِ الَّتِي يُجابُ فِيها الدُّعاءُ بِالخَيْرِ يَوْمَ الجُمُعَةِ، أوْ مُشِيرًا بِذَلِكَ لِوَقْتِها عِنْدَ مَن قالَ: إنَّ وضْعَ الأُنْمُلَةِ في وسَطِ الكَفِّ يُرادُ بِهِ الإشارَةُ إلى أنَّ ساعَةَ الجُمُعَةِ في وسَطِ يَوْمِ الجُمُعَةِ، ووَضْعَها عَلى الخِنْصَرِ يُرادُ بِهِ أنَّها في آخِرِ النَّهارِ؛ لِأنَّ الخِنْصَرَ آخِرُ أصابِعِ الكَفِّ كالنُّطْقِ بِذَلِكَ، وذَكَرَ ابْنُ حَجَرٍ عَنْ بَعْضِ أهْلِ العِلْمِ، أنَّ هَذِهِ الإشارَةَ بِاليَدِ لِساعَةِ الجُمْعَةِ مِن فِعْلِ بِشْرِ بْنِ المُفَضَّلِ راوِي الحَدِيثِ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ عَلْقَمَةَ كَما تَقَدَّمَ في إسْنادِ الحَدِيثِ، وعَلَيْهِ فَفي سِياقِ هَذا الحَدِيثِ عِنْدَ البُخارِيِّ إدْراجٌ.
والحَدِيثُ العاشِرُ جَعَلَ فِيهِ النَّبِيُّ ﷺ إشارَةَ الجارِيَةِ الَّتِي قَتَلَها اليَهُودِيُّ كَنُطْقِها بِأنَّ اليَهُودِيَّ قَتَلَها، وأنَّ مَن سُمِّيَ لَها غَيْرَهُ لَمْ يَكُنْ هو الَّذِي قَتَلَها، وقَدْ قَدَّمْنا هَذا الحَدِيثَ في سُورَةِ ”بَنِي إسْرائِيلَ“ وبَيَّنّا هُنالِكَ أنَّ النَّبِيَّ ﷺ وإنْ كانَ جَعَلَ إشارَةَ الجارِيَةِ كَنُطْقِها لَمْ يَقْتُلِ اليَهُودِيَّ بِإشارَةِ الجارِيَةِ القائِمَةِ مَقامَ نُطْقِها بِمَن قَتَلَها، ولَكِنَّهُ اعْتَرَفَ بِأنَّهُ قَتَلَها فَثَبَتَ عَلَيْهِ القَتْلُ بِاعْتِرافِهِ واقْتَصَّ لَها مِنهُ بِذَلِكَ.
والحَدِيثُ الحادِيَ عَشَرَ فِيهِ أنَّ النَّبِيَّ ﷺ قالَ:
«”الفِتْنَةُ مِن هُنا“ وأشارَ إلى المَشْرِقِ»، فَجَعَلَ إشارَتَهُ إلى المَشْرِقِ كَنُطْقِهِ بِذَلِكَ.
والحَدِيثُ الثّانِيَ عَشَرَ فِيهِ
«أنَّهُ ﷺ أوْمَأ بِيَدِهِ إلى المَشْرِقِ فَقالَ: ”إذا رَأيْتُمُ اللَّيْلَ قَدْ أقْبَلَ مِن هاهُنا فَقَدْ أفْطَرَ الصّائِمُ“» فَجَعَلَ إشارَتَهُ بِيَدِهِ إلى المَشْرِقِ كَنُطْقِهِ بِلَفْظِ المَشْرِقِ.
والحَدِيثُ الثّالِثَ عَشَرَ جَعَلَ فِيهِ الإشارَةَ بِاليَدِ إلى الفَرْقِ بَيْنَ الفَجْرِ الكاذِبِ والفَجْرِ الصّادِقِ بِذَلِكَ.
والحَدِيثُ الرّابِعَ عَشَرَ: قالَ فِيهِ ﷺ:
«فَهو يُوَسِّعُها ولا تَتَّسِعُ»، ويُشِيرُ بِإصْبَعِهِ إلى حَلْقِهِ، فَجَعَلَ إشارَتَهُ إلى أنَّ دِرْعَ الحَدِيدِ المَضْرُوبَ بِها المَثَلُ لِلْبَخِيلِ ثابِتَةٌ عَلى حَلْقِهِ لا تَنْزِلُ عَنْهُ ولا تَسْتُرُ عَوْرَتَهُ ولا بَدَنَهُ كالنُّطْقِ بِذَلِكَ.
فَهَذِهِ أرْبَعَةَ عَشَرَ حَدِيثًا أوْرَدَها البُخارِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ في البابِ المَذْكُورِ، وسُقْناها هُنا، وبَيَّنّا وجْهَ الدَّلالَةِ عَلى أنَّ الإشارَةَ كالنُّطْقِ في كُلٍّ واحِدٍ مِنها، مَعَ ما قَدَّمْنا مِنَ الأحادِيثِ الدّالَّةِ عَلى ذَلِكَ زِيادَةً عَلى ما ذَكَرَهُ البُخارِيُّ هُنا.
وَقَدْ ذَكَرَ البُخارِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ في أوَّلِ بابِ) اللِّعانِ (خَمْسَةَ أحادِيثَ أيْضًا كُلُّ واحِدٍ مِنها فِيهِ الدَّلالَةُ عَلى أنَّ الإشارَةَ كالنُّطْقِ ولَمْ نَذْكُرْها هُنا لِأنَّ فِيما ذَكَرْنا كِفايَةً.
وَقالَ ابْنُ حَجَرٍ في) الفَتْحِ (في آخِرِ كَلامِهِ عَلى أحادِيثِ البابِ المَذْكُورَةِ: قالَ ابْنُ بَطّالٍ: ذَهَبَ الجُمْهُورُ إلى أنَّ الإشارَةَ المُفْهِمَةَ تَنْزِلُ مَنزِلَةَ النُّطْقِ، وخالَفَهُ الحَنَفِيَّةُ في بَعْضِ ذَلِكَ، ولَعَلَّ البُخارِيَّ رَدَّ عَلَيْهِمْ بِهَذِهِ الأحادِيثِ الَّتِي جَعَلَ فِيها النَّبِيُّ ﷺ الإشارَةَ قائِمَةً مَقامَ النُّطْقِ، وإذا جازَتِ الإشارَةُ في أحْكامٍ مُخْتَلِفَةٍ في الدِّيانَةِ فَهي لِمَن لا يُمْكِنُهُ النُّطْقُ أجْوَزُ.
وَقالَ ابْنُ المُنَيِّرِ: أرادَ البُخارِيُّ أنَّ الإشارَةَ بِالطَّلاقِ وغَيْرِهِ مِنَ الأخْرَسِ وغَيْرِهِ الَّتِي يُفْهَمُ مِنها الأصْلُ والعَدَدُ نافِذَةٌ كاللَّفْظِ. اهـ.
وَيَظْهَرُ لِي أنَّ البُخارِيَّ أوْرَدَ هَذِهِ التَّرْجَمَةَ وأحادِيثَها تَوْطِئَةً لِما يَذْكُرُهُ مِنَ البَحْثِ في البابِ الَّذِي يَلِيهِ، مَعَ مَن فَرَّقَ بَيْنَ لِعانِ الأخْرَسِ، وطَلاقِهِ، واللَّهُ أعْلَمُ.
فَهَذِهِ الأحادِيثُ وأمْثالُها هي حُجَّةُ مَن قالَ: إنَّ الإشارَةَ المُفْهِمَةَ تَقُومُ مَقامَ اللَّفْظِ، واحْتَجَّ مَن قالَ بِأنَّ الإشارَةَ لَيْسَتْ كاللَّفْظِ بِأنَّ القُرْآنَ العَظِيمَ دَلَّ عَلى ذَلِكَ، وذَلِكَ في قَوْلِهِ تَعالى في الآيَةِ الَّتِي نَحْنُ بِصَدَدِها:
﴿فَقُولِي إنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ اليَوْمَ إنْسِيًّا﴾ [مريم: ٢٦]، فَإنَّ في هَذِهِ الآيَةِ التَّصْرِيحَ بِنَذْرِها الإمْساكَ عَنْ كَلامِ كُلِّ إنْسِيٍّ، مَعَ أنَّهُ تَعالى قالَ:
﴿فَأشارَتْ إلَيْهِ﴾ [مريم: ٢٩]، أيْ: أشارَتْ لَهم إلَيْهِ أنْ كَلِّمُوهُ يُخْبِرْكم بِحَقِيقَةِ الأمْرِ، فَهَذِهِ إشارَةٌ مُفْهِمَةٌ، وقَدْ فَهِمَها قَوْمُها فَأجابُوها جَوابًا مُطابِقًا لِفَهْمِهِمْ ما أشارَتْ بِهِ:
﴿قالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كانَ في المَهْدِ صَبِيًّا﴾ [مريم: ٢٩]، وهَذِهِ الإشارَةُ المُفْهِمَةُ لَوْ كانَتْ كالنُّطْقِ لَأفْسَدَتْ نَذْرَ مَرْيَمَ ألّا تُكَلِّمَ إنْسِيًّا، فالآيَةُ صَرِيحَةٌ في أنَّ الكَلامَ بِاللَّفْظِ يُخِلُّ بِنَذْرِها، وأنَّ الإشارَةَ لَيْسَتْ كَذَلِكَ، فَقَدْ جاءَ الفَرْقُ صَرِيحًا في القُرْآنِ بَيْنَ اللَّفْظِ والإشارَةِ، وكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعالى:
﴿قالَ آيَتُكَ ألّا تُكَلِّمَ النّاسَ ثَلاثَةَ أيّامٍ إلّا رَمْزًا﴾ [آل عمران: ٤١]، فَإنَّ اللَّهَ جَعَلَ لَهُ آيَةً عَلى ما بُشِّرَ بِهِ وهي مَنعُهُ مِنَ الكَلامِ، مَعَ أنَّهُ لَمْ يُمْنَعْ مِنَ الإشارَةِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ:
﴿إلّا رَمْزًا﴾، وقَوْلُهُ:
﴿فَأوْحى إلَيْهِمْ أنْ سَبِّحُوا﴾ الآيَةَ
[مريم: ١١]، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلى أنَّ الإشارَةَ لَيْسَتْ كالكَلامِ، والآيَةَ الأُولى أصْرَحُ في الدَّلالَةِ عَلى أنَّ الإشارَةَ لَيْسَتْ كاللَّفْظِ؛ لِأنَّ الآيَةَ الثّانِيَةَ مُحْتَمِلَةٌ لِكَوْنِ الإشارَةِ كالكَلامِ؛ لِأنَّ اسْتِثْناءَهُ تَعالى قَوْلَهُ:
﴿إلّا رَمْزًا﴾، مِن قَوْلِهِ:
﴿ألّا تُكَلِّمَ النّاسَ﴾، يُفْهَمُ مِنهُ أنَّ الرَّمْزَ الَّذِي هو الإشارَةُ نَوْعٌ مِن جِنْسِ الكَلامِ اسْتُثْنِيَ مِنهُ؛ لِأنَّ الأصْلَ في الِاسْتِثْناءِ الِاتِّصالُ، واللَّهُ تَعالى أعْلَمُ.
فَإذا عَلِمْتَ أدِلَّةَ الفَرِيقَيْنِ في الإشارَةِ، هَلْ هي كاللَّفْظِ أوْ لا ؟ فاعْلَمْ أنَّ العُلَماءَ مُخْتَلِفُونَ في الإشارَةِ المُفْهِمَةِ، هَلْ تَنْزِلُ مَنزِلَةَ اللَّفْظِ أوْ لا، وسَنَذْكُرُ هُنا إنْ شاءَ اللَّهُ تَعالى جُمَلًا مِن أقْوالِ أهْلِ العِلْمِ في ذَلِكَ، وما يَظْهَرُ رُجْحانُهُ بِالدَّلِيلِ.
قالَ ابْنُ حَجَرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعالى في) فَتْحِ البارِي (في آخِرِ بابِ الإشارَةِ في الطَّلاقِ والأُمُورِ، ما نَصُّهُ: وقَدِ اخْتَلَفَ العُلَماءُ في الإشارَةِ المُفْهِمَةِ، فَأمّا في حُقُوقِ اللَّهِ فَقالُوا: تَكْفِي ولَوْ مِنَ القادِرِ عَلى النُّطْقِ، وأمّا في حُقُوقِ الآدَمِيِّينَ كالعُقُودِ والإقْرارِ والوَصِيَّةِ ونَحْوِ ذَلِكَ، فاخْتَلَفَ العُلَماءُ في مَنِ اعْتُقِلَ لِسانُهُ، ثالِثُها عَنْ أبِي حَنِيفَةَ إنْ كانَ مَيْئُوسًا مِن نُطْقِهِ، وعَنْ بَعْضِ الحَنابِلَةِ إنِ اتَّصَلَ بِالمَوْتِ، ورَجَّحَهُ الطَّحاوِيُّ، وعَنِ الأوْزاعِيِّ إنْ سَبَقَهُ كَلامٌ، ونُقِلَ عَنْ مَكْحُولٍ، إنْ قالَ: فُلانٌ حُرٌّ، ثُمَّ أُصْمِتَ فَقِيلَ لَهُ: وفُلانٌ ؟ فَأوْمَأ صَحَّ، وأمّا القادِرُ عَلى النُّطْقِ فَلا تَقُومُ إشارَتُهُ مَقامَ نُطْقِهِ عِنْدَ الأكْثَرِينَ واخْتُلِفَ هَلْ يَقُومُ مِنهُ مَقامَ النِّيَّةِ، كَما لَوْ طَلَّقَ امْرَأتَهُ فَقِيلَ لَهُ: كَمْ طَلْقَةٌ ؟ فَأشارَ بِأُصْبُعِهِ. انْتَهى مِنهُ.
وَقالَ البُخارِيُّ في أوَّلِ بابِ اللِّعانِ، ما نَصُّهُ: فَإذا قَذَفَ الأخْرَسُ امْرَأتَهُ بِكِتابَةٍ أوْ إشارَةٍ أوْ إيماءٍ مَعْرُوفٍ فَهو كالمُتَكَلِّمِ؛ لِأنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَدْ أجازَ الإشارَةَ في الفَرائِضِ، وهو قَوْلُ بَعْضِ أهْلِ الحِجازِ وأهْلِ العِلْمِ، وقالَ تَعالى:
﴿فَأشارَتْ إلَيْهِ قالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كانَ في المَهْدِ صَبِيًّا﴾، وقالَ الضَّحّاكُ:
﴿إلّا رَمْزًا﴾ إشارَةً، وقالَ بَعْضُ النّاسِ: لا حَدَّ ولا لِعانَ، ثُمَّ زَعَمَ أنَّهُ إنْ طَلَّقَ بِكِتابٍ أوْ إشارَةٍ أوْ إيماءٍ جائِزٌ ولَيْسَ بَيْنَ الطَّلاقِ والقَذْفِ فَرْقٌ، فَإنْ قالَ: القَذْفُ لا يَكُونُ إلّا بِكَلامٍ قِيلَ لَهُ: كَذَلِكَ الطَّلاقُ لا يَجُوزُ إلّا بِكَلامٍ وإلّا بَطَلَ الطَّلاقُ والقَذْفُ وكَذَلِكَ العِتْقُ، وكَذَلِكَ الأصَمُّ يُلاعِنُ، وقالَ الشَّعْبِيُّ وقَتادَةُ: إذا قالَ أنْتِ طالِقٌ فَأشارَ بِأصابِعِهِ تَبَيَّنَ مِنهُ بِإشارَتِهِ، وقالَ إبْراهِيمُ: الأخْرَسُ إذا كَتَبَ الطَّلاقَ بِيَدِهِ لَزِمَهُ، وقالَ حَمّادٌ: الأخْرَسُ والأصَمُّ إنْ قالَ بِرَأْسِهِ جازَ. انْتَهى مَحِلُّ الغَرَضِ مِن كَلامِ البُخارِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَمَذاهِبُ الأئِمَّةِ الأرْبَعَةِ مُتَقارِبَةٌ في هَذِهِ المَسْألَةِ، وبَيْنَهُمُ اخْتِلافٌ في بَعْضِ فُرُوعِها.
فَمَذْهَبُ مالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ: أنَّ الإشارَةَ المُفْهِمَةَ تَقُومُ مَقامَ النُّطْقِ، قالَ خَلِيلُ بْنُ إسْحاقَ في مُخْتَصَرِهِ الَّذِي قالَ في تَرْجَمَتِهِ مُبَيِّنًا لِما بِهِ الفَتْوى، يَعْنِي في مَذْهَبِ مالِكٍ: الكَلامُ عَلى الصِّيغَةِ الَّتِي يَحْصُلُ بِها الطَّلاقُ: ولَزِمَ بِالإشارَةِ المُفْهِمَةِ. يَعْنِي أنَّ الطَّلاقَ يَلْزَمُ بِالإشارَةِ المُفْهِمَةِ مُطْلَقًا مِنَ الأخْرَسِ والنّاطِقِ وقالَ شارِحُهُ المَوّاقُ رَحِمَهُ اللَّهُ مِنَ المُدَوَّنَةِ: ما عُلِمَ مِنَ الأخْرَسِ بِإشارَةٍ أوْ بِكِتابٍ مِن طَلاقٍ أوْ خُلْعٍ أوْ عِتْقٍ أوْ نِكاحٍ، أوْ بَيْعٍ أوْ شِراءٍ أوْ قَذْفٍ - لَزِمَهُ حُكْمُ المُتَكَلِّمِ، ورَوى الباجِيُّ: إشارَةُ السَّلِيمِ بِالطَّلاقِ بِرَأْسِهِ أوْ بِيَدِهِ كَلَفْظِهِ، لِقَوْلِهِ تَعالى:
﴿ألّا تُكَلِّمَ النّاسَ ثَلاثَةَ أيّامٍ إلّا رَمْزًا﴾ [آل عمران: ٤١] انْتَهى مِنهُ، ورِوايَةُ الباجِيِّ هَذِهِ عَلَيْها أهْلُ المَذْهَبِ، ومَذْهَبُ أبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ: أنَّ إشارَةَ الأخْرَسِ تَقُومُ مَقامَ كَلامِ النّاطِقِ في تَصَرُّفاتِهِ، كَإعْتاقِهِ وطَلاقِهِ، وبَيْعِهِ وشِرائِهِ، ونَحْوِ ذَلِكَ، أمّا السَّلِيمُ فَلا تُقْبَلُ عِنْدَهُ إشارَتُهُ لِقُدْرَتِهِ عَلى النُّطْقِ، وإشارَةُ الأخْرَسِ بِقَذْفِ زَوْجَتِهِ لا يَلْزَمُ عِنْدَهُ فِيها حَدٌّ ولا لِعانٌ؛ لِأنَّ الحُدُودَ تُدْرَأُ بِالشُّبُهاتِ، وعَدَمُ التَّصْرِيحِ شُبْهَةٌ عِنْدَهُ؛ لِأنَّ الإشارَةَ قَدْ تُفْهِمُ ما لا يَقْصِدُ المُشِيرُ، ولِأنَّ أيْمانَ اللِّعانِ لَها صِيَغٌ لا بُدَّ مِنها ولا تَحْصُلُ بِالإشارَةِ وكَذَلِكَ عِنْدَهُ إذا كانَتِ الزَّوْجَةُ المَقْذُوفَةُ خَرْساءَ فَلا حَدَّ ولا لِعانَ عِنْدَهُ، لِاحْتِمالِ أنَّها لَوْ نَطَقَتْ لَصَدَّقَتْهُ، ولِأنَّها لا يُمْكِنُها الإتْيانُ بِألْفاظِ الأيْمانِ المَنصُوصَةِ في آيَةِ اللِّعانِ، وكَذَلِكَ عِنْدَهُ القَذْفُ لا يَصِحُّ مِنَ الأخْرَسِ؛ لِأنَّ الحُدُودَ تُدْرَأُ بِالشُّبُهاتِ.
وَقالَ بَعْضُ العُلَماءِ مِنَ الحَنَفِيَّةِ: إنَّ القِياسَ مَنَعَ اعْتِبارَ إشارَةِ الأخْرَسِ؛ لِأنَّها لا تُفْهَمُ كالنُّطْقِ في الجَمِيعِ، وأنَّهم أجازُوا العَمَلَ بِإشارَةِ الأخْرَسِ في غَيْرِ اللِّعانِ والقَذْفِ عَلى سَبِيلِ الِاسْتِحْسانِ، والقِياسُ المَنعُ مُطْلَقًا، ومَذْهَبُ الشّافِعِيِّ في هَذِهِ المَسْألَةِ اعْتِبارُ إشارَةِ الأخْرَسِ في اللِّعانِ وغَيْرِهِ، وعَدَمُ اعْتِبارِ إشارَةِ السَّلِيمِ.
وَأمّا مَذْهَبُ الإمامِ أحْمَدَ فَظاهِرُ كَلامِ أحْمَدَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعالى أنَّهُ لا لِعانَ إنْ كانَ أحَدُ الزَّوْجَيْنِ أخْرَسَ، كَما قَدَّمْنا تَوْجِيهَهُ في مَذْهَبِ أبِي حَنِيفَةَ، وقالَ القاضِي أبُو الخَطّابِ: إنْ فُهِمَتْ إشارَةُ الأخْرَسِ فَهو كالنّاطِقِ في قَذْفِهِ ولِعانِهِ، وأمّا طَلاقُ الأخْرَسِ ونِكاحُهُ وشِبْهُ ذَلِكَ فالإشارَةُ كالنُّطْقِ في مَذْهَبِ الإمامِ أحْمَدَ، وأمّا السَّلِيمُ فَلا تُقْبَلُ عِنْدَهُ إشارَتُهُ بِالطَّلاقِ ونَحْوِهِ.
هَذا حاصِلُ كَلامِ الأئِمَّةِ وغَيْرِهِمْ مِن فُقَهاءِ الأمْصارِ في هَذِهِ المَسْألَةِ، وقَدْ رَأيْتَ ما جاءَ فِيها مِن أدِلَّةِ الكِتابِ والسُّنَّةِ.
قالَ مُقَيِّدُهُ عَفا اللَّهُ عَنْهُ وغَفَرَ لَهُ: الَّذِي يَظْهَرُ لِي رُجْحانُهُ في المَسْألَةِ: أنَّ الإشارَةَ إنْ دَلَّتْ عَلى المَعْنى دَلالَةً واضِحَةً لا شَكَّ في المَقْصُودِ مَعَها أنَّها تَقُومُ مَقامَ النُّطْقِ مُطْلَقًا، ما لَمْ تَكُنْ في خُصُوصِ اللَّفْظِ أهَمِّيَّةٌ مَقْصُودَةٌ مِن قِبَلِ الشّارِعِ، فَإنْ كانَتْ فِيهِ فَلا تَقُومُ الإشارَةُ مَقامَهُ كَأيْمانِ اللِّعانِ، فَإنَّ اللَّهَ نَصَّ عَلَيْها بِصُورَةٍ مُعَيَّنَةٍ، فالظّاهِرُ أنَّ الإشارَةَ لا تَقُومُ مَقامَها وكَجَمِيعِ الألْفاظِ المُتَعَبَّدِ بِها فَلا تَكْفِي فِيها الإشارَةُ، واللَّهُ جَلَّ وعَلا أعْلَمُ.
وَقَوْلُهُ تَعالى في هَذِهِ الآيَةِ الكَرِيمَةِ:
﴿إنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا﴾، أيْ: إمْساكًا عَنِ الكَلامِ في قَوْلِ الجُمْهُورِ، والصَّوْمُ في اللُّغَةِ: الإمْساكُ، ومِنهُ قَوْلُ نابِغَةَ ذُبْيانَ:
خَيْلٌ صِيامٌ وخَيْلٌ غَيْرُ صائِمَةٍ ∗∗∗ تَحْتَ العَجاجِ وأُخْرى تَعْلُكُ اللُّجُما
فَقَوْلُهُ: ”خَيْلٌ صِيامٌ“ أيْ: مُمْسِكَةٌ عَنِ الجَرْيِ، وقِيلَ عَنِ العَلَفِ ”وَخَيْلٌ غَيْرُ صائِمَةٍ“ أيْ: غَيْرُ مُمْسِكَةٍ عَمّا ذُكِرَ.
وَقَوْلُ امْرِئِ القَيْسِ:
كَأنَّ الثُّرَيّا عُلِّقَتْ في مَصامِها ∗∗∗ بِأمْراسِ كَتّانٍ إلى صُمِّ جَنْدَلِ
فَقَوْلُهُ: ”في مَصامِها“ أيْ: مَكانَ صَوْمِها، يَعْنِي إمْساكَها عَنِ الحَرَكَةِ، وهَذا القَوْلُ هو الصَّحِيحُ في مَعْنى الآيَةِ، أنَّ المُرادَ بِالصَّوْمِ الإمْساكُ عَنِ الكَلامِ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ بَعْدَهُ:
﴿فَلَنْ أُكَلِّمَ اليَوْمَ إنْسِيًّا﴾، وهو قَوْلُ أكْثَرِ أهْلِ العِلْمِ، وقالَ ابْنُ حَجَرٍ) في الفَتْحِ في بابِ اللِّعانِ (وقَدْ ثَبَتَ مِن حَدِيثِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ وأنَسِ بْنِ مالِكٍ: أنَّ مَعْنى قَوْلِهِ تَعالى:
﴿إنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا﴾ أيْ: صَمْتًا، أخْرَجَهُ الطَّبَرانِيُّ وغَيْرُهُ. اهـ. وقالَ بَعْضُ العُلَماءِ: المُرادُ بِالصَّوْمِ في الآيَةِ: هو الصَّوْمُ الشَّرْعِيُّ المَعْرُوفُ المَذْكُورُ في قَوْلِهِ تَعالى:
﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ﴾ [البقرة: ١٨٣]، وعَلَيْهِ فالمُرادُ أنَّهم كانُوا إذا صامُوا في شَرِيعَتِهِمْ حَرُمَ عَلَيْهِمُ الكَلامُ كَما يَحْرُمُ عَلَيْهِمُ الطَّعامُ، والصَّوابُ في مَعْنى الآيَةِ الأوَّلُ، وعَلَيْهِ فَهَذا النَّذْرُ الَّذِي نَذَرَتْهُ ألّا تُكَلِّمَ اليَوْمَ إنْسِيًّا كانَ جائِزًا في شَرِيعَتِهِمْ، أمّا في الشَّرِيعَةِ الَّتِي جاءَنا بِها نَبِيُّنا ﷺ فَلا يَجُوزُ ذَلِكَ النَّذْرُ ولا يَجِبُ الوَفاءُ بِهِ، قالَ البُخارِيُّ في صَحِيحِهِ: حَدَّثَنا مُوسى بْنُ إسْماعِيلَ، حَدَّثَنا وُهَيْبٌ، حَدَّثَنا أيُّوبُ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ قالَ:
«بَيْنا النَّبِيُّ يَخْطُبُ إذا هو بَرَجُلٍ قائِمٍ فَسَألَ عَنْهُ فَقالُوا: أبُو إسْرائِيلَ نَذَرَ أنْ يَقُومَ ولا يَقْعُدُ ولا يَسْتَظِلُّ ولا يَتَكَلَّمُ ويَصُومُ، فَقالَ النَّبِيُّ ﷺ، ”مُرْهُ فَلْيَتَكَلَّمْ، ولْيَسْتَظِلَّ ولْيَقْعُدْ ولْيُتِمَّ صَوْمَهُ“» قالَ عَبْدُ الوَهّابِ: حَدَّثَنا أيُّوبُ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ . اهـ.
وَقالَ ابْنُ حَجَرٍ ”في الفَتْحِ“ في الكَلامِ عَلى هَذا الحَدِيثِ وفي حَدِيثِهِ أنَّ السُّكُوتَ عَنِ المُباحِ لَيْسَ مِن طاعَةِ اللَّهِ، وقَدْ أخْرَجَ أبُو داوُدَ مِن حَدِيثِ عَلِيٍّ
«وَلا صَمْتَ يَوْمٍ إلى اللَّيْلِ» وتَقَدَّمَ في السِّيرَةِ النَّبَوِيَّةِ قَوْلُ أبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ إنَّ هَذا - يَعْنِي الصَّمْتَ - مِن فِعْلِ الجاهِلِيَّةِ، وفِيهِ أنَّ كُلَّ شَيْءٍ يَتَأذّى بِهِ الإنْسانُ ولَوْ مَآلًا مِمّا لَمْ يَرِدْ بِمَشْرُوعِيَّتِهِ كِتابٌ أوْ سُنَّةٌ، كالمَشْيِ حافِيًا، والجُلُوسِ في الشَّمْسِ لَيْسَ هو مِن طاعَةِ اللَّهِ، فَلا يَنْعَقِدُ بِهِ النَّذْرُ، فَإنَّهُ ﷺ أمَرَ أبا إسْرائِيلَ بِإتْمامِ الصَّوْمِ دُونَ غَيْرِهِ، وهو مَحْمُولٌ عَلى أنَّهُ عَلِمَ أنَّهُ لا يَشُقُّ عَلَيْهِ، وأمَرَهُ أنْ يَقْعُدَ ويَتَكَلَّمَ ويَسْتَظِلَّ، قالَ القُرْطُبِيُّ: في قِصَّةِ أبِي إسْرائِيلَ: هَذِهِ أوْضَحُ الحُجَجِ لِلْجُمْهُورِ في عَدَمِ وُجُوبِ الكَفّارَةِ عَلى مَن نَذَرَ مَعْصِيَةً، أوْ ما لا طاعَةَ فِيهِ، قالَ مالِكٌ لَمّا ذَكَرَهُ: ولَمْ أسْمَعْ أنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ أمَرَهُ بِالكَفّارَةِ، انْتَهى كَلامُ صاحِبِ) فَتْحِ البارِي (وقَدْ قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ في تَفْسِيرِ هَذِهِ الآيَةِ الَّتِي نَحْنُ بِصَدَدِها: وقَدْ نَهى ﷺ عَنْ صَوْمِ الصَّمْتِ، فَقالَ ابْنُ حَجَرٍ في) الكافِي الشّافْ في تَخْرِيجِ أحادِيثِ الكَشّافْ (: لَمْ أرَهُ هَكَذا، وأخْرَجَ عَبْدُ الرَّزّاقِ مِن حَدِيثِ جابِرٍ بِلَفْظِ
«لا صَمْتَ يَوْمٍ إلى اللَّيْلِ» وفِيهِ حِزامُ بْنُ عُثْمانَ وهو ضَعِيفٌ، ولِأبِي داوُدَ مِن حَدِيثِ عَلِيٍّ مِثْلُهُ، وقَدْ تَقَدَّمَ في تَفْسِيرِ سُورَةِ ”النِّساءِ“ .
وَقَوْلُهُ تَعالى في هَذِهِ الآيَةِ الكَرِيمَةِ:
﴿فَإمّا تَرَيِنَّ﴾، مَعْناهُ فَإنْ تَرَيْ مِنَ البَشَرِ أحَدًا، فَلَفَظَةُ ”إمّا“ مُرَكَّبَةٌ مِن ”إنْ“ الشَّرْطِيَّةِ و ”ما“ المَزِيدَةِ لِتَوْكِيدِ الشَّرْطِ، والأصْلُ تَرْأيَيْنَ عَلى وزْنِ تَفْعَلَيْنَ، تَحَرَّكَتِ الياءُ الَّتِي هي لامُ الكَلِمَةِ وانْفَتَحَ ما قَبْلَها وجَبَ قَلْبُها ألِفًا فَصارَتْ تَرْآيْنَ، فَحُذِفَتِ الهَمْزَةَ ونُقِلَتْ حَرَكَتُها إلى الرّاءِ؛ لِأنَّ اللُّغَةَ الفُصْحى الَّتِي هي الأغْلَبُ في كَلامِ العَرَبِ حَذْفُ هَمْزَةِ رَأى في المُضارِعِ والأمْرِ، ونَقْلُ حَرَكَتِها إلى الرّاءِ فَصارَتْ تَرايْنَ، فالتَقى السّاكِنانِ فَحُذِفَ الأوَّلُ وهو الألِفُ، فَصارَ تَرَيْنَ فَدَخَلَتْ عَلَيْهِ نُونُ التَّوْكِيدِ الثَّقِيلَةُ فَحُذِفَتْ نُونُ الرَّفْعِ مِن أجْلِها هي، والجازِمُ الَّذِي هو ”إنْ“ الشَّرْطِيَّةُ؛ لِأنَّ كُلَّ واحِدٍ مِنهُما بِانْفِرادِهِ يُوجِبُ حَذْفَ نُونِ الرَّفْعِ، فَصارَ تَرَيْنَ، فالتَقى ساكِنانِ هُما الياءُ السّاكِنَةُ والنُّونُ الأُولى السّاكِنَةُ مِن نُونِ التَّوْكِيدِ المُثَقَّلَةِ؛ لِأنَّ كُلَّ حَرْفٍ مُشَدَّدٍ فَهو حَرْفانِ، فَحُرِّكَتِ الياءُ بِحَرَكَةٍ تُناسِبُها وهي الكَسْرَةُ فَصارَتْ تَرَيْنَ، كَما أشارَ إلى هَذا ابْنُ مالِكٍ في الخُلاصَةِ بِقَوْلِهِ:
واحْذِفْهُ مِن رافِعِ هاتَيْنِ وفي ∗∗∗ واوٍ ويا شَكْلٌ مُجانِسٌ قُفِي
نَحْوِ اخْشَيْنَ يا هِنْدُ بِالكَسْرِ ويا ∗∗∗ قَوْمِ اخْشَوُنْ واضْمُمْ وقِسْ مُسْوِيا
وَما ذَكَرْنا مِن أنَّ هَمْزَةَ ”رَأى“ تُحْذَفُ في المُضارِعِ والأمْرِ هو القِياسُ المُطَّرِدُ في كَلامِ العَرَبِ وبَقاؤُها عَلى الأصْلِ مَسْمُوعٌ، ومِنهُ قَوْلُ سُراقَةَ بْنِ مِرْداسٍ البارِقِيِّ الأصْغَرِ:
أُرِي عَيْنَيَّ ما لَمْ تَرْأياهُ ∗∗∗ كِلانا عالِمٌ بِالتُّرَّهاتِ
وَقَوْلُ الأعْلَمِ بْنِ جَرادَةَ السَّعْدِيِّ، أوْ شاعِرٍ مِن تَيْمِ الرَّبابِ:
ألَمْ تَرْأ ما لاقَيْتُ والدَّهْرُ أعْصُرُ، ∗∗∗ ومَن يَتَمَلَّ الدَّهْرَ يَرْأ ويَسْمَعِ
وَقَوْلُ الآخَرِ:
أحِنُّ إذا رَأيْتُ جِبالَ نَجْدٍ ∗∗∗ ولا أرْأى إلى نَجْدٍ سَبِيلا
وَنُونُ التَّوْكِيدِ في العَمَلِ المُضارِعِ بَعْدَ ”إمّا“ لازِمَةٌ عِنْدَ بَعْضِ عُلَماءِ العَرَبِيَّةِ، ومِمَّنْ قالَ بِلُزُومِها بَعْدَ ”إمّا“ كَقَوْلِهِ هُنا:
﴿فَإمّا تَرَيِنَّ مِنَ البَشَرِ أحَدًا﴾،: المُبَرِّدُ والزَّجّاجُ، ومَذْهَبُ سِيبَوَيْهِ والفارِسِيِّ وجَماعَةٍ أنَّ نُونَ التَّوْكِيدِ في الفِعْلِ المُضارِعِ بَعْدَ ”إمّا“ غَيْرُ لازِمَةٍ، ويَدُلُّ لَهُ كَثْرَةُ وُرُودِهِ في شِعْرِ العَرَبِ، كَقَوْلِ الأعْشى مَيْمُونِ بْنِ قَيْسٍ:
فَإمّا تَرَيْنِي ولِي لِمَّةٌ ∗∗∗ فَإنَّ الحَوادِثَ أرْدى بِها
وَقَوْلِ لَبِيدِ بْنِ رَبِيعَةَ:
فَإمّا تَرَيْنِي اليَوْمَ أصْبَحْتُ سالِمًا ∗∗∗ فَلَسْتُ بِأحْيا مِن كِلابٍ وجَعْفَرِ
وَقَوْلِ الشَّنْفَرى:
فَإمّا تَرَيْنِي كابْنَةِ الرَّمْلِ ضاحِيًا ∗∗∗ عَلى رِقَّةٍ أُحْفِي ولا أتَنَعَّلُ
وَقَوْلِ الأفْوَهِ الأوْدِيِّ:
إمّا تَرَيْ رَأْسِي أزْرى بِهِ ∗∗∗ مَأْسَرُ زَمانٍ ذِي انْتِكاسٍ مَئُوسِ
وَقَوْلِ الآخَرِ:
زَعَمَتْ تُماضِرُ أنَّنِي إمّا أمُتْ ∗∗∗ يُسَدِّدْ بُنَيُّوها الأصاغِرُ خَلَّتِي
وَقَوْلِ الآخَرِ:
يا صاحِ إمّا تَجِدُنِي غَيْرَ ذِي جَدَّةٍ ∗∗∗ فَما التَّخَلِّي عَنِ الخُلّانِ مِن شِيَمِي
وَأمْثالُ هَذا كَثِيرَةٌ في شِعْرِ العَرَبِ.
والمُبَرِّدُ والزَّجّاجُ يَقُولانِ: إنَّ حَذْفَ النُّونِ في الأبْياتِ المَذْكُورَةِ ونَحْوِها إنَّما هو لِضَرُورَةِ الشِّعْرِ، ومَن خالَفَهم كَسِيبَوَيْهَ والفارِسِيِّ يَمْنَعُونَ كَوْنَهُ لِلضَّرُورَةِ، ويَقُولُونَ: إنَّهُ جائِزٌ مُطْلَقًا، والعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعالى.