الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَناداها مِن تَحْتِها ألّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا﴾ ﴿وهُزِّي إلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا﴾ ﴿فَكُلِي واشْرَبِي وقَرِّي عَيْنًا فَإمّا تَرَيِنَّ مِنَ البَشَرِ أحَدًا فَقُولِي إنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ اليَوْمَ إنْسِيًّا﴾ في الآيَةِ مَسائِلُ: المَسْألَةُ الأُولى: فَناداها مِن تَحْتِها القِراءَةُ المَشْهُورَةُ فَناداها وقَرَأ زِرٌّ وعَلْقَمَةُ فَخاطَبَها، وفي المِيمِ فِيها قِراءَتانِ: فَتْحُ المِيمِ وهو المَشْهُورُ، وكَسْرُهُ وهو قِراءَةُ نافِعٍ وحَمْزَةَ والكِسائِيِّ وحَفْصٍ، وفي المُنادِي ثَلاثَةُ أوْجُهٍ: الأوَّلُ: أنَّهُ عِيسى عَلَيْهِ السَّلامُ وهو قَوْلُ الحَسَنِ وسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ. والثّانِي: أنَّهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلامُ وأنَّهُ كانَ كالقابِلَةِ لِلْوَلَدِ. والثّالِثُ: أنَّ المُنادِيَ عَلى القِراءَةِ بِالكَسْرِ هو المَلَكُ وعَلى القِراءَةِ بِالفَتْحِ هو عِيسى عَلَيْهِ السَّلامُ، وهو مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ وعاصِمٍ، والأوَّلُ أقْرَبُ لِوُجُوهٍ: الأوَّلُ: أنَّ قَوْلَهُ: (فَناداها مَن تَحْتِها) بِفَتْحِ المِيمِ إنَّما يُسْتَعْمَلُ إذا كانَ قَدْ عُلِمَ قَبْلَ ذَلِكَ أنَّ تَحْتَها أحَدًا والَّذِي عُلِمَ كَوْنُهُ حاصِلًا تَحْتَها هو عِيسى عَلَيْهِ السَّلامُ؛ فَوَجَبَ حَمْلُ اللَّفْظِ عَلَيْهِ، وأمّا القِراءَةُ بِكَسْرِ المِيمِ فَهي لا تَقْتَضِي كَوْنَ المُنادِي جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلامُ، فَقَدْ صَحَّ قَوْلُنا. الثّانِي: أنَّ ذَلِكَ المَوْضِعَ مَوْضِعُ اللَّوْثِ والنَّظَرِ إلى العَوْرَةِ وذَلِكَ لا يَلِيقُ بِالمَلائِكَةِ. الثّالِثُ: أنَّ قَوْلَهُ: ﴿فَناداها﴾ فِعْلٌ، ولا بُدَّ وأنْ يَكُونَ فاعِلُهُ قَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، ولَقَدْ تَقَدَّمَ قَبْلَ هَذِهِ الآيَةِ ذِكْرُ جِبْرِيلَ وذِكْرُ عِيسى عَلَيْهِما السَّلامُ إلّا أنَّ ذِكْرَ عِيسى أقْرَبُ لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَحَمَلَتْهُ فانْتَبَذَتْ بِهِ﴾ [ مَرْيَمَ: ٢٢] والضَّمِيرُ هَهُنا عائِدٌ إلى المَسِيحِ؛ فَكانَ حَمْلُهُ عَلَيْهِ أوْلى. والرّابِعُ: وهو دَلِيلُ الحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلامُ أنَّ عِيسى عَلَيْهِ السَّلامُ لَوْ لَمْ يَكُنْ كَلَّمَها لَما عَلِمَتْ أنَّهُ يَنْطِقُ فَما كانَتْ تُشِيرُ إلى عِيسى عَلَيْهِ السَّلامُ بِالكَلامِ فَأمّا مَن قالَ: المُنادِي هو عِيسى عَلَيْهِ السَّلامُ فالمَعْنى أنَّهُ تَعالى أنْطَقَهُ لَها حِينَ وضَعَتْهُ تَطْيِيبًا لِقَلْبِها وإزالَةً لِلْوَحْشَةِ عَنْها حَتّى تُشاهِدَ في أوَّلِ الأمْرِ ما بَشَّرَها بِهِ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلامُ مِن عُلُوِّ شَأْنِ ذَلِكَ الوَلَدِ. ومَن قالَ: المُنادِي جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلامُ قالَ: إنَّهُ أُرْسِلَ إلَيْها لِيُنادِيَها بِهَذِهِ الكَلِماتِ كَما أُرْسِلَ إلَيْها في أوَّلِ الأمْرِ لِيَكُونَ ذَلِكَ تَذْكِيرًا لَها بِما تَقَدَّمَ مِن أصْنافِ البِشاراتِ، وأمّا (p-١٧٥)قَوْلُهُ: ﴿مِن تَحْتِها﴾ فَإنْ حَمَلْناهُ عَلى الوَلَدِ فَلا سُؤالَ، وإنْ حَمَلْناهُ عَلى المَلَكِ فَفِيهِ وجْهانِ: الأوَّلُ: أنْ يَكُونا مَعًا في مَكانٍ مُسْتَوٍ ويَكُونَ هُناكَ مَبْدَأٌ مُعَيَّنٌ كَتِلْكَ النَّخْلَةِ هَهُنا، فَكُلُّ مَن كانَ أقْرَبَ مِنها كانَ فَوْقَ، وكُلُّ مَن كانَ أبْعَدَ مِنها كانَ تَحْتَ، وفَسَّرَ الكَلْبِيُّ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿إذْ جاءُوكم مِن فَوْقِكم ومِن أسْفَلَ مِنكُمْ﴾ [ الأحْزابِ: ١٠] بِذَلِكَ، وعَلى هَذا الوَجْهِ قالَ بَعْضُهم: إنَّهُ ناداها مِن أقْصى الوادِي. والثّانِي: أنْ يَكُونَ مَوْضِعُ أحَدِهِما أعْلى مِن مَوْضِعِ الآخَرِ فَيَكُونُ صاحِبُ العُلُوِّ فَوْقَ صاحِبِ السِّفَلِ وعَلى هَذا الوَجْهِ رُوِيَ عَنْ عِكْرِمَةَ أنَّها كانَتْ حِينَ ولَدَتْ عَلى مِثْلِ رابِيَةٍ. وفِيهِ وجْهٌ ثالِثٌ: يُحْكى عَنْ عِكْرِمَةَ وهو أنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلامُ ناداها مِن تَحْتِ النَّخْلَةِ ثُمَّ عَلى التَّقْدِيراتِ الثَّلاثَةِ يُحْتَمَلُ أنْ تَكُونَ مَرْيَمُ قَدْ رَأتْهُ وأنَّها ما رَأتْهُ ولَيْسَ في اللَّفْظِ ما يَدُلُّ عَلى شَيْءٍ مِن ذَلِكَ. المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: اتَّفَقَ المُفَسِّرُونَ إلّا الحَسَنَ وعَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ زَيْدٍ أنَّ السَّرِيَّ هو النَّهْرُ والجَدْوَلُ؛ سُمِّيَ بِذَلِكَ لِأنَّ الماءَ يَسْرِي فِيهِ وأمّا الحَسَنُ وابْنُ زَيْدٍ فَجَعَلا السَّرِيَّ عِيسى، والسَّرِيُّ هو النَّبِيلُ الجَلِيلُ يُقالُ: فُلانٌ مِن سَرَواتِ قَوْمِهِ أيْ: مِن أشْرافِهِمْ ورُوِيَ أنَّ الحَسَنَ رَجَعَ عَنْهُ، ورُوِيَ عَنْ قَتادَةَ وغَيْرِهِ أنَّ الحَسَنَ تَلا هَذِهِ الآيَةَ وبِجَنْبِهِ حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الحِمْيَرِيُّ: ﴿قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا﴾ فَقالَ: إنْ كانَ لَسِرِيًّا وإنْ كانَ لَكَرِيمًا فَقالَ لَهُ حُمَيْدٌ: يا أبا سَعِيدٍ إنَّما هو الجَدْوَلُ فَقالَ لَهُ الحَسَنُ مِن ثَمَّ تُعْجِبُنا مُجالَسَتُكَ، واحْتَجَّ مَن حَمَلَهُ عَلى النَّهْرِ بِوَجْهَيْنِ: أحَدُهُما: «أنَّهُ سَألَ النَّبِيَّ -ﷺ- عَنِ السَّرِيِّ فَقالَ: هو الجَدْوَلُ» . والثّانِي: أنَّ قَوْلَهُ: ﴿فَكُلِي واشْرَبِي﴾ يَدُلُّ عَلى أنَّهُ نَهْرٌ حَتّى يَنْضافَ الماءُ إلى الرُّطَبِ فَتَأْكُلَ وتَشْرَبَ، واحْتَجَّ مَن حَمَلَهُ ”عَلى“ عِيسى بِوَجْهَيْنِ: الأوَّلُ: أنَّ النَّهْرَ لا يَكُونُ تَحْتَها بَلْ إلى جانِبِها ولا يَجُوزُ أنْ يُجابَ عَنْهُ بِأنَّ المُرادَ مِنهُ أنَّهُ جَعَلَ النَّهْرَ تَحْتَ أمْرِها يَجْرِي بِأمْرِها ويَقِفُ بِأمْرِها كَما في قَوْلِهِ: ﴿وهَذِهِ الأنْهارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي﴾ [الزُّخْرُفِ: ٥١] لِأنَّ هَذا حَمْلٌ لِلَّفْظِ عَلى مَجازِهِ ولَوْ حَمَلْناهُ عَلى عِيسى عَلَيْهِ السَّلامُ لَمْ يَحْتَجْ إلى هَذا المَجازِ. الثّانِي: أنَّهُ مُوافِقٌ لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وجَعَلْنا ابْنَ مَرْيَمَ وأُمَّهُ آيَةً وآوَيْناهُما إلى رَبْوَةٍ ذاتِ قَرارٍ ومَعِينٍ﴾ [المُؤْمِنُونَ: ٥٠] والجَوابُ عَنْهُ ما تَقَدَّمَ أنَّ المَكانَ المُسْتَوِيَ إذا كانَ فِيهِ مَبْدَأٌ مُعَيَّنٌ فَكُلُّ مَن كانَ أقْرَبَ مِنهُ كانَ فَوْقَ وكُلُّ مَن كانَ أبْعَدَ مِنهُ كانَ تَحْتَ. فَرْعانِ: الأوَّلُ: إنْ حَمَلْنا السَّرِيَّ عَلى النَّهْرِ فَفِيهِ وجْهانِ: أحَدُهُما: أنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلامُ ضَرَبَ بِرِجْلِهِ فَظَهَرَ ماءٌ عَذْبٌ. والثّانِي: أنَّهُ كانَ هُناكَ ماءٌ جارٍ. والأوَّلُ: أقْرَبُ لِأنَّ قَوْلَهُ: ﴿قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا﴾ مُشْعِرٌ بِالحُدُوثِ في ذَلِكَ الوَقْتِ، ولِأنَّ اللَّهَ تَعالى ذَكَرَهُ تَعْظِيمًا لِشَأْنِها وذَلِكَ لا يَثْبُتُ إلّا عَلى الوَجْهِ الَّذِي قُلْناهُ. الثّانِي: اخْتَلَفُوا في أنَّ السَّرِيَّ هو النَّهْرُ مُطْلَقًا وهو قَوْلُ أبِي عُبَيْدَةَ والفَرّاءِ أوِ النَّهْرُ الصَّغِيرُ عَلى ما هو قَوْلُ الأخْفَشِ. المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: قالَ القَفّالُ: الجِذْعُ مِنَ النَّخْلَةِ هو الأسْفَلُ وما دُونُ الرَّأْسِ الَّذِي عَلَيْهِ الثَّمَرَةُ، وقالَ قُطْرُبٌ: كُلُّ خَشَبَةٍ في أصْلِ شَجَرَةٍ فَهي جِذْعٌ، وأمّا الباءُ في قَوْلِهِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ فَزائِدَةٌ، والمَعْنى هُزِّي إلَيْكِ أيْ: حَرِّكِي جِذْعَ النَّخْلَةِ، قالَ الفَرّاءُ: العَرَبُ تَقُولُ هَزَّهُ وهَزَّ بِهِ وخُذِ الخِطامَ وخُذْ بِالخِطامِ، وزَوَّجْتُكَ فُلانَةً وبِفُلانَةٍ، وقالَ الأخْفَشُ: يَجُوزُ أنْ يَكُونَ عَلى مَعْنى هُزِّي إلَيْكِ رُطَبًا بِجِذْعِ النَّخْلَةِ أيْ: عَلى جِذْعِها، إذا عَرَفْتَ هَذا فَنَقُولُ: قَدْ تَقَدَّمَ أنَّ الوَقْتَ كانَ شِتاءً وأنَّ النَّخْلَةَ كانَتْ يابِسَةً، واخْتَلَفُوا في أنَّهُ هَلْ أثْمَرَ الرُّطَبَ وهو عَلى حالِهِ أوْ تَغَيَّرَ، وهَلْ أثْمَرَ مَعَ الرُّطَبِ غَيْرَهُ ؟ والظّاهِرُ يَقْتَضِي أنَّهُ صارَ نَخْلَةً لِقَوْلِهِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ وأنَّهُ ما أثْمَرَ إلّا الرُّطَبَ. المَسْألَةُ الرّابِعَةُ: قالَ صاحِبُ ”الكَشّافِ“: ”تُساقِطْ“ فِيهِ تِسْعُ قِراءاتٍ، تَسّاقَطْ بِإدْغامِ التّاءِ، وتَتَساقَطْ بِإظْهارِ (p-١٧٦)التّاءَيْنِ وتَساقَطْ بِطَرْحِ الثّانِيَةِ ويَسّاقَطْ بِالياءِ وإدْغامِ التّاءِ وتَساقَطْ وتَسْقُطْ ويَسْقُطْ وتُسْقِطْ ويُسْقِطْ؛ التّاءُ لِلنَّخْلَةِ والياءُ لِلْجِذْعِ. المَسْألَةُ الخامِسَةُ: رُطَبًا تَمْيِيزٌ أوْ مَفْعُولٌ عَلى حَسَبِ القِراءَةِ، الجَنِيُّ المَأْخُوذُ طَرِيًّا، وعَنْ طَلْحَةَ بْنِ سُلَيْمانَ ”جِنِيًّا“ بِكَسْرِ الجِيمِ لِلْإتْباعِ، والمَعْنى جَمَعْنا لَكِ في السَّرِيِّ والرُّطَبِ فائِدَتَيْنِ: إحْداهُما: الأكْلُ والشُّرْبُ. والثّانِيَةُ: سَلْوَةُ الصَّدْرِ بِكَوْنِهِما مُعْجِزَتَيْنِ، فَإنْ قالَ قائِلٌ: فَتِلْكَ الأفْعالُ الخارِقَةُ لِلْعاداتِ لِمَن ؟ قُلْنا: قالَتِ المُعْتَزِلَةُ: إنَّها كانَتْ مُعْجِزَةً لِزَكَرِيّا وغَيْرِهِ مِنَ الأنْبِياءِ وهَذا باطِلٌ لِأنَّ زَكَرِيّا عَلَيْهِ السَّلامُ ما كانَ لَهُ عِلْمٌ بِحالِها ومَكانِها فَكَيْفَ بِتِلْكَ المُعْجِزاتِ، بَلِ الحَقُّ أنَّها كانَتْ كَراماتٍ لِمَرْيَمَ أوْ إرْهاصًا لِعِيسى عَلَيْهِ السَّلامُ. المَسْألَةُ السّادِسَةُ: فَكُلِي واشْرَبِي وقَرِّي عَيْنًا، قُرِئَ بِكَسْرِ القافِ لُغَةَ نَجْدٍ، ونَقُولُ قَدَّمَ الأكْلَ عَلى الشُّرْبِ لِأنَّ احْتِياجَ النُّفَساءِ إلى أكْلِ الرُّطَبِ أشَدُّ مِنَ احْتِياجِها إلى شُرْبِ الماءِ لِكَثْرَةِ ما سالَ مِنها مِنَ الدِّماءِ، ثُمَّ قالَ: وقَرِّي عَيْنًا، وهَهُنا سُؤالٌ، وهو أنَّ مَضَرَّةَ الخَوْفِ أشَدُّ مِن مَضَرَّةِ الجُوعِ والعَطَشِ والدَّلِيلُ عَلَيْهِ أمْرانِ: أحَدُهُما: أنَّ الخَوْفَ ألَمُ الرُّوحِ والجُوعَ ألَمُ البَدَنِ وألَمُ الرُّوحِ أقْوى مِن ألَمِ البَدَنِ. والثّانِي: ما رُوِيَ أنَّهُ أُجِيعَتْ شاةٌ، ثُمَّ قُدِّمَ العَلَفُ إلَيْها، ورُبِطَ عِنْدَها ذِئْبٌ؛ فَبَقِيَتِ الشّاةُ مُدَّةً مَدِيدَةً لا تَتَناوَلُ العَلَفَ مَعَ جُوعِها الشَّدِيدِ خَوْفًا مِنَ الذِّئْبِ، ثُمَّ كُسِرَتْ رِجْلُها، وقُدِّمَ العَلَفُ إلَيْها فَتَناوَلَتِ العَلَفَ، مَعَ ألَمِ البَدَنِ؛ دَلَّتْ هَذِهِ الحِكايَةُ عَلى أنَّ ألَمَ الخَوْفِ أشَدُّ مِن ألَمِ البَدَنِ. إذا ثَبَتَ هَذا فَنَقُولُ: فَلِمَ قَدَّمَ اللَّهُ تَعالى في الحِكايَةِ دَفْعَ ضَرَرِ الجُوعِ والعَطَشِ عَلى دَفْعِ ضَرَرِ الخَوْفِ ؟ والجَوابُ أنَّ هَذا الخَوْفَ كانَ قَلِيلًا؛ لِأنَّ بِشارَةَ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلامُ كانَتْ قَدْ تَقَدَّمَتْ؛ فَما كانَتْ تَحْتاجُ إلى التَّذْكِيرِ مَرَّةً أُخْرى. المَسْألَةُ السّابِعَةُ: قالَ صاحِبُ ”الكَشّافِ“: قَرَأ ”تَرَئِنَّ“ بِالهَمْزَةِ، ابْنُ الرُّومِيِّ عَنْ أبِي عَمْرٍو وهَذا مِن لُغَةِ مَن يَقُولُ: لَبَّأْتُ بِالحَجِّ وحَلَّأْتُ السَّوِيقَ، وذَلِكَ لِتَآخٍ بَيْنَ الهَمْزِ وحَرْفِ اللِّينِ في الإبْدالِ، ”صَوْمًا“ صَمْتًا وفي مُصْحَفِ عَبْدِ اللَّهِ صَمْتًا، وعَنْ أنَسِ بْنِ مالِكٍ مِثْلُهُ، وقِيلَ صِيامًا إلّا أنَّهم كانُوا لا يَتَكَلَّمُونَ في صِيامِهِمْ فَعَلى هَذا كانَ ذِكْرُ الصَّوْمِ دالًّا عَلى الصَّمْتِ وهَذا النَّوْعُ مِنَ النَّذْرِ كانَ جائِزًا في شَرْعِهِمْ، وهَلْ يَجُوزُ مِثْلُ هَذا النَّذْرِ في شَرْعِنا قالَ القَفّالُ: لَعَلَّهُ يَجُوزُ لِأنَّ الِاحْتِرازَ عَنْ كَلامِ الآدَمِيِّينَ وتَجْرِيدَ الفِكْرِ لِذِكْرِ اللَّهِ تَعالى قُرْبَةٌ، ولَعَلَّهُ لا يَجُوزُ لِما فِيهِ مِنَ التَّضْيِيقِ وتَعْذِيبِ النَّفْسِ كَنَذْرِ القِيامِ في الشَّمْسِ، ورُوِيَ أنَّهُ دَخَلَ أبُو بَكْرٍ عَلى امْرَأةٍ قَدْ نَذَرَتْ أنَّها لا تَتَكَلَّمُ فَقالَ أبُو بَكْرٍ: إنَّ الإسْلامَ هَدَمَ هَذا فَتَكَلَّمِي، واللَّهُ أعْلَمُ. المَسْألَةُ الثّامِنَةُ: أمَرَها اللَّهُ تَعالى بِأنْ تَنْذُرَ الصَّوْمَ لِئَلّا تَشْرَعَ مَعَ مَنِ اتَّهَمَها في الكَلامِ لِمَعْنَيَيْنِ: أحَدُهُما: أنَّ كَلامَ عِيسى عَلَيْهِ السَّلامُ أقْوى في إزالَةِ التُّهْمَةِ مِن كَلامِها وفِيهِ دَلالَةٌ عَلى أنَّ تَفْوِيضَ الأمْرِ إلى الأفْضَلِ أوْلى. والثّانِي: كَراهَةَ مُجادَلَةِ السُّفَهاءِ وفِيهِ أنَّ السُّكُوتَ عَنِ السَّفِيهِ واجِبٌ، ومِن أذَلِّ النّاسَ سَفِيهٌ لَمْ يَجِدْ مُسافِهًا. المَسْألَةُ التّاسِعَةُ: اخْتَلَفُوا في أنَّها هَلْ قالَتْ مَعَهم: ﴿إنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا﴾ فَقالَ قَوْمٌ: إنَّها ما تَكَلَّمَتْ مَعَهم بِذَلِكَ؛ لِأنَّها كانَتْ مَأْمُورَةً بِأنْ تَأْتِيَ بِهَذا النَّذْرِ عِنْدَ رُؤْيَتِها فَإذا أتَتْ بِهَذا النَّذْرِ فَلَوْ تَكَلَّمَتْ مَعَهم بَعْدَ ذَلِكَ لَوَقَعَتْ في المُناقَضَةِ، ولَكِنَّها أمْسَكَتْ وأوْمَأتْ بِرَأْسِها، وقالَ آخَرُونَ: إنَّها ما نَذَرَتْ في الحالِ بَلْ صَبَرَتْ حَتّى أتاها القَوْمُ فَذَكَرَتْ لَهم: ﴿إنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ اليَوْمَ إنْسِيًّا﴾ وهَذِهِ الصِّيغَةُ وإنْ (p-١٧٧)كانَتْ عامَّةً إلّا أنَّها صارَتْ بِالقَرِينَةِ مَخْصُوصَةً في حَقِّ هَذا الكَلامِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب