الباحث القرآني
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿واذْكُرْ رَبَّكَ إذا نَسِيتَ﴾ .
فِي هَذِهِ الآيَةِ الكَرِيمَةِ قَوْلانِ مَعْرُوفانِ لِعُلَماءِ التَّفْسِيرِ:
الأوَّلُ: أنَّ هَذِهِ الآيَةَ الكَرِيمَةَ مُتَعَلِّقَةٌ بِما قَبْلَها، والمَعْنى: أنَّكَ إنْ قُلْتَ سَأفْعَلُ غَدًا كَذا ونَسِيتَ أنْ تَقُولَ إنْ شاءَ اللَّهُ، ثُمَّ تَذَكَّرْتَ بَعْدَ ذَلِكَ فَقُلْ إنْ شاءَ اللَّهُ؛ أيِ: اذْكُرْ رَبَّكَ مُعَلِّقًا عَلى مَشِيئَتِهِ ما تَقُولُ أنَّكَ سَتَفْعَلُهُ غَدًا إذا تَذَكَّرْتَ بَعْدَ النِّسْيانِ، وهَذا القَوْلُ هو الظّاهِرُ؛ لِأنَّهُ يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعالى قَبْلَهُ: ﴿وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إنِّي فاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا إلّا أنْ يَشاءَ اللَّهُ﴾ [الكهف: ٢٣، ٢٤]، وهو قَوْلُ الجُمْهُورِ. ومِمَّنْ قالَ بِهِ ابْنُ عَبّاسٍ والحَسَنُ البَصْرِيُّ وأبُو العالِيَةِ وغَيْرُهم.
القَوْلُ الثّانِي: أنَّ الآيَةَ لا تَعَلُّقَ لَها بِما قَبْلَها، أنَّ المَعْنى: إذا وقَعَ مِنكَ النِّسْيانُ لِشَيْءٍ فاذْكُرِ اللَّهَ؛ لِأنَّ النِّسْيانَ مِنَ الشَّيْطانِ، كَما قالَ تَعالى عَنْ فَتى مُوسى: ﴿وَما أنْسانِيهُ إلّا الشَّيْطانُ أنْ أذْكُرَهُ﴾ [الكهف: ٦٣]، وكَقَوْلِهِ: ﴿اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ فَأنْساهم ذِكْرَ اللَّهِ﴾ [المجادلة: ١٩]، وقالَ تَعالى: ﴿وَإمّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى مَعَ القَوْمِ الظّالِمِينَ﴾ [الأنعام: ٦٨]، وذِكْرُ اللَّهِ تَعالى يَطْرُدُ الشَّيْطانَ، كَما يَدُلُّ لِذَلِكَ قَوْلُهُ تَعالى: (p-٢٥٥)﴿وَمَن يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطانًا فَهو لَهُ قَرِينٌ﴾ [الزخرف: ٣٦]، وقَوْلُـهُ تَعالى: ﴿قُلْ أعُوذُ بِرَبِّ النّاسِ مَلِكِ النّاسِ إلَهِ النّاسِ مِن شَرِّ الوَسْواسِ الخَنّاسِ﴾ الآيَةَ [الناس: ١ - ٤]؛ أيِ: الوَسْواسِ عِنْدَ الغَفْلَةِ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ، الخَنّاسِ: الَّذِي يَخْنِسُ ويَتَأخَّرُ صاغِرًا عِنْدَ ذِكْرِ اللَّهِ، فَإذا ذَهَبَ الشَّيْطانُ النِّسْيانَ. وقالَ بَعْضُهم: ﴿واذْكُرْ رَبَّكَ إذا نَسِيتَ﴾ [الكهف: ٢٤]، أيْ: صَلِّ الصَّلاةَ الَّتِي كُنْتَ ناسِيًا لَها عِنْدَ ذِكْرِكَ لَها، كَما قالَ تَعالى: ﴿وَأقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي﴾ [طه: ١٤]، وقَوْلُ مَن قالَ ﴿إذا نَسِيتَ﴾، أيْ: إذا غَضِبْتَ - ظاهِرُ السُّقُوطِ.
* * *
* مَسْألَةٌ
اشْتُهِرَ عَلى ألْسِنَةِ العُلَماءِ عَنِ ابْنِ عَبّاسِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما أنَّهُ اسْتَنْبَطَ مِن هَذِهِ الآيَةِ الكَرِيمَةِ: أنَّ الِاسْتِثْناءَ يَصِحُّ تَأْخِيرُهُ عَنِ المُسْتَثْنى مِنهُ زَمَنًا طَوِيلًا، قالَ بَعْضُهم: إلى شَهْرٍ، وقالَ بَعْضُهم: إلى سَنَةٍ، وقالَ بَعْضُهم عَنْهُ: لَهُ الِاسْتِثْناءُ أبَدًا. ووَجَّهَ أخْذَهُ ذَلِكَ مِنَ الآيَةِ: أنَّ اللَّهَ تَعالى نَهى نَبِيَّهُ أنْ يَقُولَ: إنَّهُ سَيَفْعَلُ شَيْئًا في المُسْتَقْبَلِ إلّا مِنَ الِاسْتِثْناءِ بِإنْ شاءَ اللَّهُ، ثُمَّ قالَ: ﴿واذْكُرْ رَبَّكَ إذا نَسِيتَ﴾؛ أيْ: إنْ نَسِيتَ تَسْتَثْنِي بِإنْ شاءَ اللَّهُ فاسْتَثْنِ إذا تَذَكَّرْتَ مِن غَيْرِ تَقْيِيدٍ بِاتِّصالٍ ولا قُرْبٍ.
والتَّحْقِيقُ الَّذِي لا شَكَّ فِيهِ أنَّ الِاسْتِثْناءَ لا يَصِحُّ إلّا مُقْتَرِنًا بِالمُسْتَثْنى مِنهُ، وأنَّ الِاسْتِثْناءَ المُتَأخِّرَ لا أثَرَ لَهُ ولا تُحَلُّ بِهِ اليَمِينُ، ولَوْ كانَ الِاسْتِثْناءُ المُتَأخِّرُ يَصِحُّ لَما عُلِمَ في الدُّنْيا أنَّهُ تَقَرَّرَ عَقْدٌ ولا يَمِينٌ ولا غَيْرُ ذَلِكَ، لِاحْتِمالِ طُرُوِّ الِاسْتِثْناءِ بَعْدَ ذَلِكَ، وهَذا في غايَةِ البُطْلانِ كَما تَرى. ويُحْكى عَنِ المَنصُورِ أنَّهُ بَلَغَهُ أنَّ أبا حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ يُخالِفُ مَذْهَبَ ابْنِ عَبّاسٍ المَذْكُورَ؛ فاسْتَحْضَرَهُ لِيُنْكِرَ عَلَيْهِ ذَلِكَ، فَقالَ الإمامُ أبُو حَنِيفَةَ لِلْمَنصُورِ: هَذا يَرْجِعُ عَلَيْكَ ! إنَّك تَأْخُذُ البَيْعَةَ بِالأيْمانِ، أفَتَرْضى أنْ يَخْرُجُوا مِن عِنْدِكَ فَيَسْتَثْنَوْا فَيَخْرُجُوا عَلَيْكَ ! ؟ فاسْتَحْسَنَ كَلامَهُ ورَضِيَ عَنْهُ.
* * *
* فائِدَةٌ
قالَ ابْنُ العَرَبِيِّ المالِكِيِّ: سَمِعْتُ فَتاةً بِبَغْدادَ تَقُولُ لِجارَتِها: لَوْ كانَ مَذْهَبُ ابْنِ عَبّاسٍ صَحِيحًا في الِاسْتِثْناءِ ما قالَ اللَّهُ تَعالى لِأيُّوبَ: ﴿وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فاضْرِبْ بِهِ ولا تَحْنَثْ﴾ [ص: ٤٤]، بَلْ يَقُولُ اسْتَثْنِ بِإنْ شاءَ اللَّهُ انْتَهى مِنهُ بِواسِطَةِ نَقْلِ صاحِبِ نَشْرِ البُنُودِ في شَرْحٍ، وقَوْلِهِ في مَراقِي السُّعُودِ:(p-٢٥٦)
؎بِشَرِكَةٍ وبِالتَّوَطِّي قالا بَعْضٌ وأوْجَبَ فِيهِ الِاتِّصالا
؎وَفِي البَواقِي دُونَ ما اضْطِرارِ ∗∗∗ وأبْطَلَنْ بِالصَّمْتِ لِلتِّذْكارِ
فَإنْ قِيلَ: فَما الجَوابُ الصَّحِيحُ عَنِ ابْنِ عَبّاسِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما فِيما نُسِبَ إلَيْهِ مِنَ القَوْلِ بِصِحَّةِ الِاسْتِثْناءِ المُتَأخِّرِ.
فالجَوابُ أنَّ مُرادَ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما أنَّ اللَّهَ عاتَبَ نَبِيَّهُ عَلى قَوْلِهِ إنَّهُ سَيَفْعَلُ كَذا غَدًا، ولَمْ يَقُلْ إنْ شاءَ اللَّهُ، وبَيَّنَ لَهُ أنَّ التَّعْلِيقَ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ هو الَّذِي يَنْبَغِي أنْ يُفْعَلَ؛ لِأنَّهُ تَعالى لا يَقَعُ شَيْءٌ إلّا بِمَشِيئَتِهِ، فَإذا نَسِيَ التَّعْلِيقَ بِالمَشِيئَةِ ثُمَّ تَذَكَّرَ ولَوْ بَعْدَ طُولٍ فَإنَّهُ يَقُولُ إنْ شاءَ اللَّهُ، لِيَخْرُجَ بِذَلِكَ مِن عُهْدَةِ عَدَمِ التَّعْلِيقِ بِالمَشِيئَةِ، ويَكُونَ قَدْ فَوَّضَ الأمْرَ إلى مَن لا يَقَعُ إلّا بِمَشِيئَتِهِ، فَنَتِيجَةُ هَذا الِاسْتِثْناءِ: هي الخُرُوجُ مِن عُهْدَةِ تَرِكَةِ المُوجِبِ لِلْعِتابِ السّابِقِ، لا أنَّهُ يُحِلُّ اليَمِينَ لِأنَّ تَدارُكَها قَدْ فاتَ بِالِانْفِصالِ، هَذا هو مُرادُ ابْنِ عَبّاسٍ كَما جَزَمَ بِهِ الطَّبَرِيُّ وغَيْرُهُ، وهَذا لا مَحْذُورَ فِيهِ ولا إشْكالَ.
وَأجابَ بَعْضُ أهْلِ العِلْمِ بِجَوابٍ آخَرَ وهو: أنَّهُ نَوى الِاسْتِثْناءَ بِقَلْبِهِ ونَسِيَ النُّطْقَ بِهِ بِلِسانِهِ، فَأظْهَرَ بَعْدَ ذَلِكَ الِاسْتِثْناءِ الَّذِي نَواهُ وقْتَ اليَمِينِ، هَكَذا قالَهُ بَعْضُهم، والأوَّلُ هو الظّاهِرُ، والعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعالى.
{"ayah":"إِلَّاۤ أَن یَشَاۤءَ ٱللَّهُۚ وَٱذۡكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِیتَ وَقُلۡ عَسَىٰۤ أَن یَهۡدِیَنِ رَبِّی لِأَقۡرَبَ مِنۡ هَـٰذَا رَشَدࣰا"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق