الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ﴾ أَيْ قَارَبْنَ انْقِضَاءَ الْعِدَّةِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ [[راجع ج ٣ ص ١٥٥ وص (١١٨)]] [البقرة: ٢٣١] أَيْ قَرُبْنَ مِنَ انْقِضَاءِ الْأَجَلِ. (فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ) يَعْنِي الْمُرَاجَعَةَ بِالْمَعْرُوفِ، أَيْ بِالرَّغْبَةِ مِنْ غَيْرِ قَصْدِ الْمُضَارَّةِ فِي الرَّجْعَةِ تَطْوِيلًا لِعِدَّتِهَا. كَمَا تَقَدَّمَ فِي "الْبَقَرَةِ" [[راجع ج ٣ ص ١٥٥ وص (١١٨)]]. (أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ) أَيِ اتْرُكُوهُنَّ حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُهُنَّ فَيَمْلِكْنَ أَنْفُسَهُنَّ. وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ مَا يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمَرْأَةِ فِي انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ إِذَا ادَّعَتْ ذَلِكَ، عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ فِي سُورَةِ "الْبَقَرَةِ" عِنْدَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحامِهِنَّ [البقرة: ٢٢٨] الْآيَةَ [[راجع ج ٣ ص ١٥٥ وص (١١٨)]]. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ﴾ فِيهِ سِتُّ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَشْهِدُوا أَمْرٌ بِالْإِشْهَادِ [[في أ: "أمر بإملاء الاشهاد ... ".]] عَلَى الطَّلَاقِ. وَقِيلَ: عَلَى الرَّجْعَةِ. وَالظَّاهِرُ رُجُوعُهُ إِلَى الرَّجْعَةِ لَا إِلَى الطَّلَاقِ. فَإِنْ رَاجَعَ مِنْ غَيْرِ إِشْهَادٍ فَفِي صِحَّةِ الرَّجْعَةِ قَوْلَانِ لِلْفُقَهَاءِ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى وَأَشْهِدُوا عِنْدَ الرَّجْعَةِ وَالْفُرْقَةِ جَمِيعًا. وَهَذَا الْإِشْهَادُ مَنْدُوبٌ إِلَيْهِ عند أَبِي حَنِيفَةَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ [[راجع ج ٣ ص ٣٧٧.]] [البقرة: ٢٨٢]. وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَاجِبٌ فِي الرَّجْعَةِ، مَنْدُوبٌ إِلَيْهِ فِي الْفُرْقَةِ. وَفَائِدَةُ الْإِشْهَادِ أَلَّا يَقَعَ بَيْنَهُمَا التَّجَاحُدُ، وَأَلَّا يُتَّهَمَ فِي إِمْسَاكِهَا، وَلِئَلَّا يَمُوتَ أَحَدُهُمَا فَيَدَّعِي الْبَاقِي ثُبُوتَ الزَّوْجِيَّةِ [[في ح، س "نبوت الرجعية".]] لِيَرِثَ. الثَّانِيَةُ- الْإِشْهَادُ عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ عَلَى الرَّجْعَةِ نَدْبٌ. وَإِذَا جَامَعَ أَوْ قَبَّلَ أَوْ بَاشَرَ يُرِيدُ بِذَلِكَ الرَّجْعَةَ، وَتَكَلَّمَ بِالرَّجْعَةِ يُرِيدُ بِهِ الرَّجْعَةَ فَهُوَ مُرَاجِعٌ عِنْدَ مَالِكٍ، وَإِنْ لَمْ يُرِدْ بِذَلِكَ الرَّجْعَةَ فَلَيْسَ بِمُرَاجِعٍ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ: إِذَا قَبَّلَ أَوْ بَاشَرَ أَوْ لَامَسَ بِشَهْوَةٍ فَهُوَ رَجْعَةٌ. وَقَالُوا: وَالنَّظَرُ إِلَى الْفَرْجِ رَجْعَةٌ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو ثَوْرٍ: إِذَا تَكَلَّمَ بِالرَّجْعَةِ فَهُوَ رَجْعَةٌ. وَقَدْ قِيلَ: وَطْؤُهُ مُرَاجَعَةٌ عَلَى كُلِّ حَالٍ، نَوَاهَا أَوْ لَمْ يَنْوِهَا. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ. وَإِلَيْهِ ذهب الليث. وكان ما لك يَقُولُ: إِذَا وَطِئَ وَلَمْ يَنْوِ الرَّجْعَةَ فَهُوَ وطئ فَاسِدٌ، وَلَا يَعُودُ لِوَطْئِهَا حَتَّى يَسْتَبْرِئَهَا مِنْ مَائِهِ الْفَاسِدِ، وَلَهُ الرَّجْعَةُ فِي بَقِيَّةِ الْعِدَّةِ الْأُولَى، وَلَيْسَ لَهُ رَجْعَةٌ فِي هَذَا الِاسْتِبْرَاءِ. الثَّالِثَةُ- أَوْجَبَ الْإِشْهَادَ فِي الرَّجْعَةِ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ، وَالشَّافِعِيُّ كَذَلِكَ لِظَاهِرِ الْأَمْرِ. وَقَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَحْمَدُ وَالشَّافِعِيُّ فِي الْقَوْلِ الْآخَرِ: إِنَّ الرَّجْعَةَ لَا تَفْتَقِرُ إِلَى الْقَبُولِ، فَلَمْ تَفْتَقِرْ إِلَى الْإِشْهَادِ كَسَائِرِ الْحُقُوقِ، وَخُصُوصًا حِلُّ الظِّهَارِ بِالْكَفَّارَةِ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَرَكَّبَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ عَلَى وُجُوبِ الْإِشْهَادِ فِي الرَّجْعَةِ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ أَنْ يَقُولَ: كُنْتُ رَاجَعْتُ أَمْسَ وَأَنَا أَشْهَدُ الْيَوْمَ عَلَى الْإِقْرَارِ بِالرَّجْعَةِ، وَمِنْ شَرْطِ الرَّجْعَةِ الْإِشْهَادُ فَلَا تَصِحُّ دُونَهُ. وَهَذَا فَاسِدٌ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ الْإِشْهَادَ فِي الرَّجْعَةِ تَعَبُّدٌ. وَنَحْنُ لَا نُسَلِّمُ فِيهَا وَلَا فِي النِّكَاحِ بِأَنْ نَقُولَ: إِنَّهُ مَوْضِعٌ لِلتَّوَثُّقِ، وَذَلِكَ مَوْجُودٌ فِي الْإِقْرَارِ كَمَا هُوَ مَوْجُودٌ فِي الْإِنْشَاءِ. الرَّابِعَةُ: مَنِ ادَّعَى بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ أَنَّهُ رَاجَعَ امْرَأَتَهُ فِي الْعِدَّةِ، فَإِنْ صَدَّقَتْهُ جَازَ وَإِنْ أَنْكَرَتْ حَلَفَتْ، فَإِنْ أَقَامَ بَيِّنَةً أَنَّهُ ارْتَجَعَهَا فِي الْعِدَّةِ وَلَمْ تَعْلَمْ بِذَلِكَ لَمْ يَضُرَّهُ جَهْلُهَا بِذَلِكَ، وَكَانَتْ زَوْجَتَهُ، وَإِنْ كَانَتْ قَدْ تَزَوَّجَتْ وَلَمْ يَدْخُلْ بِهَا ثُمَّ أَقَامَ الْأَوَّلُ الْبَيِّنَةَ عَلَى رَجْعَتِهَا فَعَنْ مَالِكٍ فِي ذَلِكَ رِوَايَتَانِ: إِحْدَاهُمَا- أَنَّ الْأَوَّلَ أَحَقُّ بِهَا. وَالْأُخْرَى- أَنَّ الثَّانِي أَحَقُّ بِهَا. فَإِنْ كَانَ الثَّانِي قَدْ دَخَلَ بِهَا فَلَا سَبِيلَ لِلْأَوَّلِ إِلَيْهَا. الْخَامِسَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ قَالَ الْحَسَنُ: مِنَ الْمُسْلِمِينَ. وَعَنْ قَتَادَةَ: مِنْ أَحْرَارِكُمْ. وَذَلِكَ يُوجِبُ اخْتِصَاصَ الشَّهَادَةِ عَلَى الرَّجْعَةِ بِالذُّكُورِ دُونَ الْإِنَاثِ، لِأَنَّ ذَوَيْ مُذَكَّرٌ. وَلِذَلِكَ قَالَ عُلَمَاؤُنَا: لَا مَدْخَلَ لِلنِّسَاءِ فِيمَا عَدَا الْأَمْوَالِ. وَقَدْ مَضَى ذَلِكَ فِي سُورَةِ "الْبَقَرَةِ" [[راجع ج ٣ ص (٣٩٤)]]. السَّادِسَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَأَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلَّهِ﴾ أَيْ تَقَرُّبًا إِلَى اللَّهِ فِي إِقَامَةِ الشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا، إِذَا مَسَّتِ الْحَاجَةُ إِلَيْهَا مِنْ غَيْرِ تَبْدِيلٍ وَلَا تَغْيِيرٍ. وَقَدْ مَضَى فِي سُورَةِ" الْبَقَرَةِ مَعْنَاهُ عِنْدَ قوله تعالى: وَأَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ [[راجع ج ٣ ص ٤٠١]] [البقرة: ٢٨٢]. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ذلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ﴾ أَيْ يَرْضَى بِهِ. (مَنْ كانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) فَأَمَّا غَيْرُ الْمُؤْمِنِ فَلَا يَنْتَفِعُ بِهَذِهِ الْمَوَاعِظِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً﴾ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ سُئِلَ عَمَّنْ طَلَّقَ ثَلَاثًا أَوْ أَلْفًا هَلْ لَهُ مِنْ مَخْرَجٍ؟ فَتَلَاهَا. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالشَّعْبِيُّ وَالضَّحَّاكُ: هَذَا فِي الطَّلَاقِ خَاصَّةً، أَيْ مَنْ طَلَّقَ كَمَا أَمَرَهُ اللَّهُ يَكُنْ لَهُ مَخْرَجٌ فِي الرَّجْعَةِ فِي الْعِدَّةِ، وَأَنْ يَكُونَ كَأَحَدِ الْخُطَّابِ بَعْدَ الْعِدَّةِ وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً يُنْجِيهِ مِنْ كُلِّ كَرْبٍ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَقِيلَ: الْمَخْرَجُ هُوَ أَنْ يُقَنِّعَهُ اللَّهُ بِمَا رَزَقَهُ، قَالَهُ عَلِيُّ بْنُ صَالِحٍ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ بِالصَّبْرِ عِنْدَ الْمُصِيبَةِ. يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً مِنَ النَّارِ إِلَى الْجَنَّةِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: مَخْرَجًا مِمَّا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ. وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: مخرجا من كل شدة. الربيع ابن خيثم: يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً من كل شي ضَاقَ عَلَى النَّاسِ. الْحُسَيْنُ بْنُ الْفَضْلِ: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ فِي أَدَاءِ الْفَرَائِضِ، يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً من العقوبة. (وَيَرْزُقْهُ) الثواب (مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ) أَيْ يُبَارِكْ لَهُ فِيمَا آتَاهُ. وَقَالَ سَهْلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ فِي اتِّبَاعِ السُّنَّةِ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً مِنْ عُقُوبَةِ أَهْلِ الْبِدَعِ، وَيَرْزُقُهُ الْجَنَّةَ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ. وَقِيلَ: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ فِي الرِّزْقِ بِقَطْعِ الْعَلَائِقِ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا بِالْكِفَايَةِ. وَقَالَ عُمَرُ بْنُ عُثْمَانَ الصَّدَفِيُّ: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ فَيَقِفُ عِنْدَ حُدُودِهِ وَيَجْتَنِبُ مَعَاصِيَهُ يُخْرِجْهُ مِنَ الْحَرَامِ إِلَى الْحَلَالِ، وَمِنَ الضِّيقِ إِلَى السَّعَةِ، وَمِنَ النَّارِ إِلَى الْجَنَّةِ. وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ مِنْ حَيْثُ لَا يَرْجُو. وَقَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ: هُوَ الْبَرَكَةُ فِي الرِّزْقِ. وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ: وَمَنْ يَبْرَأْ مِنْ حَوْلِهِ وَقُوَّتِهِ بِالرُّجُوعِ إِلَى اللَّهِ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا مِمَّا كَلَّفَهُ بِالْمَعُونَةِ لَهُ. وَتَأَوَّلَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَمَسْرُوقٌ الْآيَةَ عَلَى الْعُمُومِ. وَقَالَ أَبُو ذَرٍّ: قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: (إِنِّي لَأَعْلَمُ آيَةً لَوْ أَخَذَ بِهَا النَّاسُ لَكَفَتْهُمْ- ثُمَّ تَلَا- وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً. وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ). فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا وَيُعِيدُهَا. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: قَرَأَ النَّبِيُّ ﷺ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً. وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ قَالَ: (مَخْرَجًا مِنْ شُبُهَاتِ الدُّنْيَا وَمِنْ غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَمِنْ شَدَائِدِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ). وَقَالَ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ فِيمَا ذَكَرَ الثَّعْلَبِيُّ: إِنَّهَا نَزَلَتْ فِي عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ الْأَشْجَعِيِّ. رَوَى الْكَلْبِيُّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: جَاءَ عَوْفُ بْنُ مَالِكٍ الْأَشْجَعِيُّ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ ابْنِي أَسَرَهُ الْعَدُوُّ وَجَزِعَتِ الْأُمُّ. وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ: نَزَلَتْ فِي عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ الْأَشْجَعِيِّ أَسَرَ الْمُشْرِكُونَ ابْنًا لَهُ يُسَمَّى سَالِمًا، فَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ ﷺ وَشَكَا إِلَيْهِ الْفَاقَةَ وَقَالَ: إِنَّ الْعَدُوَّ أَسَرَ ابْنِي وَجَزِعَتِ الْأُمُّ، فَمَا تَأْمُرُنِي؟ فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامَ: (اتَّقِ اللَّهَ وَاصْبِرْ وَآمُرُكَ وَإِيَّاهَا أَنْ تَسْتَكْثِرَا مِنْ قَوْلِ لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ). فَعَادَ إِلَى بَيْتِهِ وَقَالَ لا مرأته: أن رسول الله ﷺ أَمَرَنِي وَإِيَّاكِ أَنْ نَسْتَكْثِرَ مِنْ قَوْلِ لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ. فَقَالَتْ: نِعْمَ مَا أَمَرَنَا بِهِ. فَجَعَلَا يَقُولَانِ، فَغَفَلَ الْعَدُوُّ عَنِ ابْنِهِ، فَسَاقَ غَنَمَهُمْ وَجَاءَ بِهَا إِلَى أَبِيهِ، وَهِيَ أَرْبَعَةُ آلَافِ شَاةٍ. فَنَزَلَتِ الْآيَةُ، وَجَعَلَ النَّبِيُّ ﷺ تِلْكَ الْأَغْنَامَ لَهُ. فِي رِوَايَةٍ: أَنَّهُ جَاءَ وَقَدْ أَصَابَ إِبِلًا مِنَ الْعَدُوِّ وَكَانَ فَقِيرًا. قَالَ الْكَلْبِيُّ: أَصَابَ خَمْسِينَ بَعِيرًا. وَفِي رِوَايَةٍ: فَأَفْلَتَ ابْنُهُ مِنَ الْأَسْرِ وَرَكِبَ نَاقَةً لِلْقَوْمِ، وَمَرَّ فِي طَرِيقِهِ بِسَرْحٍ لَهُمْ فَاسْتَاقَهُ وَقَالَ مُقَاتِلٌ: أَصَابَ غَنَمًا وَمَتَاعًا فَسَأَلَ النَّبِيَّ ﷺ: أَيَحِلُّ لِي أَنْ آكُلَ مِمَّا أَتَى بِهِ ابْنِي؟ قَالَ: (نَعَمْ). وَنَزَلَتْ: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً. وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ. فَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ الْحُصَيْنِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: (مَنِ انْقَطَعَ إِلَى اللَّهِ كَفَاهُ اللَّهُ كُلَّ مَئُونَةٍ وَرَزَقَهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ. وَمَنِ انْقَطَعَ إِلَى الدُّنْيَا وَكَلَهُ اللَّهُ إِلَيْهَا (. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: أَيْ إِذَا اتَّقَى وَآثَرَ الْحَلَالَ وَالتَّصَبُّرَ عَلَى أَهْلِهِ، فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ ذَا ضِيقَةٍ وَرَزَقَهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قال: (من أَكْثَرَ الِاسْتِغْفَارَ جَعَلَ اللَّهُ لَهُ مِنْ كُلٍّ هَمٍّ فَرَجًا وَمِنْ كُلِّ ضِيقٍ مَخْرَجًا وَرَزَقَهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ). قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ﴾ أَيْ مَنْ فَوَّضَ إِلَيْهِ أَمْرَهُ كَفَاهُ مَا أَهَمَّهُ. وَقِيلَ: أَيْ مَنِ اتَّقَى اللَّهَ وَجَانَبَ الْمَعَاصِي وَتَوَكَّلَ عَلَيْهِ، فَلَهُ فِيمَا يُعْطِيهِ فِي الْآخِرَةِ مِنْ ثَوَابِهِ كِفَايَةٌ. وَلَمْ يُرِدِ الدُّنْيَا، لِأَنَّ الْمُتَوَكِّلَ قَدْ يُصَابُ فِي الدُّنْيَا وَقَدْ يُقْتَلُ. (إِنَّ اللَّهَ بالِغُ أَمْرِهِ) قَالَ مَسْرُوقٌ: [[ما بين المربعين ساقط من ح، س.]] أَيْ قَاضٍ [[في الأصول: "يعنى قاض"]] أَمْرَهُ فِيمَنْ تَوَكَّلَ عَلَيْهِ وَفِيمَنْ لَمْ يَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ، إِلَّا أَنَّ مَنْ تَوَكَّلَ عَلَيْهِ فَيُكَفِّرَ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا. وَقِرَاءَةُ الْعَامَّةِ "بَالِغٌ" مُنَوَّنًا. "أَمْرَهُ" نَصْبًا. وَقَرَأَ عَاصِمٌ "بَالِغُ أَمْرِهِ" بِالْإِضَافَةِ وَحَذْفِ التَّنْوِينِ اسْتِخْفَافًا وَقَرَأَ الْمُفَضَّلُ "بَالِغًا أَمْرُهُ" عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ: قَدْ جَعَلَ اللَّهُ خَبَرُ إِنَّ وَ "بَالِغًا" حَالَ. وَقَرَأَ دَاوُدُ بْنُ أَبِي هِنْدٍ "بَالِغٌ أَمْرُهُ" بِالتَّنْوِينِ وَرَفْعِ الرَّاءِ. قَالَ الْفَرَّاءُ: أَيْ أَمْرُهُ بَالِغٌ. وَقِيلَ: "أَمْرُهُ" مُرْتَفِعٌ "بِ" بَالِغٌ" وَالْمَفْعُولُ مَحْذُوفٌ، وَالتَّقْدِيرُ: بَالِغُ أَمْرِهِ مَا أَرَادَ. (قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً) أي لكل شي مِنَ الشِّدَّةِ وَالرَّخَاءِ أَجَلًا يَنْتَهِي إِلَيْهِ. وَقِيلَ تَقْدِيرًا. وَقَالَ السُّدِّيُّ: هُوَ قَدْرُ الْحَيْضِ فِي الْأَجَلِ وَالْعِدَّةِ. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَافِعٍ: لَمَّا نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ قَالَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ ﷺ: فَنَحْنُ إِذَا تَوَكَّلْنَا عَلَيْهِ نُرْسِلُ مَا كَانَ لَنَا وَلَا نَحْفَظُهُ، فَنَزَلَتْ: إِنَّ اللَّهَ بالِغُ أَمْرِهِ فِيكُمْ وَعَلَيْكُمْ. وَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ خَيْثَمٍ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَضَى عَلَى نَفْسِهِ أَنَّ مَنْ تَوَكَّلَ عَلَيْهِ كَفَاهُ وَمَنْ آمَنَ بِهِ هَدَاهُ، وَمَنْ أَقْرَضَهُ جَازَاهُ، وَمَنْ وَثِقَ بِهِ نَجَّاهُ، وَمَنْ دَعَاهُ أَجَابَ لَهُ. وَتَصْدِيقُ ذَلِكَ فِي كِتَابِ اللَّهِ: وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ [[راجع ص ١٣٩ وص ١٦١، ١٤٦ من هذا الجزء.]] قَلْبَهُ [التَّغَابُنِ: ١١]. وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ [[راجع ص ١٣٩ وص ١٦١، ١٤٦ من هذا الجزء.]] فَهُوَ حَسْبُهُ [الطلاق: ٣]. إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعِفْهُ لَكُمْ [[راجع ص ١٣٩ وص ١٦١، ١٤٦ من هذا الجزء.]] [التغابن: ١٧]. وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ» [آل عمران: ١٠١]. وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ [[راجع ج ٢ ص ٤ (٣٠٨) ج ٣ ص ١١٢]] [البقرة: ١٨٦].
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب