الباحث القرآني

ثم قال عز وجل: ﴿بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ﴾ [الأنعام ٢٨] ﴿بَلْ﴾ إضراب لإبطال ما سبق من قولهم: ﴿يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ أي: بل لن يؤمنوا ولو ردوا. ﴿بَدَا لَهُمْ﴾ أي: ظهر لهم. ﴿مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ﴾ فما الذي يخفونه من قبل؟ هل هو تصديق الرسل بما جاؤوا به، ولكن يجحدون، أو ما كانوا يخفون من قبل من الكفر الذي كانوا يكتمونه؟ فعلى الأول يكون السياق في الكافرين، وعلى الثاني يكون السياق في المنافقين. ﴿بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ﴾ ما الذي أخفوه؟ تصديق الرسل، ولكن جحدوا، والجحد: هو إنكار ما كان معلومًا، أو ﴿بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ﴾ من الكفر؛ حيث إنهم يُظهرون الإيمان ويبطنون الكفر، فعلى الأول تكون الآية في مَن؟ في الكافرين، وعلى الثاني في المنافقين، فهل يمكن أن نقول: إن الآية شاملة للمعنيين؟ الجواب: نعم؛ لأنه لا منافاة، لكن يشكل على كونها في المنافقين أن السورة مكية؛ لأن سورة الأنعام مكية نزلت في مكة جملةً واحدة، فكيف يكون فيها إشارة للمنافقين؟ والجواب عن هذا الإشكال: أن لا إشكال؛ لأن الله سبحانه وتعالى أخبر عما يكون يوم القيامة، ويوم القيامة قد حصل النفاق، أليس كذلك؟ وأيضًا يذكر الله المنافقين في السور المكية تحسبًا لما يقع واستعدادًا لهم، قال الله عز وجل في سورة العنكبوت: ﴿وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ﴾ [العنكبوت ١١]، وهي مكية، وعليه فلا إشكال، وتكون الآية شاملة للمعنيين، والقرآن الكريم عظيم تأتي فيه الآيات والجمل والكلمات تحتمل معاني متعددة، ولكن القرآن لعظمته يتسع لكل هذه المعاني ما لم يكن بعضها منافيًا لبعض، فإن كان بعضها منافيًا لبعض طُلب الترجيح. قال الله عز وجل: ﴿بَلْ بَدَا لَهُمْ﴾ أي: ظهر لهم: ﴿مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ﴾. ﴿وَلَوْ رُدُّوا﴾ يعني إلى الدنيا ﴿لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ﴾ إذن قولهم حقيقة أو كذب؟ ولهذا قال: ﴿وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ﴾ ﴿وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ﴾ أي: من تكذيب الرسل ومن النفاق، ﴿وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ﴾ في قولهم: ﴿يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا﴾. * ففي الآية الكريمة: أنه تظهر الحقائق يوم القيامة وتبين، واقرأ قول الله عز وجل في سورة (يس) حيث قال آخر السورة، قال الله عز وجل في آخر السورة عند ذكر نفخ الصور: ﴿يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا﴾ فيقولون: ﴿هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ﴾ أو يقال لهم: ﴿هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ﴾ [يس ٥٢] فيتبين الأمر جليًّا في ذلك الوقت، ولكنه لا ينفع من لم يؤمن به في حياته. * ومن فوائد هذه الآية الكريمة: تعلُّق علم الله بالمستحيل؛ لقوله: ﴿وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ﴾. فإذا قال قائل: هذا ليس بمستحيل؛ لأن الله قادر أن يعيدهم إلى الدنيا. فيقال: إنه مستحيل حسب وعد الله عز وجل، فإن الله قد قضى أن الناس لا يرجعون إلى الدنيا، ولهذا إذا تمنى الشهداء الذين قتلوا في سبيل الله؛ تمنوا أن يرجعوا إلى الدنيا فيقتلوا مرة ثانية كما فعل عبد الله بن حرام «حين قال له الله عز وجل: تمنّ، قال: أتمنى أن أعود إلى الدنيا فأقتل فيك مرة أخرى، قال: إني قضيتُ أنهم إليها لا يُرجعون»[[أخرجه الترمذي (٣٠١٠)، وابن ماجه (١٩٠) من حديث جابر بن عبد الله.]]. هذا قضاء كوني قدري، فيكون مستحيلًا حسب قدرة الله أو حسب وعد الله؟ * طلبة: حسب وعد الله. * الشيخ: حسب وعد الله، كالظلم بالنسبة لله عز وجل مستحيل حسب وعد الله عز وجل، لكنه قادر على أن يظلم، هناك شيء مستحيل لذاته وشيء مستحيل لغيره، إذن قوله: ﴿وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ﴾ فيها دليل على تعلُّق علم الله تعالى بالمستحيل. فإذا قال إنسان: وهل يمكن أن يستحيل الشيء لذاته ويعلمه الله عز وجل؟ فالجواب: نعم، اسمع إلى قول الله تعالى: ﴿لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا﴾ [الأنبياء ٢٢]، وهذا مستحيل عقلًا لا يمكن، ومع ذلك علم الله عز وجل أنه لو كان في السماوات والأرض آلهة سوى الله لفسدتا، إذن عِلم الله متعلّق بالمستحيل، ومتعلق بالممكن مثل: ﴿عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ﴾ [البقرة ١٨٧]، ومتعلِّق بالواجب، مثل علم الله تبارك وتعالى بما له من الصفات الكاملة، ولهذا نقول: أوسع الصفات في صفات الله عز وجل هو العلم. * ومن فوائد هذه الآية الكريمة: أن الكافرين لا يستنزهون من الكذب حتى في الآخرة، وكذلك المنافقون؛ لأن الله تعالى كذبهم وقال: ﴿وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ﴾. * ومن فوائد هذه الآية الكريمة: تأكيد الشيء إذا دعت الحاجة إليه؛ إما لأهميته وإما لكون المخاطب مترددًا فيه، أو لغير ذلك من الأسباب، المهم أن من الفصاحة والبلاغة أن يُؤكّد الخبر إذا دعت الحاجة إلى تأكيده، التأكيد في الآية في أي جملة؟ ﴿وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ﴾ فهنا مؤكد بـ(إن) و(اللام).
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب