الباحث القرآني

القَوْلُ في تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعالى: [٢٨] ﴿بَلْ بَدا لَهم ما كانُوا يُخْفُونَ مِن قَبْلُ ولَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وإنَّهم لَكاذِبُونَ﴾ ﴿بَلْ بَدا لَهم ما كانُوا يُخْفُونَ مِن قَبْلُ﴾ إضْرابٌ عَمّا يَدُلُّ عَلَيْهِ تَمَنِّيهِمُ الباطِلُ مِنَ الوَعْدِ، بِالتَّصْدِيقِ والإيمانِ، أيْ: لَيْسَ ذَلِكَ عَنْ عَزْمٍ صَحِيحٍ، وخُلُوصِ اعْتِقادٍ، بَلْ هو بِسَبَبٍ آخَرَ، وهو أنَّهُ ظَهَرَ لَهم ما كانُوا يَكْتُمُونَ في أنْفُسِهِمْ مِنَ الكُفْرِ والشِّرْكِ، بِقَوْلِهِمْ: واللَّهِ رَبِّنا ما كُنّا مُشْرِكِينَ، وعَرَفُوا أنَّهم هالِكُونَ بِشِرْكِهِمْ، فَتَمَنَّوْا لِذَلِكَ. (p-٢٢٨٠)أوْ بِشَهادَةِ جَوارِحِهِمْ عَلَيْهِمْ، أوْ ما كانُوا يَكْتُمُونَ في أنْفُسِهِمْ في الدُّنْيا مِن صِدْقِ ما جاءَ بِهِ الرَّسُولُ ﷺ، وإنْ كانُوا يُظْهِرُونَ لِأتْباعِهِمْ خِلافَهُ، كَقَوْلِهِ تَعالى مُخْبِرًا عَنْ مُوسى أنَّهُ قالَ لِفِرْعَوْنَ: ﴿قالَ لَقَدْ عَلِمْتَ ما أنْـزَلَ هَؤُلاءِ إلا رَبُّ السَّماواتِ والأرْضِ بَصائِرَ﴾ [الإسراء: ١٠٢] الآيَةَ. - وقَوْلِهِ تَعالى مُخْبِرًا عَنْ فِرْعَوْنَ وقَوْمِهِ: ﴿وجَحَدُوا بِها واسْتَيْقَنَتْها أنْفُسُهم ظُلْمًا وعُلُوًّا﴾ [النمل: ١٤] أوْ هَذِهِ الآيَةُ إخْبارٌ عَنْ حالِ المُنافِقِينَ، وأنَّهُ يَظْهَرُ نِفاقُهُمُ الَّذِي كانُوا يُسِرُّونَهُ. ولا يُنافِي هَذا كَوْنَ السُّورَةِ مَكِّيَّةً، والنِّفاقُ إنَّما كانَ مِن بَعْضِ أهْلِ المَدِينَةِ، ومَن حَوْلَها مِنَ الأعْرابِ بَعْدَ الهِجْرَةِ؛ لِأنَّ اللَّهَ تَعالى ذَكَرَ وُقُوعَ النِّفاقِ في سُورَةٍ مَكِّيَّةٍ وهي (العَنْكَبُوتُ) فَقالَ: ﴿ولَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا ولَيَعْلَمَنَّ المُنافِقِينَ﴾ [العنكبوت: ١١] هَذا ما ذَكَرُوهُ مِمّا يُمْكِنُ تَنْزِيلُ اللَّفْظِ الكَرِيمِ عَلَيْهِ لِعُمُومِهِ. وقَدْ ناقَشَ في ذَلِكَ كُلِّهِ العَلّامَةُ أبُو السُّعُودِ، واعْتَمَدَ أنَّ المُرادَ بِ (ما كانُوا يُخْفُونَهُ في الدُّنْيا) النّارُ الَّتِي وُقِفُوا عَلَيْها؛ إذْ هي الَّتِي سِيقَ الكَلامُ لِتَهْوِيلِ أمْرِها، والتَّعْجِيبِ مِن فَظاعَةِ حالِ المَوْقُوفِينَ عَلَيْها، و(بِإخْفائِها) تَكْذِيبُهم بِها، فَإنَّ التَّكْذِيبَ بِالشَّيْءِ كُفْرٌ بِهِ، وإخْفاءٌ لَهُ لا مَحالَةَ. وإيثارٌ عَلى صَرِيحِ التَّكْذِيبِ الوارِدِ في قَوْلِهِ عَزَّ وجَلَّ: ﴿هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِها المُجْرِمُونَ﴾ [الرحمن: ٤٣] وقَوْلِهِ تَعالى: ﴿هَذِهِ النّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ﴾ [الطور: ١٤] مَعَ كَوْنِهِ أنْسَبَ بِما قَبْلَهُ مِن قَوْلِهِمْ: (p-٢٢٨١)﴿ولا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا﴾ [الأنعام: ٢٧] لِمُراعاةِ ما في مُقابَلَتِهِ مِنَ البُدُوِّ. هَذا هو الَّذِي تَسْتَدْعِيهِ جَزالَةُ النَّظْمِ الكَرِيمِ. ثُمَّ قالَ في الوُجُوهِ المُتَقَدِّمَةِ: إنَّهُ بَعْدَ الإغْضاءِ عَمّا في كُلٍّ مِنها مِنَ الِاعْتِسافِ والِاخْتِلالِ، لا سَبِيلَ إلى شَيْءٍ مِن ذَلِكَ أصْلًا. لِما عَرَفْتَ مِن أنَّ سَوْقَ النَّظْمِ الشَّرِيفِ لِتَهْوِيلِ أمْرِ النّارِ، وتَفْظِيعِ حالِ أهْلِها، وقَدْ ذُكِرَ وُقُوفُهم عَلَيْها، وأُشِيرَ إلى أنَّهُ اعْتَراهم عِنْدَ ذَلِكَ مِنَ الخَوْفِ والخَشْيَةِ والحَيْرَةِ والدَّهْشَةِ ما لا يُحِيطُ بِهِ الوَصْفُ. ورَتَّبَ عَلَيْهِ تَمَنِّيَهُمُ المَذْكُورَ بِ (الفاءِ) القاضِيَةِ بِسَبَبِيَّةِ ما قَبْلَها لِما بَعْدَها، فَإسْقاطُ النّارِ بَعْدَ ذَلِكَ مِن تِلْكَ السَّبَبِيَّةِ، وهي نَفْسُها أدْهى الدَّواهِي، وأزْجَرُ الزَّواجِرِ، وإسْنادُها إلى شَيْءٍ مِنَ الأُمُورِ المَذْكُورَةِ الَّتِي دُونَها في الهَوْلِ والزَّجْرِ، مَعَ عَدَمِ جَرَيانِ ذِكْرِها، ثَمَّةَ - أمْرٌ يَجِبُ تَنْزِيهُ ساحَةِ التَّنْزِيلِ عَنْ أمْثالِهِ. وأمّا ما قِيلَ مِن أنَّ المُرادَ جَزاءُ ما كانُوا يُخْفُونَ، فَمِن قَبِيلِ دُخُولِ البُيُوتِ مِن ظُهُورِها، وأبْوابُها مَفْتُوحَةٌ. فَتَأمَّلْ. أقُولُ: لا رَيْبَ في بَلاغَةِ ما قَرَّرَهُ ونَفاسَتِهِ، لَوْلا تَكَلُّفُهُ حَمْلَ الإخْفاءِ عَلى ما ذَكَرَهُ، مِمّا هو غَيْرُ ظاهِرٍ فِيهِ، ولَيْسَ لَهُ نَظائِرُ في التَّنْزِيلِ الكَرِيمِ. فَمَجازِيَّتُهُ حِينَئِذٍ مِن قِبَلِ المُعَمّى. وفي الوُجُوهِ الأُوَلِ إبْقاؤُهُ عَلى حَقِيقَتِهِ بِلا تَكَلُّفٍ، وشُمُولُهُ لَها - غَيْرُ بَعِيدٍ؛ لِأنَّ في كُلٍّ مِنها ما يُؤَيِّدُهُ، كَما بَيَّنّاهُ. غايَةُ الأمْرِ أنَّ ما قَرَّرَهُ وجْهٌ مِنها بَدِيعٌ. وأمّا كَوْنُهُ المُرادَ لا غَيْرُ، فَدُونَهُ خَرْطُ القَتادِ - واللَّهُ أعْلَمُ بِأسْرارِ كِتابِهِ -. ﴿ولَوْ رُدُّوا﴾ أيْ: عَنْ مَوْقِفِهِمْ ذَلِكَ إلى الدُّنْيا كَما تَمَنَّوْهُ، وغابَ عَنْهم ما شاهَدُوهُ مِنَ الأهْوالِ: ﴿لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ﴾ مِنَ الكُفْرِ والشِّرْكِ: ﴿وإنَّهم لَكاذِبُونَ﴾ في وعْدِهِمْ بِالإيمانِ، أوْ دَيْدَنُهُمُ الكَذِبُ في أحْوالِهِمْ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب