الباحث القرآني

﴿بَلْ بَدا لَهم ما كانُوا يُخْفُونَ مِن قَبْلُ﴾ . (بَلْ) هُنا لِلْإضْرابِ والِانْتِقالِ مِن شَيْءٍ إلى شَيْءٍ مِن غَيْرِ إبْطالٍ لِما سَبَقَ، وهَكَذا يَجِيءُ في كِتابِ اللَّهِ تَعالى، إذا كانَ ما بَعْدَها مِن إخْبارِ اللَّهِ تَعالى، لا عَلى سَبِيلِ الحِكايَةِ عَنْ قَوْمٍ، تَكُونُ (بَلْ) فِيهِ لِلْإضْرابِ، كَقَوْلِهِ: ﴿بَلِ افْتَراهُ بَلْ هو شاعِرٌ﴾ [الأنبياء: ٥]، ومَعْنى (بَدا) ظَهَرَ. وقالَ الزَّجّاجُ: (بَلْ) هُنا اسْتِدْراكٌ وإيجابُ نَفْيٍ، كَقَوْلِهِمْ: ما قامَ زَيْدٌ، بَلْ قامَ عَمْرٌو انْتَهى. ولا أدْرِي ما النَّفْيُ الَّذِي سَبَقَ حَتّى تُوجِبَهُ (بَلْ) . وقالَ غَيْرُهُ: (بَلْ) رَدٌّ لِما تَمَنَّوْهُ؛ أيْ لَيْسَ الأمْرُ عَلى ما قالُوهُ؛ لِأنَّهم لَمْ يَقُولُوا ذَلِكَ رَغْبَةً في الإيمانِ، بَلْ قالُوهُ إشْفاقًا مِنَ العَذابِ، وطَمَعًا في الرَّحْمَةِ انْتَهى. ولا أدْرِي ما هَذا الكَلامُ. والظّاهِرُ أنَّ الضَّمِيرَ في (لَهم) عائِدٌ عَلى مَن عادَ عَلَيْهِ في وُقِفُوا. قالَ أبُو رَوْقٍ: وهم جَمِيعُ الكافِرِينَ يَجْمَعُهُمُ اللَّهُ، ويَقُولُ: (أيْنَ شُرَكاؤُكُمُ) الآيَةَ، فَيَقُولُونَ: (واللَّهِ رَبِّنا) الآيَةَ، فَتَنْطِقُ جَوارِحُهم، وتَشْهَدُ بِأنَّهم كانُوا يُشْرِكُونَ في الدُّنْيا وبِما كَتَمُوا، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: (بَلْ بَدا لَهم) فَعَلى هَذا يَكُونُ مِن قَبْلُ راجِعًا إلى الآخِرَةِ؛ أيْ مِن قَبْلِ بُدُوِّهِ في الآخِرَةِ. وقالَ قَتادَةُ: يَظْهَرُ ﴿ما كانُوا يُخْفُونَ﴾ مِن شِرْكِهِمْ. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ: هُمُ اليَهُودُ والنَّصارى، وذَلِكَ أنَّهم لَوْ سُئِلُوا في الدُّنْيا، هَلْ تُعاقَبُونَ عَلى ما أنْتُمْ عَلَيْهِ ؟ قالُوا: لا، ثُمَّ ظَهَرَ لَهم عُقُوبَةُ شِرْكِهِمْ في الآخِرَةِ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿بَلْ بَدا لَهُمْ﴾ . وقِيلَ: كُفّارُ مَكَّةَ، ظَهَرَ لَهم ما أخْفَوْهُ مِن أمْرِ البَعْثِ بِقَوْلِهِمْ: ﴿إنْ هي إلّا حَياتُنا الدُّنْيا نَمُوتُ ونَحْيا وما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ﴾ [المؤمنون: ٣٧] بَعْدَ المَوْتِ، وقِيلَ: المُنافِقُونَ كانُوا يُخْفُونَ الكُفْرَ، فَظَهَرَ لَهم وبالُهُ يَوْمَ القِيامَةِ. وقِيلَ: الكُفّارُ الَّذِينَ كانُوا إذا وعَظَهُمُ الرَّسُولُ، خافُوا، وأخْفَوْا ذَلِكَ الخَوْفَ؛ لِئَلّا يَشْعُرَ بِهِمْ أتْباعُهم، فَيَظْهَرُ ذَلِكَ لَهم يَوْمَ القِيامَةِ. وقِيلَ: اليَهُودُ والنَّصارى وسائِرُ الكُفّارِ، ويَكُونُ الَّذِي يُخْفُونَهُ نُبُوَّةَ مُحَمَّدٍ ﷺ، وأحْوالَهُ، والمَعْنى بَدا لَهم صِدْقُكَ في النُّبُوَّةِ وتَحْذِيرُكَ مِن عِقابِ اللَّهِ، وهَذِهِ الأقْوالُ عَلى أنَّ الضَّمِيرَ في (لَهم)، و(يُخْفُونَ) عائِدٌ عَلى جِنْسٍ واحِدٍ. وقِيلَ: الضَّمِيرُ مُخْتَلِفٌ؛ أيْ بَدا لِلْأتْباعِ ما كانَ الرُّؤَساءُ يُخْفُونَهُ عَنْهم مِنَ الفَسادِ. ورُوِيَ عَنِ الحَسَنِ نَحْوُ هَذا. وقِيلَ: بَدا لِمُشْرِكِي العَرَبِ ما كانَ أهْلُ الكِتابِ يُخْفُونَهُ عَنْهم مِنَ البَعْثِ، وأمْرِ النّارِ؛ لِأنَّهُ سَبَقَ ذِكْرُ أهْلِ الكِتابِ في قَوْلِهِ: ﴿الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الكِتابَ يَعْرِفُونَهُ﴾ [الأنعام: ٢٠] . وقِيلَ: ﴿بَلْ بَدا لَهُمْ﴾ أيْ لِبَعْضِهِمْ ما كانَ يُخْفِيهِ عَنْهُ بَعْضُهم، فَأطْلَقَ كُلًّا عَلى بَعْضٍ مَجازًا. وقالَ الزَّهْراوِيُّ: ويَصِحُّ أنْ يَكُونَ مَقْصُودُ الآيَةِ الإخْبارَ عَنْ هَوْلِ يَوْمِ القِيامَةِ، فَعَبَّرَ عَنْ ذَلِكَ بِأنَّهم ظَهَرَتْ (p-١٠٤)لَهم مَسْتُوراتُهم في الدُّنْيا مِن مَعاصٍ وغَيْرِها، فَكَيْفَ الظَّنُّ عَلى هَذا بِما كانُوا يُعْلِنُونَ بِهِ مِن كُفْرٍ ونَحْوِهِ، ويُنْظَرُ إلى هَذا التَّأْوِيلِ قَوْلُهُ تَعالى في تَعْظِيمِ شَأْنِ يَوْمِ القِيامَةِ ﴿يَوْمَ تُبْلى السَّرائِرُ﴾ [الطارق: ٩] . وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: ﴿ما كانُوا يُخْفُونَ﴾ مِنَ النّاسِ مِن قَبائِحِهِمْ وفَضائِحِهِمْ في صُحُفِهِمْ، وشَهادَةِ جَوارِحِهِمْ عَلَيْهِمْ، فَلِذَلِكَ تَمَنَّوْا ما تَمَنَّوْا ضَجَرًا، إلّا أنَّهم عازِمُونَ عَلى أنَّهم لَوْ رُدُّوا لَآمَنُوا انْتَهى. * * * ﴿ولَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ﴾ أيْ (ولَوْ رُدُّوا) إلى الدُّنْيا بَعْدَ وُقُوفِهِمْ عَلى النّارِ وتَمَنِّيهِمُ الرَّدَّ، لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ مِنَ الكُفْرِ. قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: والمَعاصِي انْتَهى. فَأدْرَجَ الفُسّاقَ الَّذِينَ لَمْ يَتُوبُوا في المَوْقُوفِينَ عَلى النّارِ المُتَمَنِّينَ الرَّدَّ عَلى مَذْهَبِهِ الِاعْتِزالِيِّ، وهَذِهِ الجُمْلَةُ إخْبارٌ عَنْ أمْرٍ لا يَكُونُ كَيْفَ كانَ يُؤْخَذُ، وهَذا النَّوْعُ مِمّا اسْتَأْثَرَ اللَّهُ بِعِلْمِهِ، فَإنْ أعْلَمَ بِشَيْءٍ مِنهُ، عُلِمَ، وإلّا لَمْ يُتَكَلَّمْ فِيهِ. قالَ ابْنُ القُشَيْرِيِّ: ﴿لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ﴾ ) مِنَ الشِّرْكِ، لِعِلْمِ اللَّهِ فِيهِمْ وإرادَتِهِ أنْ لا يُؤْمِنُوا في الدُّنْيا، وقَدْ عايَنَ إبْلِيسُ ما عايَنَ مِن آياتِ اللَّهِ ثُمَّ عانَدَ. وقالَ الواحِدِيُّ: هَذِهِ الآيَةُ مِنَ الأدِلَّةِ الظّاهِرَةِ عَلى المُعْتَزِلَةِ عَلى فَسادِ قَوْلِهِمْ، وذَلِكَ أنَّهُ تَعالى أخْبَرَ عَنْ قَوْمٍ جَرى عَلَيْهِمْ قَضاؤُهُ في الأزَلِ بِالشِّرْكِ، ثُمَّ بَيَّنَ أنَّهم لَوْ شاهَدُوا النّارَ والعَذابَ، ثُمَّ سَألُوا الرَّجْعَةَ ورُدُّوا إلى الدُّنْيا، لَعادُوا إلى الشِّرْكِ، وذَلِكَ لِلْقَضاءِ السّابِقِ فِيهِمْ، وإلّا فالعاقِلُ لا يَرْتابُ فِيما شاهَدَ انْتَهى. وأوْرَدَ هُنا سُؤالًا، وأظُنُّهُ لِلْمُعْتَزِلَةِ، وهو كَيْفَ يُمْكِنُ أنْ يُقالَ: ولَوْ رُدُّوا إلى الدُّنْيا لَعادُوا إلى الكُفْرِ بِاللَّهِ وإلى مَعْصِيَتِهِ وقَدْ عَرَفُوا اللَّهَ بِالضَّرُورَةِ وشاهَدُوا أنْواعَ العِقابِ ؟ وأجابَ القاضِي: بِأنَّ التَّقْدِيرَ، ولَوْ رُدُّوا إلى حالَةِ التَّكْلِيفِ، وإنَّما يَحْصُلُ الرَّدُّ إلى هَذِهِ الحالَةِ، لَوْ لَمْ يَحْصُلْ في القِيامَةِ مَعْرِفَةُ اللَّهِ بِالضَّرُورَةِ، ومُشاهَدَةُ الأهْوالِ وعَذابُ جَهَنَّمَ، فَهَذا الشَّرْطُ يَكُونُ مُضْمَرًا في الآيَةِ لا مَحالَةَ. وضُعِّفَ جَوابُ القاضِي، بِأنَّ المَقْصُودَ مِنَ الآيَةِ غُلُوُّهم في الإصْرارِ عَلى الكُفْرِ، وعَدَمِ الرَّغْبَةِ في الإيمانِ، ولَوْ قَدَّرْنا عَدَمَ مَعْرِفَةِ اللَّهِ في القِيامَةِ، وعَدَمَ مُشاهَدَةِ الأهْوالِ يَوْمَ القِيامَةِ، لَمْ يَكُنْ في إصْرارِ القَوْمِ عَلى كُفْرِهِمْ مَزِيدُ تَعَجُّبٍ؛ لِأنَّ إصْرارَهم عَلى الكُفْرِ يَجْرِي مَجْرى إصْرارِ سائِرِ الكُفّارِ عَلى الكُفْرِ في الدُّنْيا، فَعَلِمْنا أنَّ الشَّرْطَ الَّذِي ذَكَرَهُ القاضِي لا يُمْكِنُ اعْتِبارُهُ البَتَّةَ انْتَهى. وإنَّما المَعْنى (ولَوْ رُدُّوا)، وقَدْ عَرَفُوا اللَّهَ بِالضَّرُورَةِ، وعايَنُوا العَذابَ، وهم مُسْتَحْضِرُونَ ذَلِكَ، ذاكِرُونَ لَهُ، لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ مِنَ الكُفْرِ. وقَرَأ إبْراهِيمُ ويَحْيى بْنُ وثّابٍ والأعْمَشُ (ولَوْ رِدُّوا) بِكَسْرِ الرّاءِ، عَلى نَقْلِ حَرَكَةِ الدّالِ مِن (رَدِدَ) إلى الرّاءِ. (وإنَّهم لَكاذِبُونَ) . تَقَدَّمَ الكَلامُ عَلى هَذِهِ الجُمْلَةِ، وهَلِ التَّكْذِيبُ راجِعٌ إلى ما تَضَمَّنَتْهُ جُمْلَةُ التَّمَنِّي مِنَ الوَعْدِ بِالإيمانِ، أوْ ذَلِكَ إخْبارٌ مِنَ اللَّهِ تَعالى عَنْ عادَتِهِمْ ودَيْدَنِهِمْ وما هم عَلَيْهِ مِنَ الكَذِبِ في مُخاطَبَةِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَيَكُونُ ذَلِكَ مُنْقَطِعًا عَمّا قَبْلَهُ مِنَ الكَلامِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب