الباحث القرآني
ثم قال الله عز وجل: ﴿وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ﴾، (اللام) هنا موطِّئة للقسم ومؤكِّدة له، و(قد) للتحقيق، وهذا يرد في القرآن كثيرًا، وعلى هذا فالجملة تكون مؤكَّدة بثلاثة مؤكِّدات: قسم مُقدَّر، والثاني (اللام)، والثالث (قد).
﴿اسْتُهْزِئَ﴾ أي: سُخِرَ، بدليل قوله: ﴿فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ﴾، سخروا بهم، وقالوا: هذا رجل، ﴿أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ﴾ [الأنبياء ٣٦]، ﴿كُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ﴾ [هود ٣٨].
وقوله: ﴿بِرُسُلٍ﴾ نكرة في سياق الإثبات، لا تدل على العموم، أي: لا تدل على أن جميع الرسل سُخِرَ بهم، بل برسل.
واعلم أن النكرة في سياق الإثبات لا تدل على العموم إلا إذا قام الدليل على هذا، فإنها تكون للعموم، مثل قول الله تبارك وتعالى: ﴿عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ﴾ [ الانفطار ٥ ]، ﴿عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ﴾ [ التكوير ١٤ ]، فهنا ﴿نَفْسٌ﴾ نكرة في سياق الإثبات لكنها للعموم؛ إذ معنى الآية: علمت كل نفس.
﴿بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ﴾ أي: في الزمن.
﴿فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ﴾ أي: نزل بهم.
﴿مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ﴾ أي: عقوبة ما كانوا به يستهزئون، أو جزاء ما كانوا به يستهزئون، وإنما عبَّر الله تعالى عن الجزاء بالفعل؛ للإشارة إلى سببه من وجه، وليُعْلَم أن الجزاء بقدر العمل من وجه آخر، فالعقوبة سببها العمل الذي استحق به العامل أن يعاقَب، فأُطْلِق على العقوبة نفس العمل الذي هو السبب.
ثانيًا: إذا كان الإنسان يجازَى عمله، نفس العمل، فهذا يعني أن الجزاء أو العقوبة بقدر العمل، ﴿مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ﴾.
* في الآية الكريمة فوائد، منها: توكيد الجملة بأنواع المؤكِّدات.
فإذا قال قائل: أليس خبر الله تعالى صدقًا، سواء اقترن بالقسم وأدوات التوكيد أم لا؟
فالجواب: بلى، لكن القرآن الكريم جاء باللسان العربي، واللسان العربي يحسُن فيه التأكيد إذا اقتضت الحال ذلك، وإلا فمن المعلوم أن الله إذا أخبر بخبر وإن لم يؤكَّد فهو حق وصدق كما نشاهد الشمس، لكن القرآن بلسان عربي مبين، هذه واحدة.
ثانيًا: تأكيد الله له بالقسم يدل على أهميته، وأنه من الأمور التي لا بد أن يقبلها الإنسان ويصدِّق بها، واضح؟
ثالثًا: أنه قد يراد به دفع إنكار من أنكر مدلول الخبر، ككون الله عز وجل يؤكِّد قيام الساعة بالمؤكِّدات الكثيرة لرد إنكار المكذِّبين.
* ومن فوائد هذه الآية الكريمة: أنه ليس بغريب أن يستهزئ المشركون بالنبي ﷺ؛ لأن هذا قد سبق من الأمم السابقة، استهزاء المكذِّبين للرسول بأي شيء؟ بأمور متعددة: ﴿لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ﴾ [الزخرف ٣١]، كأنهم يقولون: محمد لا يستحق هذا، وكما في قولهم: ﴿أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ﴾ [الأنبياء ٣٦]، والاستفهام هنا للتحقير، يعني: من هذا الرجل الذي يذكر آلهتكم بالسوء! ليس بشيء، وليس له قيمة، ومنها وصفهم إياه بأنه مجنون مخرِّف، وما أشبه ذلك.
* ومن فوائد هذه الآية: عناية الله تبارك وتعالى بنبيه صلى الله عليه وعلى آله وسلم، حيث ينزل عليه من القرآن ما يسلِّيه به، وجهه؟ أن ذكر هذا -أعني استهزاء الأمم السابقة برسلها- تسلية لرسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم؛ لأن كونه يعلم بأن الأمم السابقة كذَّبت رسلها يهون عليه الأمر، أليس كذلك؟ وهذا واضح، فإن الإنسان يتسلَّى بالمصائب إذا أصابت غيره، وتهون عليه مصيبته، وقد أشار الله إلى هذا في قوله: ﴿وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ﴾ [الزخرف ٣٩ ]، مع أنه لو كان في الدنيا واشترك الناس في العذاب لهان عليهم ونفعهم، وحملهم على الصبر، لكن في القيامة لا ينفع.
* ومن فوائد هذه الآية الكريمة: تهديد المكذِّبين للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، من أين تؤخذ؟ ﴿فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ﴾، يعني: فاحذروا أيها المكذِّبون لمحمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم المستهزئون به.
* ومن فوائد الآية الكريمة: الإشارة إلى أنه لا رسول بعد محمد، انتبهوا، هل يمكن أن تؤخذ من الآية أو لا؟
* طالب: ما هو بواضح.
* الشيخ: الواقع أنه ليس بواضح؛ لأن: ﴿بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ﴾ هذا تسلية الإنسان بما مضى، ولا يمنع لو كان ممكنًا أن يوجد رسل آخرون بعد الرسول ﷺ، إذن ليس فيها دليل على هذا.
* ومن فوائد الآية الكريمة: أن السخرية والاستهزاء بالرسل موجِب للعقاب؛ لقوله: ﴿فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ﴾، ثم هل هذا العقاب عقاب على كفر أو على فسوق؟ الجواب: الأول؛ على كفر، فكل من سخر بالرسل أو استهزأ بهم فهو كافر، لا إشكال في هذا.
ولكن هل تُقبَل توبته؟
الجواب: نعم، تُقْبَل توبته؛ لعموم قول الله تبارك وتعالى: ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾ [الزمر ٥٣ ].
ودليل عقلي: أن سبَّ النبي إنما كان كفرًا؛ لنبوته لا لشخصيته، والنبوة والعمل بالشريعة التي جاءت بها من حقوق الله في الواقع، وحقوق الله تُقْبَل فيها التوبة بالاتفاق، فالصحيح أن مَن سَخِر بالنبي أو استهزأ به فإنه إذا تاب إلى الله توبة نصوحًا ارتفع عنه وصف الردة، وصار مسلمًا، وارتفع عنه القتل.
لكن إذا سبَّ الرسول فهل إذا تاب وقبلنا توبته ارتفع عنه القتل أو لا؟ فيه خلاف؛ فمن العلماء من قال: إنها تُقْبَل توبته، وذلك لأن سبَّ الرسول ليس سبًّا شخصيًّا، وإنما السب منصبٌّ أيش؟ على النبوة والرسالة، والنبوة والرسالة من حق الله، فتُقْبَل، فلا يُقْتَل ما دُمْنَا قبلنا توبته.
واختار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أنها تُقْبَل توبته، ولكنه يُقتَل حَدًّا، وعلل ذلك بأن سبَّ النبي عليه الصلاة والسلام عدوان على شخصه وعلى رسالته لا شك، فعلى رسالته نقول أيش؟ تُقبَل التوبة، وأما على شخصه فلا بد أن نثأر لنبينا ﷺ ونأخذ بالثأر ونقتله، فيتحتم قتل سابِّ الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم وإن قبلنا توبة الساب.
إذن ما الفائدة إذا قلنا: تُقْبَل توبته ويُقتَل؟ الفائدة: أنه يُقتَل مسلمًا، يُغَسَّل ويُكَفَّن ويصلَّى عليه، ويرثه أقاربه المسلمون، ويبقى على حكم الإسلام، بخلاف ما إذا قلنا: إنه مرتد، فلا يثبت له هذا الحكم.
فإن قال قائل: أليس قد وُجِد مَن سبَّ النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في حياته وتاب وقبل النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم توبته؟
فالجواب: بلى؛ لأن الحق له، فإذا عفا عنه فله الحق، هذا من جهة، من جهة أخرى: ترغيبًا له في التوبة رَفَع عنه القتل.
ثالثًا: أنه إذا تاب فسيكون من أصحاب النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وقد قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم حين استؤذن في قتل المنافقين: «لَا يَتَحَدَّثُ النَّاسُ أَنَّ مُحَمَّدًا يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ»[[متفق عليه؛ البخاري (٤٩٠٥)، ومسلم (٢٥٨٤ / ٦٣) من حديث جابر بن عبد الله.]]، أما بعد موته فكل هذه العلل منتفية، فيجب على أمته أن يقتلوا مَن سَبَّه عليه الصلاة والسلام.
* ومن فوائد الآية الكريمة: أن المعاصي سبب للعقوبة؛ لقوله: ﴿مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ﴾، وأن العقوبة بقدر العمل، ولذلك عُبِّرَ به عنها، وهذا من عدل الله عز وجل؛ أن العقوبة بقدر العمل، أما المثوبة فالحسنة بعشر أمثالها، إلى سبع مئة ضعف، إلى أضعاف كثيرة.
{"ayah":"وَلَقَدِ ٱسۡتُهۡزِئَ بِرُسُلࣲ مِّن قَبۡلِكَ فَحَاقَ بِٱلَّذِینَ سَخِرُوا۟ مِنۡهُم مَّا كَانُوا۟ بِهِۦ یَسۡتَهۡزِءُونَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق