الباحث القرآني

ثم بدأ الله عز وجل بقصص الأنبياء على وجه مختصر في هذه السورة، لكنه مؤثر تأثيرًا بالغًا، لو قرأتها بتمهل وتدبر لوجدت أنها مؤثرة جدًّا، كلمات مختصرة لكنها رادعة تمامًا: ﴿كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ﴾ [القمر ٩] ونوح هو أول الرسل، أول رسول أرسله الله إلى أهل الأرض هو نوح بدلالة القرآن والسنة؛ قال الله تبارك وتعالى: ﴿إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ﴾ [النساء ١٦٣]، وقال تعالى: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ﴾ [الحديد ٢٦]، وبهذا نعرف أن ما ذكره بعض المؤرخين من أن إدريس هو الجد لنوح كذب لا شك فيه، وليس قبل نوح رسول، حتى في حديث الشفاعة فيه التصريح أنه أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض، ولذلك كان من عقيدتنا أن أول الرسل نوح، وأن آخر الأنبياء محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وهو نبي رسول. ﴿كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ﴾ [القمر ٩] ولم يفصل الله عز وجل هذا التكذيب، لكنه أنزل في ذلك سورة تامة، وهي سورة نوح، فصل الله فيها تفصيلًا تامًّا في تكذيبهم وأخذهم. ﴿فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا﴾ [القمر ٩] وهو نوح، وصفه الله بالعبودية لأن العبودية أشرف ألقاب البشر، العبودية لله أشرف ألقاب البشر، وهي: التذلل له في الطاعة والإنابة والتوكل وغير ذلك، العبودية من حيث هي ثلاثة أنواع: عبودية عامة تشمل جميع الخلق، وهي التذلل للأمر الكوني؛ كقوله تبارك وتعالى: ﴿إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا﴾ [مريم ٩٣]، ﴿إِنْ كُلُّ﴾ يعني: ما كل من في السماوات والأرض إلا هذه حاله؛ أنه آتي الرحمن عبدًا، وهذه العبودية للأمر الكوني؛ لأن أمر الله عز وجل كوني ما يمكن أحد أن يفر منه مهما كانت قوته. النوع الثاني: العبودية الخاصة بالمؤمنين، مثل قول الله تعالى: ﴿وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا﴾ [الفرقان ٦٣] هذه عامة لكل مؤمن. الثالث: العبودية الخاصة بالأنبياء، وهذه مثل قوله تعالى: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا﴾ [الإسراء ١]، ﴿تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ﴾ [الفرقان ١]، ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ﴾ [الكهف ١]، ومن ذلك هذه الآية: ﴿فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا﴾ [القمر ٩]. وقد لبث فيهم نوح عليه الصلاة والسلام ألف سنة إلا خمسين عامًا يدعوهم إلى الله، لكنهم كلما دعاهم إلى الله ليغفر لهم جعلوا أصابعهم في آذانهم حتى لا يسمعوا قوله، واستغشوا ثيابهم حتى لا يروه، واستكبروا استكبارًا، ولا أبلغ من هذا الاستكبار؛ أن يضع الإنسان يده في أذنيه حتى لا يسمع قول الداعي، وأن يستغشي ثوبه فيتغطى به حتى لا يراه. قوله: ﴿وَقَالُوا مَجْنُونٌ﴾ [القمر ٩] المجنون: فاقد العقل، الذي يهذي بما لا يدري. قالوا: إنه مجنون، هذه القولة قيلت لكل الرسل، قال الله تعالى: ﴿كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ﴾ [الذاريات ٥٢] و(أو) هنا إما للتنويع، يعني بعضهم يقول: ساحر، وبعضهم يقول: مجنون، أو أنهم يقولون هذا وهذا، وعلى كل حال فأولًا نوح قيل له: إنه مجنون. ﴿وَازْدُجِرَ﴾ [القمر ٩] ازدجر يعني زجر زجرًا شديدًا، والزجر: هو النهر بشدة وعنف، والدال هنا منقلبة عن تاء، وقد قال العلماء: إن زيادة المبنى يدل على زيادة المعنى، والمعنى أنه زجرٌ شديدٌ، وقوله: ﴿وَازْدُجِرَ﴾ ينبغي ألا توصل بما قبلها؛ لأنك لو وصلت وقلت: ﴿وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ﴾ لتوهم السامع أنهم يقولون: مجنون وازدجر يعني: زجره غيره، لكن لا، المعنى خلاف ذلك، فكذبوا عبدنا وازدجر هذا المعنى، كذبوا وازدجر. إذن الأولى أن تقف: ﴿وَقَالُوا مَجْنُونٌ﴾ ثم تصل وتقول: ﴿وَازْدُجِرَ﴾ فيكون هنا لم يقتصر هؤلاء المكذبون على أن كذبوا، بل كذبوا وزجروا وتوعدوا وسخروا.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب