الباحث القرآني
﴿كَذَّبَتْ قَبْلَهم قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنا وقالُوا مَجْنُونٌ وازْدُجِرَ﴾ اسْتِئْنافٌ بَيانِيٌّ ناشِئٌ عَنْ قَوْلِهِ ﴿ولَقَدْ جاءَهم مِنَ الأنْباءِ ما فِيهِ مُزْدَجَرٌ﴾ [القمر: ٤] فَإنَّ مِن أشْهَرِها تَكْذِيبَ قَوْمِ نُوحٍ رَسُولَهم، وسَبَقَ الإنْباءُ بِهِ في القُرْآنِ في السُّوَرِ النّازِلَةِ قَبْلَ هَذِهِ السُّورَةِ. والخَبَرُ مُسْتَعْمَلٌ في التَّذْكِيرِ ولْيُفَرِّعْ عَلَيْهِ ما بَعْدَهُ. فالمَقْصُودُ النَّعْيُ عَلَيْهِمْ عَدَمَ ازْدِجارِهِمْ بِما جاءَهم مِنَ الأنْباءِ بِتِعْدادِ بَعْضِ المُهِمِّ مِن تِلْكَ الأنْباءِ.
وفائِدَةُ ذِكْرِ الظَّرْفِ قَبْلَهم تَقْرِيرُ تَسْلِيَةٍ لِلنَّبِيءِ ﷺ، أيْ أنَّ هَذِهِ شَنْشَنَةُ أهْلِ الضَّلالِ كَقَوْلِهِ تَعالى ﴿وإنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِن قَبْلِكَ﴾ [فاطر: ٤] ألا تَرى أنَّهُ ذَكَرَ في تِلْكَ الآيَةِ قَوْلَهُ مِن قَبْلِكَ نَظِيرَ ما هُنا مَعَ ما في ذَلِكَ مِنَ التَّعْرِيضِ بِأنَّ هَؤُلاءِ مُعْرِضُونَ.
واعْلَمْ أنَّهُ يُقالُ: كَذَّبَ، إذا قالَ قَوْلًا يَدُلُّ عَلى التَّكْذِيبِ، ويُقالُ كَذَّبَ أيْضًا، إذا اعْتَقَدَ أنَّ غَيْرَهُ كاذِبٌ قالَ تَعالى ﴿فَإنَّهم لا يُكَذِّبُونَكَ﴾ [الأنعام: ٣٣] في قِراءَةِ الجُمْهُورِ بِتَشْدِيدِ الذّالِ، والمَعْنَيانِ مُحْتَمَلانِ هُنا، فَإنْ كانَ فِعْلُ كَذَّبَتْ هُنا مُسْتَعْمَلًا (p-١٨٠)فِي مَعْنى القَوْلِ بِالتَّكْذِيبِ، فَإنَّ قَوْمَ نُوحٍ شافَهُوا نُوحًا بِأنَّهُ كاذِبٌ، وإنْ كانَ مُسْتَعْمَلًا في اعْتِقادِهِمْ كَذِبَهُ، فَقَدْ دَلَّ عَلى اعْتِقادِهِمْ إعْراضُهم عَنْ إنْذارِهِ وإهْمالُهُمُ الِانْضِواءَ إلَيْهِ عِنْدَما أنْذَرَهم بِالطُّوفانِ.
وعُرِّفَ (قَوْمُ نُوحٍ) بِالإضافَةِ إلى اسْمِهِ إذْ لَمْ تَكُنْ لِلْأُمَّةِ في زَمَنِ نُوحٍ اسْمٌ يُعْرَفُونَ بِهِ.
وأُسْنِدَ التَّكْذِيبُ إلى جَمِيعِ القَوْمِ لِأنَّ الَّذِينَ صَدَّقُوهُ عَدَدٌ قَلِيلٌ، فَإنَّهُ ما آمَنَ بِهِ إلّا قَلِيلٌ كَما تَقَدَّمَ في سُورَةِ هُودٍ.
والفاءُ في قَوْلِهِ ﴿فَكَذَّبُوا عَبْدَنا﴾ لِتَفْرِيعِ الإخْبارِ بِتَفْصِيلِ تَكْذِيبِهِمْ إيّاهُ بِأنَّهم قالُوا ﴿مَجْنُونٌ وازْدُجِرَ﴾، عَلى الإخْبارِ بِأنَّهم كَذَّبُوهُ عَلى الإجْمالِ، وإنَّما جِيءَ بِهَذا الأُسْلُوبِ، لِأنَّهُ لَمّا كانَ المَقْصُودُ مِنَ الخَبَرِ الأوَّلِ تَسْلِيَةَ الرَّسُولِ ﷺ فَرَّعَ عَلَيْهِ الإخْبارَ بِحُصُولِ المُشابِهَةِ بَيْنَ تَكْذِيبِ قَوْمِ نُوحٍ رَسُولَهم وتَكْذِيبِ المُشْرِكِينَ مُحَمَّدًا ﷺ في أنَّهُ تَكْذِيبٌ لِمَن أرْسَلَهُ اللَّهُ واصْطَفاهُ بِالعُبُودِيَّةِ الخاصَّةِ، وفي أنَّهُ تَكْذِيبٌ مَشُوبٌ بِبُهْتانٍ إذْ قالَ كِلا الفَرِيقَيْنِ لِرَسُولِهِ: مَجْنُونٌ، ومَشُوبٌ بِبَذاءَةٍ إذْ آذى كِلا الفَرِيقَيْنِ رَسُولَهم وازْدَجَرُوهُ. فَمَحَلُّ التَّفْرِيعِ هو وصْفُ نُوحٍ بِعُبُودِيَّةِ اللَّهِ تَكْرِيمًا لَهُ، والإخْبارُ عَنْ قَوْمِهِ بِأنَّهُمُ افْتَرَوْا عَلَيْهِ وصْفَهُ بِالجُنُونِ، واعْتَدَوْا عَلَيْهِ بِالأذى والِازْدِجارِ. فَأصْلُ تَرْكِيبِ الكَلامِ: كَذَّبَتْ قَبْلَهم قَوْمُ نُوحٍ فَقالُوا: مَجْنُونٌ وازْدُجِرَ. ولَمّا أُرِيدُ الإيماءُ إلى تَسْلِيَةِ الرَّسُولِ ﷺ ابْتِداءً جَعَلَ ما بَعْدَ التَّسْلِيَةِ مُفَرَّعًا بِفاءِ التَّفْرِيعِ لِيَظْهَرَ قَصْدُ اسْتِقْلالِ ما قَبْلَهُ ولَوْلا ذَلِكَ لَكانَ الكَلامُ غَنِيًّا عَنِ الفاءِ إذْ كانَ يَقُولُ: كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ عَبْدَنا.
وأُعِيدَ فِعْلُ كَذَّبُوا لِإفادَةِ تَوْكِيدِ التَّكْذِيبِ، أيْ هو تَكْذِيبٌ قَوِيٌّ كَقَوْلِهِ تَعالى ﴿وإذا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبّارِينَ﴾ [الشعراء: ١٣٠] وقَوْلِهِ ﴿رَبَّنا هَؤُلاءِ الَّذِينَ أغْوَيْنا أغْوَيْناهم كَما غَوَيْنا﴾ [القصص: ٦٣]، وقَوْلِ الأحْوَصِ:
؎فَإذا تَزُولُ تَزُولُ عَنْ مُتَخَمِّطٍ تُخْشى بَوادِرُهُ عَلى الأقْرانِ
وقَدْ نَبَّهَ عَلى ذَلِكَ ابْنُ جِنِّي في إعْرابِ هَذا البَيْتِ مِن دِيوانِ الحَماسَةِ، وذَكَرَ أنَّ أبا عَلِيٍّ الفارِسِيَّ نَحا غَيْرَ هَذا الوَجْهِ ولَمْ يُبَيِّنْهُ.
(p-١٨١)وحاصِلُ نَظْمِ الكَلامِ يَرْجِعُ إلى مَعْنى: أنَّهُ حَصَلَ فِعْلٌ فَكانَ حُصُولُهُ عَلى صِفَةٍ خاصَّةٍ أوْ طَرِيقَةٍ خاصَّةٍ.
ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ فِعْلُ كَذَّبَتْ مُسْتَعْمَلًا في مَعْنى: إنَّهُمُ اعْتَقَدُوا كَذِبَهُ، فَتَفْرِيعُ كَذَّبُوا عَبْدَنا عَلَيْهِ تَفْرِيعُ تَصْرِيحِهِمْ بِتَكْذِيبِهِ عَلى اعْتِقادِهِمْ كَذِبَهُ. فَيَكُونُ فِعْلُ كَذَّبُوا مُسْتَعْمَلًا في مَعْنًى غَيْرِ الَّذِي اسْتُعْمِلَ فِيهِ فِعْلُ كَذَّبَتْ، والتَّفْرِيعُ ظاهِرٌ عَلى هَذا الوَجْهِ.
وهَذا الوَجْهُ يَتَأتّى في قَوْلِهِ تَعالى ﴿وكَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وما بَلَغُوا مِعْشارَ ما آتَيْناهم فَكَذَّبُوا رُسُلِي﴾ [سبإ: ٤٥] في سُورَةِ سَبَأٍ.
ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ قَوْلُهُ ﴿كَذَّبَتْ قَبْلَهم قَوْمُ نُوحٍ﴾ إخْبارًا عَنْ تَكْذِيبِهِمْ بِتَفَرُّدِ اللَّهِ بِالإلَهِيَّةِ حِينَ تَلَقَّوْهُ مِنَ الأنْبِياءِ الَّذِينَ كانُوا قَبْلَ نُوحٍ ولَمْ يَكُنْ قَبْلَهُ رَسُولٌ، وعَلى هَذا الوَجْهِ يَكُونُ التَّفْرِيعُ ظاهِرًا.
وازْدُجِرَ مَعْطُوفٌ عَلى قالُوا وهو افْتَعَلَ مِنَ الزَّجْرِ. وصِيغَةُ الِافْتِعالِ هُنا لِلْمُبالَغَةِ مِثْلُها: افْتَقَرَ واضْطُرَّ.
ونُكْتَةُ بِناءِ الفِعْلِ لِلْمَجْهُولِ هُنا التَّوَصُّلُ إلى حَذْفِ ما يُسْنَدُ إلَيْهِ فِعْلُ الِازْدِجارِ المَبْنِيُّ لِلْفاعِلِ وهو ضَمِيرُ قَوْمِ نُوحٍ، فَعَدَلَ عَنْ أنْ يُقالَ: وازْدَجَرُوهُ، إلى قَوْلِهِ وازْدُجِرَ مُحاشاةً لِلدّالِّ عَلى ذاتِ نُوحٍ وهو ضَمِيرٌ مِن أنْ يَقَعَ مَفْعُولًا لِضَمِيرِهِمْ. ومُرادُهم أنَّهُمُ ازْدَجَرُوهُ، أيْ نَهَوْهُ عَنِ ادِّعاءِ الرِّسالَةِ بِغِلْظَةٍ قالَ تَعالى ﴿قالَ المَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَوْمِهِ إنّا لَنَراكَ في سَفاهَةٍ وإنّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الكاذِبِينَ﴾ [الأعراف: ٦٦] وقالُوا ﴿لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ المَرْجُومِينَ﴾ [الشعراء: ١١٦] وقالَ ﴿وكُلَّما مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِن قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنهُ﴾ [هود: ٣٨] .
{"ayah":"۞ كَذَّبَتۡ قَبۡلَهُمۡ قَوۡمُ نُوحࣲ فَكَذَّبُوا۟ عَبۡدَنَا وَقَالُوا۟ مَجۡنُونࣱ وَٱزۡدُجِرَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق